جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 31 أكتوبر 2018

(59)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ


                  
                فوائد ومسائل من دروس تفسير ابن كثير

                         [سورة الأنبياء34-35]



قال تعالى:﴿وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)﴾.



قال ابن كثير رَحِمَهُ الله: ﴿وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ أَيْ يَا مُحَمَّدُ.

 ﴿الْخُلْدَ﴾ أَيْ:فِي الدُّنْيَا بَلْ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ﴾ [الرَّحْمَنِ: 26- 27]وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ وَلَيْسَ بِحَيٍّ إِلَى الْآنِ، لِأَنَّهُ بَشَرٌ سَوَاءٌ كَانَ وَلِيًّا أَوْ نِبِيًّا أَوْ رَسُولًا.وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾[الكهف:82].

 وَقَوْلُهُ:﴿أَفَإِنْ مِتَّ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ .

﴿فَهُمُ الْخالِدُونَ﴾ أَيْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يَعِيشُوا بَعْدَكَ لَا يكون هذا بل كلٌّ إلى الفناء، ولهذا قال تعالى:﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ﴾.

وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ أَيْ نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى، فننظر مَنْ يَشْكُرُ وَمَنْ يَكْفُرُ، وَمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَقْنَطُ.

﴿وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ أي فنجازيكم بأعمالكم. اهـ.



من الفوائد المستنبَطَة:



·     الرد على المكذبين المعاندين الذين ينتظرون موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،كما قال تعالى:﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)﴾[الطور:30]. ﴿نَتَرَبَّصُ﴾ أي:ننتظر.

 فالله عز وجل يرد عليهم بأن  الموت سنَّتُه في خلقه من الرسل والملائكة والصالحين والجن والإنس وغيرهم،وإنما هذا يتقدم وهذا يتأخر،أنتم السابقون ونحن اللاحقون.



فلا بُدَّ لكلِّ نفسٍ من تجرُّع  مرارتِه،ثم المصير إلى حُفرة القبر،في جوف الأرض وبطنها،بعد أن كان على ظهرِها كما قال تعالى:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) [المرسلات]،وقال تعالى:﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)﴾[طه].

إنها لحفرةٌ مُظلمة،وحفرة ضيقة،ومنظر فظيع لا ينيره ويوسِّعه إلا الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.

روى الترمذي(2308) عن هَانِئٍ، مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ، إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ.



·     الاستعداد  لدار الآخرة بالعمل الصالح والتوبة إلى الله والرجوع إليه فإن هذا الموت ليس هو النهاية،إنَّما هو للانتقال إلى الدار الآخرة،فالأمد قريب،وزاد الرحيل قليل.



وقد خفِي علينا الساعة التي يأتي فيها الموت لأجل الاستعداد طول الحياة  وعدم التواني،فاللهم نسألُك حُسنَ الخواتيم.

·     دليلٌ على أن الخضر عليه الصلاة والسلام قد مات وليس بحيٍّ الآن.



·     ابتلاء العباد بالشر والخير اختبارًا وابتلاءً فالله عز وجل يبتلي بالنعم والسراء والرخاء والمال والعافية والولد لينظر سبحانه من يصبر على النعمة ويشكر، ويبتلى سبحانه بالشر والمصائب والشدة والفقر والنقص والأمراض لينظر سبحانه  من يقنط ويكفر ويُفتن-وهو أعلم بذلك-، كما قال تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾[الحج:11].

·     الإيمان بالرجوع إلى الله،وهذا هو البعث والنشور فمرجع الناس إلى الله سبحانه وتعالى ومردهم إلى ربهم وسيجازيهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾[الزلزلة].

الاثنين، 29 أكتوبر 2018

(133)الاخْتِيَارَاتُ العِلْمِيَّةُ لوالدي الشيخ مقبل رحمه الله


                   مِنْ فقه والدي رحمه الله



                    حديث الخط أمام المصلِّي



الخط لا يكون سترة.

وأما حديث الخط الذي رواه  حُرَيْث،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخْطُطْ خَطًّا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ»[رواه أبوداود(690)].


 هذا الحديث يقول ابن الصلاح: إنه مضطربٌ، والحافظ ابن حجر يقول: إنه ليس مضطرب.

وقد كان سفيان بن عيينة إذا حدث بهذا الحديث يلتفت إلى جلسائه ويقول: هل عندكم ما  تشدون به هذا.


فالحديث ضعيف،إما من أجل الاضطراب



استفدته وقيَّدته من/دروس والدي رحمه الله.



-----------------------------

أو من أجل أن راويه مجهول.يعني حُريث العُذري.

وحفيده الراوي عنه هذا الحديث وهوأبو عمرو بن محمد بن حُريث، أو ابنُ محمد بن عمرو بن حُريث، وقيل: أبو محمد بن عمرو بن حُريث: مجهولٌ.كما في تقريب التهذيب.

وذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ترجمة حريث أوجه الاضطراب فيه.

وذكر عن الدارقطني أنه قال عن هذا الحديث: لا يصح ولا يثبت ،وقال ابن عيينة لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث ولم يجيء إلا من هذا الوجه،وقال الطحاوي: راويه مجهول.

 وقال الخطابي عن أحمد: حديث الخط ضعيف.وزعم ابن عبد البر أن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني صححاه.

وقال الشافعي في سنن حرملة: لا يخط المصلي خطا إلا أن يكون ذلك في حديث ثابت يُتَّبع.

كتب ورسائل والدي الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله.

كتاب «الإلزامات والتتبع»

لوالدي الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى.

لتحميل الكتاب اضغط هنا.

السبت، 27 أكتوبر 2018

(1) مِنْ أحكامِ الصلاة


              
                  حكم الجمع بين الصلاتين للمريض


يجوز الجمع بين الصلاتين للمريض،سواء كان جمعَ تقديمٍ أو تأخير كالمسافر.لقول الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].وما في معنى ذلك من أدلة التيسير ورفع الحرج والمشقة.

ولِما روى مسلم (705)عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما«جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ».
فإنه إذا كان يدل على جواز الجمع في الخوف والمطر،وكذا في الحضر للحاجة من غير اتخاذه عادة كما هو قول جماعة من العلماء(**)فيجوز للمريض مِنْ باب أولى. 



قال الترمذي رحمه الله في سننه(188):وَرَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ التَّابِعِينَ فِي الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْمَرِيضِ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.

وقال ابن قدامة في المغني(2/204):وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْمَرَضِ،وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ.

 وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ أَخْبَارَ التَّوْقِيتِ ثَابِتَةٌ، فَلَا تُتْرَكُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ.


ثم أجاب ابن قدامة عن حجة أصحاب الرأي وهم الحنفية والشافعي بأنها عامَّة مخصوصة.

ولهم حجة أخرى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرِضَ أَمْرَاضًا كَثِيرَةً وَلَمْ يُنْقَلْ جَمْعُهُ بِالْمَرَضِ صَرِيحًا.كما في المجموع(4/384)للنووي.



الحاصل مما تقدم:

جواز الجمع بين الصلاتين للمريض عند وجود المشقة لِما تقدم من الأدلة.

وهذا قول عطاء ومالك وأحمد وبعض الشافعية .

قال النووي رحمه الله في المجموع(4/383):وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ.قُلْتُ-أي النووي-:وَهَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ جِدًّا واستدل له بحديث ابن عباس المتقدم،ولأن حَاجَةَ الْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ آكَدُ مِنْ الْمَمْطُورِ.اهـ


وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى(22/292)فقد قال:الْقَصْرُ سَبَبُهُ السَّفَرُ خَاصَّةً لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ.

 وَأَمَّا الْجَمْعُ فَسَبَبُهُ الْحَاجَةُ وَالْعُذْرُ فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهِ جَمَعَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ،وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ وَنَحْوِهِ وَلِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ،فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ.اهـ



وبعد ذلك علينا أن نفهمَ المرض المبيح للجمع بين الصلاتين.


 قال ابن قدامة في المغني(2/205): وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا يَلْحَقهُ بِهِ بِتَأْدِيَةِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ.

 قَالَ الْأَثْرَمُ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْمَرِيضُ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؟ فَقَالَ: إنِّي لِأَرْجُوَ لَهُ ذَلِكَ إذَا ضَعُفَ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.اهـ


علِمْنا مما تقدم: أنه إذا وجِدَ مشقة على المريض في  أداءِ كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الصلاتين تقديمًا أو تأخيرًا.وبالله التوفيق.


(**)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (تحت رقم 543)في شرح حديث ابن عباس:وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَجَوَّزُوا الْجَمْعَ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مُطْلَقًا،لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً.

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابن سِيرِين وَرَبِيعَة وَأَشْهَب وابن الْمُنْذِرِ وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.

الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

(5) القرآنُ وعلومُه


          
               حكمُ الحلِف بالمصحف



إذا حلف  وقال:والمصحف.

إن أراد الحلف بالقرآن فهذا جائز لأن القرآن كلامُ الله

وكلامُ الله صفة من صفاته.


قال ابن قدامة رحمه الله في المغني(9/55):وَإِنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ،انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ.وَكَانَ قَتَادَةُ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ.وَلَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إمَامُنَا، وَإِسْحَاقُ، لِأَنَّ الْحَالِفَ بِالْمُصْحَفِ إنَّمَا قَصَدَ الْحَلِفَ بِالْمَكْتُوبِ فِيهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.اهـ

أمَّا إذا حلف بالمصحف وهو يقصدُ الحبر والأوراق..

فهذا لا يجوز،لأن الحبر والأوراق من المخلوقات،وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» أخرجه البخاري (2679)،ومسلم (1646) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

وهذا معنى ما ذكره الشيخ ابن عُثيمين رحمه الله في مجموع الفتاوى(2/214).



ثم نبَّه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله على شيء مهم فقال:
 الأولى للإنسان أن يحلف بما لا يشوِّش على السامعين بأن يحلف باسم الله عز وجل فيقول: والله، ورب الكعبة، أو والذي نفسي بيده وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا تستنكرها العامة ولا يحصل لديهم فيها تشويش، فإن تحديث الناس بما يعرفون وتطمئن إليه قلوبهم خير وأولى.اهـ


الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

(58)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ






                  فوائد ومسائل من دروس تفسير ابن كثير
                  [آياتٌ من سورة الأنبياء 30-33]

﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)﴾.

﴿ أَوَلَمْ يَرَ﴾ أي: أولم يعلم.

﴿كانَتا﴾ بضمير التثنية،مع أن السموات سبعٌ والأرضين سبع؛ لأن المراد نوع السموات ونوع الأرض، كما قال تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) ﴾[فاطر : 41]،ونقل الشوكاني في «فتح القدير» (3/ 478) عن الزجاج: إِنَّمَا قَالَ: كَانَتَا لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنِ السَّمَاوَاتِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ سَمَاءً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ الْأَرَضُونَ. اهـ.

* ﴿ رَتْقًا﴾ متلاصقة،ولم يقل سبحانه: رتقين كما أتى بضمير التثنية،وقد أجاب الشوكاني عنه في «فتح القدير» (3/ 478)وقال:لَمْ يَقُلْ رَتْقَيْنِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَانَتَا ذَوَاتِي رَتْقٍ. اهـ.

* ﴿فَفَتَقْناهُما﴾ الفتق :الفصل أي: فصلنا بعضها من بعض، واختلف المفسرون على أقوالٍ في المراد بالآية:

فمنهم من قال: كانت السموات والأرض متلاصقة بعضها ببعض،فهي عبارة عن طبقة واحدة ففصلها الله عز وجل ورفع السموات وجعلها سبعًا ،وكل اثنتين جعل بينهما فصلا، وأبقى الأرض مكانها وفصل بين كل اثنتين ، فكانت السموات سبعًا والأرض سبعًا،وهذا ظاهر كلام ابن كثير رحمه الله في تفسيره.


ومنهم من قال:لم تكن السموات مماسة للأرض ولكن كانت السموات سماء واحدة وكانت الأرضون أرضًا واحدة،ففُصِلت السماوات وجُعلت سبعًا وفُصِلت الأرض وجعلت سبعًا.

ومنهم من قال:المراد﴿كانَتا رَتْقًاأي: كانت السماء ليس فيها سحاب ولا مطر وكانت الأرض هامدة ميتة ليس فيها نبات ففتقها الله أي: فتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات، كما قال تعالى:﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)﴾[الطارق: 12] الرجع: المطر.والصدع: أي الشقوق تنشق بالنبات.

وهذا القول اختاره ابن جرير وابن عطية ثم الشنقيطي في «أضواء البيان».

قال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره (4/ 141): وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبِلَهُ، أَيْ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ بِفَتِقِنَا السَّمَاءَ، وَأَنْبَتْنَا بِهِ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ بِفَتِقِنَا الْأَرْضَ - كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. اهـ.

﴿وَجَعَلْنا من الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أي: خلقنا.
 ﴿مِنَ الْماءِ﴾ فيه قولان للمفسرين:

أحدهما: تفسير الماء بالنطفة وهذا القول عزاه الشوكاني في «فتح القدير» إلى كثير المفسرين .

القول الثاني: أنه الماء المعروف،وعلى هذا التفسير يكون المعنى أشمل، لأنه يشمل الحيوان والنبات .


﴿وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)﴾

﴿ رَواسِيَ﴾ أَيْ جِبَالًا أَرْسَى الْأَرْضَ بِهَا وَقَرَّرَهَا وَثَقَّلَهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِالنَّاسِ، أَيْ تَضْطَرِبَ وَتَتَحَرَّكَ، فَلَا يحصل لهم قرار عليها لِأَنَّهَا غَامِرَةٌ فِي الْمَاءِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ. فَإِنَّهُ بَادٍ «لِلْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ» وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ﴾ أَيْ لِئَلَّا تَمِيدَ بِهِمْ. كما في تفسير ابن كثير.

وهذا من الأدلة أن الأرض ثابتة لا تدور،التي تتحرك وتدور هي الشمس ،كما قال الله تعالى:﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)﴾[ يس: 38].



وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا﴾ الضمير ﴿فِيها﴾ محتمل أنه عائد إلى الجبال، ومحتمل أنه عائد إلى الأرض، قال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» (3/ 479) : ﴿وَجَعَلْنا فِيها﴾ أَيْ: فِي الرَّوَاسِي، أَوْ فِي الْأَرْضِ فِجاجًا. اهـ. 

﴿فِجاجاً سُبُلًا﴾ الطريق الواسع.

﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾لعل هنا حرف تعليل أي: كي يهتدوا .قال الشوكاني رحمه الله في«فتح القدير»(3/ 479):أي يهتدون إِلَى مَصَالِحَ مَعَاشِهِمْ،وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَاتُهُمْ.



وَقَوْلُهُ:﴿وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظًا﴾ «أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَالْقُبَّةِ عَلَيْهَا» قاله ابن كثير رَحِمَهُ الله.

*﴿وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً﴾ كما قال تعالى ﴿ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)﴾[الطور:5]

*﴿ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ حفظ السماء على أنواع:

مَحْفُوظٌ مِنَ السُّقُوطِ  قال تعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وقال:﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾  وَقَوْلِهِ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾. إِذْ لَوْ كُنَّا نَغْفُلُ لَسَقَطَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ فَأَهْلَكَتْهُمْ.



مَحْفُوظٌ مِنَ التَّشَقُّقِ وَالتَّفَطُّرِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ كَسَائِرِ السُّقُوفِ إِذَا طَالَ زَمَنُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾  وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾  أَيْ: لَيْسَ فِيهَا مِنْ شُقُوقٍ، وَلَا صُدُوعٍ.



مَحْفُوظٌ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، كَقَوْلِهِ:﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾[المرجع تفسير الشنقيطي-سورة الأنبياء].

........................................................................



﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)﴾


*﴿وَكُلٌّ﴾ التنوين في كل عوضٌ عن اسم محذوف.

 ﴿فِي فَلَكٍ﴾ الفلَك الشيء المستدير.

﴿يَسْبَحُونَ﴾أَيْ «يَدُورُونَ».

ولم يقل سبحانه:يسبح وقد أجاب عن ذلك البغوي في تفسيره فقال (3/ 287):وَإِنَّمَا قَالَ:﴿يَسْبَحُونَ﴾،وَلَمْ يَقُلْ يَسْبَحُ عَلَى مَا يُقَالُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَنْهَا فِعْلَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْجَرْيِ وَالسَّبْحِ، فَذُكِرَ عَلَى مَا يَعْقِلُ. اهـ.

وبعضهم قال: عبَّر بذلك لأنها نُزِّلَت منزلة من يعقل من حيث الانقياد لله عَزَّ وَجَل هذا معنى ما قاله سيبويه .

في هذه الآيات الكريمات

1- تذكير الله سبحانه وتعالى العباد بقدرته وكمال عظمته الدالة على توحيده سبحانه.

2-  توبيخ وتقريع المشركين الذين يعبدون غير الله،ألا يتدبرون في هذه الآيات الكونية الدالة على توحيد الله سبحانه فإنها آيات عظام.

3- فتق السموات والأرض بعضها عن بعض.

4- أن الماء سبب للحياة فلا حياة بدون الماء.

5- خلق الجبال قرارًا للأرض وتثبيتًا لها حتى لا تميد وتتحرك.

6- وجود طرق واسعة في الجبال أو في الأرض على أحد التفسيرين ليسلك فيها الناس إلى بلدان وأقطار أخرى

7-أن السماء سقفٌ محفوظ .

8- خلق الليل والنهار والشمس والقمر.

هذه عدة آيات كونية ذكرها الله سبحانه وتعالى ممتنًا على عباده بها وتذكيرًا لهم بكمال عظمته، وكمال قدرته الدالة على توحيده سبحانه فكيف يليق أن يُشرك به وأن يُعبد معه غيره.

الخميس، 18 أكتوبر 2018

(17)أَوصَافُ طالبِ العلمِ الشرعِي


               
              الإصغاء للمعلِّم حتى يفرُغَ من كلامه



قال تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)}[القيامة].



قال ابن القيم رحمه الله في التبيان في أقسام القرآن(160)عن هذه الآيات:تضمنت التأني والتثبت في تلقي العلم،وأن لا يحمل السامع شدة محبته وحرصه وطلبه على مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه.

بل من آداب الرب التي أدب بها نبيه أمْرُه بترك الاستعجال على تلقي الوحي،بل يصبر إلى أن يفرغ جبريل من قراءته ثم يقرأه بعد فراغه عليه.

فهكذا ينبغي لطالب العلم ولسامعه أن يصبر على معلمه حتى يقضي كلامه ثم يعيده عليه،أو يسأل عما أشكل عليه منه ولا يبادره قبل فراغه .اهـ

وهذا مِنْ آداب التلقِّي،ومن آداب الطالبِ مع معلِّمِه.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:وَمَتَى أَشْكَلَ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى الطَّالِبِ صَبَرَ حَتَّى يَنْتَهِي الْحَدِيثُ،ثُمَّ يَسْتَفْهِمُ الشَّيْخَ بِأَدَبٍ وَلُطْفٍ وَلَا يَقْطَعْ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ الْحَدِيثِ.كذا في الآداب الشرعية(2/170)لابن مفلح رحمه الله.



وهكذا لا ينبغي المشاركة في الكلام لِمَن كان يعرفه مِنْ غير حاجة،وقد قيل:

وَلَا تُشَارِكْ فِي الْحَدِيثِ أَهْلَهُ .. وَإِنْ عَرَفْت فَرْعَهُ وَأَصْلَهُ

إلا إذا علِمَ من معلِّمه الرغبة في الكلام.

كما روى البخاري(314)،ومسلم(332) عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنَ المَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، قَالَ: «خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بِهَا» قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ: «تَطَهَّرِي بِهَا»، قَالَتْ: كَيْفَ؟، قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِي» فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.

وفي روايةِ مسلم:قَالَ:«تَطَهَّرِي بِهَا سُبْحَانَ اللهِ» وَاسْتَتَرَ.

قال الحافظ في فتح الباري(تحت رقم 314):فيه تفسير كلام العالم بحضرته لِمَن خفي عليه إذا عُرِف أَنَّ ذلك يعجبُه.



استفدنا مما تقدَّم  أنَّ من الأخطاء:


مقاطعة الكلام قبل الفراغ منه،وأنه مِنَ العجلة المذمومة.

المشاركة في الكلام سواء بإضافة زيادة،أوطيشٍ مِن بعضهم يحمله على السُّرعة والعجلة،مع أنه لوبقي صامتًا لسمعه فيما بعد.


وهذا يقع فيه بعض المبتدئين من أهل الطيش والخِفَّة والحماس.
وقد يكون حُبًّا للظهور والشهرة،وقد قيل:حُبُّ الظُّهور يقصم الظُّهور.والله أعلم.



واستفدنا:

أنه لا بأس بمشاركة الطالبِ الحاذقِ المُعَلِّمَ في الكلام لمصلحة الحاضرين إذا عَرف من شيخه أنه يعجبه التعاون معه.








الأحد، 14 أكتوبر 2018

(17)الحديثُ وعلومُه


                              
                             الدرس الثالث

                                الضعيف

قال البيقوني رحمه الله




وكُلُّ مَا عَنْ رُتْبَةِ الْحُسْنِ قَصُرْ .. فَهْوَ الضَّعِيفُ وَهْوَ أَقْسَامًا كُثُرْ

__________________



هذا هو القسم الثالث مِنْ أقسام علم الحديث.

وقد عرَّف الناظم رحمه الله الحديث الضعيف بأنه:هو الذي نزل عن الحديث الحَسَن.


(وَهْوَ أَقْسَامًا كُثُرْ)أي:أقسام الضعيف كثيرة.

كالمنقطع والمعضل والمرسل.

وسيأتي بعضها عند الناظم رحمه الله.


والضعيف لا يجوز التحديث به إلا على سبيل التحذير منه وبيان حاله،وسواء كان في فضائل الأعمال أو في الأحكام أو غير ذلك.


 فليحذرْ كلُّ مسلم ومسلمة من نشر الأحاديث الضعيفة والمكذوبة،أو نشر أشياء لا يُعْلَمُ صحتُها.

وقد عَمَّ نشرُ الأحاديث الضعيفة والموضوعة وما لا أصل لها في أوساط كثيرٍ من المسلمين رجالًا ونساءً ،صغارًا وكبارًا،من غير تحرٍّ ولا تثبُّت،وهذا حرام وخطير جدًّا،يُخشى على صاحبه أن يدخل في هذا الوعيد الآتي.

قال ابن حبان رحمه الله في «صحيحه»(1/220):فَصْلٌ ذِكْرُ إِيجَابِ دُخُولِ النَّارِ لِمَنْ نَسَبَ الشَّيْءَ إِلَى الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِصِحَّتِهِ  ثم أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه،وهو عند البخاري (110)،ومسلم في مقدمة صحيحه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

وقد تكلم على  المسألة العلامة الألباني رحمه الله في مقدمة «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (1/51)،وقال في آخر كلامه:
فتبين مما أوردنا أنه لا يجوز نشر الأحاديث وروايتها  دون التثبت من صحتها، وأن من فعل ذلك فهو حسبه من الكذب على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وقد قال صلى الله عليه وسلم :"إن كذبًا عليَّ ليس كَكَذِبٍ على أحدٍ، فمَن كَذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار".رواه مسلم  وغيره.اهـ.


وقد زيَّن لهم  الشيطان  أعمالهم  فتوهَّمُوا أنه من التعاون والدعوة إلى الخير والبِرِّ،وهذا من أعظم  المصائب  أن يكون سعيه منكرًا وهو يظنه حسنًا .قال تعالى:{ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.

(23) أحاديثُ منتقاةٌ من أحاديثِ البخاري ومسلم


          
                التخويف مِنْ تفويت صلاة العصر



عَنْ نافع عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ العَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»رواه البخاري(552)،ومسلم(626).




---------------------


فقد أخرج عبدالرزاق هذا الحديث بنحوه،وزاد«قُلْتُ لِنَافِعٍ:حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ؟ قَالَ: نَعَمْ»،وسنده صحيح.



قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري(تحت رقم 552)بعد أن ذكر هذه الرواية:

وَتَفْسِيرُ الرَّاوِي إِذَا كَانَ فَقِيهًا أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.اهـ



«كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»أي:كأنما أُصيب بأهله وماله فبقي وترًا منفردًا لا أهلَ له ولا مالَ.



من فوائد هذا الحديث:



·     قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري(تحت رقم 552):ظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّغْلِيظُ عَلَى مَنْ تَفُوتُهُ الْعَصْرُ وَأَن ذَلِك مُخْتَصّ بهَا.اهـ



·     قال ابن عبدالبر رحمه الله في التمهيد(14/161):فِيهِ تَحْقِيرٌ لِلدُّنْيَا وَإِنَّ قَلِيلَ عَمَلِ الْبِرِّ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا.

فَالْعَاقِلُ الْعَالِمُ بِمِقْدَارِ هَذَا الْخِطَابِ يَحْزَنُ عَلَى فَوَاتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَوْقَ حُزْنِهِ عَلَى ذِهَابِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ،وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ.اهـ المراد



فحافظ أيَّها المسلم على صلاتِك فإنها سعادةُ حياتِك الأولى والأُخرى،وسلِ الله أن يجعلها قرةً لعينك وراحة لقلبك لا تملَّ منها ولا تتعب.

وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ".

وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد:«أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ».

الجمعة، 12 أكتوبر 2018

(127)سِلْسِلَةُ الفَوَائِدِالعِلْمِيَّةِ والمَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ


            
                  الحذر من شر المال وفتنته



قال تعالى عن أصحاب الشمال:﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)﴾[سورة الواقعة].

وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾[ المؤمنون: 33].

وقال تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)﴾[سبأ].

وقال تعالى:﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)﴾[الزخرف].

وقال سبحانه:﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾[هود: 116].

وقال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)﴾[ الإسراء: 16]﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ أمرٌ كوني قدري وليس أمرًا شرعيًّا دينيًّا، لأن الله عَزَّ وَجَل لا يأمر شرعا بالفسق والعصيان.



في هذه الآيات المباركات ذمُّ الترف وأهله وأن الترف مِن أسباب العناد وردِّ الحق.

أهل الترف منبعُ الفساد والضياع لأنهم تغلب عليهم شهواتُهم وملذَّاتهم،قال تعالى:﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) ﴾[ الأنبياء: 44] متَّعهم الله ووسع عليهم في الأرزاق وأطال أعمارهم في رغدٍ ونعمة فأضلتهم وفتنتْهم.

الترف قد يُنسي الذكر،قال تَعَالَى:﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) ﴾ [ الفرقان ]،وهذا من مفاسد الترف.

والشاعر يقول:

إن الشباب والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

هذا البيت فيه ثلاث مفاسد:

·     مرحلة الشباب فساد وطيش،لا يهتدي ويتبصَّر من كان في سن الشباب إلا من هداه الله ووفقه ووقاه فتنتَه، وقد قال ابن الملقن في شرح البخاري شرح حديث سبعة يظلهم الله في ظله : الشباب شعبة الجنون.

·     الفراغ مفسدة وضياع وخسارة وحِرْمان.

·      الجِدة :المال والغنى مفسدة إلا ما رحم الله.

وغالبًا أهل الترف ليس عندهم وقت للعبادة،وقلوبهم مشغولة بالملذات والشهوات،أرداهم وأطغاهم الغنى والترف، قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)﴾[العلق: 6-7].

ولهذا نجد أغلب أتباع الرسل هم الضعفاء والفقراء وليس الأغنياء قال قوم نوح:﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) ﴾[الشعراء: 111]

وهرقل سأل أبا سفيان وقَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ..الحديث وفيه قَالَ: وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.رواه البخاري(7)،ومسلم (1773)عن أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.



فغالبًا الذي يصبر على العبادة والعلم والمكاره هم الفقراء والضعفاء وليس الأغنياءَ المترفين.

ولْنعلَم علم اليقين أنهم مع ما هم فيه من الترف هذا ليس بشيء مما عليه حال المؤمن التقي ولو كان فقيرًا،وإن لم يكن عنده ما عند المترفين من الأموال والقصور والملذَّات ،ولكنه في خير ونعيم روحي وطمأنينة، كما قال بعض السلف: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا بالسيوف.

هذا،وما تقدَّم ليس بحكمٍ عامٍّ على الأغنياء المترفين فمَن سلك طريق السعادة منهم واستقام على دينه واستغل ماله في الخير من بذل الصدقات وإعانة المحاويج وصلة الأرحام والقيام بحق الله فيه فهذا نعمة عليه كما روى الإمام أحمد (29/ 298)عن عمرو بْنِ الْعَاصِ: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ". والحديث في«الصحيح المسند»(1006)لوالدي رَحِمَهُ الله.
وإن حملَه الخير والأرزاق على الطغيان وقاده إلى الشر والفساد والعناد فهذا نقمة واستدراج وبلاء، قال تَعَالَى:﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ﴾[ الأنبياء: 35 ].



اللهم إنا نعوذ بك من فتنة الدنيا وفتنة المحيا والممات.