جديد المدونة

جديد الرسائل

الاثنين، 30 مايو 2022

(20) سلسلة النساء الفقيهات

 

       مِنْ فِقْهِ هند بنت الحارث التابعية رَحِمَهَا الله

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: «لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ، كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ».

 قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ – بنت الحارث- لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا.

أخرجه البخاري(5844).

هذا الحديث فيه: فقه هند بنت الحارث التابعية الجليلة؛ فقد فهمَت من الحديث: تخويف المرأة من اللباس العاري.

وبالغت في ذلك فكانت تجعل لها أزرارًا في كُمَّيْها، ثم تجعل الأزرار بين الأصابع؛ خشية أن يبدو من جسدِهَا شيءٌ فتدخل في هذا الحديث، فقد يكون الكُمُّ واسعًا فإذا حرَّكت يدها  ينكشف شيء، وصنيعُهَا هذا لا يكون إلا بتغطية بعض الكَفِّ، وهذا غير لازمٍ بين النساء، ولكنها فعلَتْهُ مبالغة في كمال السِّتْرِ حتى ولو كان شيئًا جرت العادة بظهورِهِ، فرحِمَها الله ورضي عنها.

 

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ» قال القسطلاني في شرح هذا الحديث من « صحيح البخاري»: أي: أثوابًا رقيقة لا تمنع إدراك البشرة، أو نفيسة.

 (عارية) معاقَبة.

(يوم القيامة) بفضيحة التعري أو عارية من الحسنات. اهـ.

وقوله: أو نفيسة، يعني: رفيعة. فيكون فيه الحث على ترك الإسراف في اللباس.

هذا الحديث من أدلة ترهيب المرأة من لباس العاري، كالشَّفَّاف الذي يصف الجسم، أو الضَّيِّقِ، أو القصير.

وفيه أن الجزاء مِنْ جنس العمل، فمَنْ لبست اللباس العاري تُعاقب يوم القيامة بفضيحة العُرْي.

فيوم القيامة يوم الفضائح والخِزي للمذنبين والمُذنبات، إن لم يسترِ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وفيه فضل هذه التابعية، وأنها ذاتُ علم وعمل، وهذا هو العلم النافع.

الأحد، 29 مايو 2022

(61) نصائح وفوائد

 

       خمسة أشخاص يحتاجون إلى مداراة وتلطُّفٍ

ومعنى المداراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول. «شرح صحيح البخاري»(9/305)لابن بطال.

أما هؤلاء الخمسة فهم:

جاء عن الإمام أحمد بن حنبل أن أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِي، يَقُولُ: خَمْسَةٌ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مُدَارَاتُهُم: الْمَلِكُ الْمُتَسَلِّطُ، وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ، وَالْمَرِيضُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ.

قال الإمام أحمد: فَاسْتَحْسَنْتُ ذَلِكَ مِنْهُ.

أخرجه الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي » (1/222وفيه: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ الْمُقْرِئُ. وهو:أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ المَوْصِلِيُّ، ثُمَّ البَغْدَادِيُّ.المعروف بـالنقاش، متروك وكان يكذب. ترجمته في « ميزان الاعتدال»(3/520 و« سير أعلام النبلاء»(15/573). فالأثر ضعيفٌ جدًّا بهذا السند. لكن معناه صحيح. 

فهؤلاء الخمسة يحتاجون إلى مدارة وتلطف ولين وتودد:

الأول: (الْمَلِكُ الْمُتسَلّطُ). أي: ملك جبَّار، فيُدارى  اتقاءًا  لشرِّه حتى ولو كان كافرًا.

 قال والدي رَحِمَهُ الله في «غارة الأشرطة» (1/ 424) وهو يتكلم عن طاعة ولي الأمر إذا كان كافرًا وأنها لا تجب، قال:  لكن إذا كانت لا تجب فليس معناه أننا نخرجُ عليهم ونواجههم بالسلاح وليس لنا قدرة، لكن من باب المداراة، واجتناب شرِّهم شيءٌ وطاعتهم شيءٌ آخر، ثم المداراة ليست بالمداهنة؛ لأن المداهنة في الإغضاء عنِ المنكر؛ لئلَّا يغضبَ فاعلُه، أما المداراة فالمداراة بكلمَةٍ طيبة أو بشيءٍ من المال إلى غير ذلك مما يصلُحُ أو تطيب به نفسُ الخصمِ حتى يُمَكَّنَ المسلمون

الثاني:(وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ) الذي عنده تأويلات، يسفك الدم المحرم بتأويل، و يأخذ المال من مالكه بتأويل،  ويعذب بالسجن بعذر التأويل...، فينتهك محرمات، ويظلم ويبغي بغير حق.

الثالث: (وَالْمَرِيضُ) يحتاج إلى مداراة ورفق؛ لضعْفِه النَّفسي والجسدي، فالكلمة الطيبة معه يسر بها، والدعاء له يرقِّق قلبه، ويرفع معنويته، والإحسان إليه بالطعام والخدمة والكلمة الطيبة هذا يؤثر فيه، وتشجيع معنويته بقرب فرج الله عز وجل. فالفرج قريب.

دَعِ المَقَادِيرَ تَجرِي فِي أَعِنَّتِهَا...وَلَا تَبِيتَنَّ إلَّا خَالِيَ البَالِ

مَا بَينَ غَمضَةِ عَيْنٍ وَانتِبَاهَتِهَا...يُقَلِّبُ الدَّهْرَ مِن حَالٍ إِلَى حَالِ

ورفع معنوية المريض قد يكون سببًا لشفائه بإذن الله.

 قال ابن القيم رحمه الله في«زادالمعاد»(4/107): وَتَفْرِيحُ نَفْسِ الْمَرِيضِ، وَتَطْيِيبُ قَلْبِهِ، وَإِدْخَالُ مَا يَسُرُّهُ عَلَيْهِ، لَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شِفَاءِ عِلَّتِهِ وَخِفَّتِهَا؛ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ وَالْقُوَى تَقْوَى بِذَلِكَ، فَتُسَاعِدُ الطَّبِيعَةَ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى تَنْتَعِشُ قُوَاهُ بِعِيَادَةِ مَنْ يُحِبُّونَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُمْ، وَلُطْفِهِمْ بِهِمْ، وَمُكَالَمَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ عِيَادَةِ الْمَرْضَى الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِمْ. اهـ المراد.

وكان والدي رحمه الله إذا وجدَ إحدانا مريضةً  يدعو لها، ويقوِّيها ويرفع معنويتَها، ويقول: ما شاءَ الله اليوم أنتِ بخيرٍ. فرُبما يرتفع المرضُ بإذن الله.

الرابع: (وَالْمَرْأَةُ) تحتاج إلى مداراة، ورفق، ولين، وهي تتأثر بالكلمة الطيبة، فهي سريعة التأثر، سريعة التغير، فأدنى معروف يرفع معنوياتها وأدنى إساءة يغير نفسيتها؛ ولذا الله عَزَّ وَجَل يقول: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء:19].وقد قيل: دارِها تعش بها.

الخامس: (وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ) أي:  يؤخذ منه العلم، يحتاج إلى مداراة من حيث الملاطفة، والرفق، واللين، وإذا قسا عليه يصبر.

ولهذا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف التابعي الجليل حرم من علم ابن عباس كثيرًا؛ بسبب أنه كان يماري عبد الله بن عباس، ثم ندم، وقَالَ: لَوْ رَفَقْتُ بِابْنِ عَبَّاسٍ، لَأَصَبْتُ مِنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا. رواه الدارمي (426).

وأما عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فكان يلاطف ابن عباس، ويستخرج منه العلم؛ بسبب الخلق الحسن.كما في «العلل» (156)للإمام أحمد:عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: كَانَ أَبُو سَلمَة يسْأَل ابن عَبَّاس فَكَانَ يخزن عَنهُ وَكَانَ عبيد الله يلطفه فَكَانَ يغره غرا.

هؤلاء الخمسة يحتاجون إلى مداراة، ومحمّد ابن الحنفيّة رحمه الله تعالى يقول: ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتّى يجعل الله له فرجا. رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه»(2/1027) بسندٍ صحيح.

 

السبت، 28 مايو 2022

(56)التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ

مِنْ حِلْمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَ: فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا، قَالَ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَنْ يَجِيءُ بِهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَاسْتَخْرَجَهَا، فَجَاءَ بِهَا، فَحَلَّهَا. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ حَتَّى مَاتَ. رواه الإمام أحمد (32/ 14).

وأصله في «الصحيحين» عن عائشة.

هذا الحديث  فيه حلم النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعفوه، فمن حلم النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ما عاتب ذلك اليهودي ولا عاقبه، « فَمَا ذَكَرَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ حَتَّى مَاتَ».

الجمعة، 27 مايو 2022

(3) بِرُّ الوَالِدَيْنِ

 

إذا منع الوالدان ولدهما عن الرحلة في طلب العلم فهل يلزمُهُ الطاعة؟

كتبت في هذه المسألة عن والدي رَحِمَهُ الله الآتي:

أما إذا كانا محتاجين لخدمته أو للنفقة عليهما، فواجب عليه أن يبدأ بهما في ذلك؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول».

وكذلك إذا خشي أن أحدهما يبكي عليه حتى يذهب بصره، أو يُجن، أو يحصل له آفة من الآفات كالشلل وغيره.

وأما إذا كانا جاهلين، أو لا يحبان العلم، ويرغبان في التزود من الدنيا، أو لا يحبان الدين، فليس لهما طاعة في ترك الرحلة في طلب العلم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».

وقال سبحانه وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29-30].

وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعُدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].

وقد سئل الإمام أحمد كما في «مسائل ابن هانئ» (2/ 164): الرجل يستأذن والديه في الخروج في طلب الحديث، وفيما ينفعه؟

 قال: إن كان في طلب العلم فلا أرى فيه بأسًا، إن لم يستأمرهما في طلب العلم وما ينفعه.

أَمْلَاهُ عليَّ والدي الشيخ مقبل في مجلسه في حُجْرَتِهِ، غفر الله له ورحمه، والله أعلم.