جديد المدونة

جديد الرسائل

السبت، 31 أكتوبر 2020

شرح كتاب «التبيان في آداب حملة القرآن»

 

   الدرس الثاني والثلاثون من «كتاب التبيان في آداب حملة القرآن»

 14/من شهر ربيع الأول/ لعام 1442هـ.

(55)الإجابةُ عن الأسئلةِ

 

تسأل وتقول:إذا أحد عليه كفارة يمين وكان في مدينة ما يعرف المساكين اللي فيها.هل  ينتقل إلى صوم ثلاثة أيام؟

ج:لا يَنتقل إلى الصوم لأنه قادر على إطعام عشرة مساكين،فعليه أن يعطي الكفارة كما أمره الله،قال تعالى:﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)﴾[المائدة].

حتى ولو أعطى الكفارة بعض المحاويج في بلد أُخرى.والله الموفق.


(12)من أحكام الصلاة

 

أريد منك حفظك الله توجهي نصيحة لبناتي بأن يحافظوا على الصلاة في أوقاتها من النوم المعتاد عن الصلاة؟

ج:نصيحتي للبنات وفقهن الله  بترك هذه العادة السيئة،وألا يتساهلنَ  ويفرِّطن في صلاتهن حتى تشرق الشمس ويخرج وقت الصلاة، وسواء وقت صلاة الظهر أو صلاة الفجر أو غيرهما من الصلاة المكتوبة. يقول  تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59].

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ –أي يُدق بالحجر-فسأل ما هذا ؟قيل له: فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ» الحديث رواه البخاري (7047).

وثبت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ، مَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَالَ: «بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» رواه  البخاري (1144)، ومسلم (774).

فهذا فيه التخويف والترهيب والوعيد على هذا الفعل،وأنه من أسباب عذاب القبر.

فليتقِ الله من كان يؤخر الصلاة المكتوبة إلى بعد خروجها من الشباب والشابات،ومن أصحاب الأعمال،وبعضهم  يجعل له المنبِّه قرب وقت خروجه لعمله،فإذا قام صلى وقد يكون بعد الشروق.وهذا خسارة وفيه ترهيب ووعيد كما تقدم ،ويُعد من إيثار الدنيا على الآخرة.

وأما حديث:«رُفِع القلم عن ثلاثة،ومنهم النائم حتى يستيقظ»فهذا في حقِّ من نام ولم يقصِّر ويفرِّط.

(31) العلم وفضلُه

 

تقول إحدى الأخوات:نحن كمبتدئات بماذا تنصحيننا أن نحفظ من المتون..؟

ج:أنا أنصحكن أولًا بالاهتمام بحفظ القرآن الكريم،فهذا أول ما يبدأ به البادئ في طلب العلم من الرجال والنساء، كما كان السلف يفعلون،فقد كانوا يبدأون بحفظ القرآن.

ثم بحفظ شيء من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم،مثل:

الأربعين النووية مع تتمتها لابن رجب،وعمدة الأحكام للمقدسي،أو بلوغ المرام،ورياض الصالحين،واللؤلؤ والمرجان  فيما اتفق عليه الشيخان.

وليس معناه أنك ما تحفظين شيئا من الأحاديث مع القرآن،لكن يكون أكثر اتجاهك للقرآن.

ثم أنصحك أن تستعيني بالله وتخلصي عملك لله؛ لتفلحي وتنجحي فيما أردت.

والعلم مواهب من الله،وليس بكثرة المحفوظات،كما قال الإمام مالك: إِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ. أخرجه الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1526).

وقال الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء» (13/323) -ترجمة عثمان بن سعيد الدارمي-: العِلْمُ لَيْسَ هُوَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّهُ نُوْرٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي القَلْبِ.

 وَشَرْطُهُ: الاتِّبَاعُ، وَالفِرَارُ مِنَ الهَوَى، وَالاَبْتَدَاعِ، وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُم لِطَاعَتِهِ.

الأحد، 25 أكتوبر 2020

اختصار الدرس الحادي والثلاثين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

 

من آداب حامل القرآن

أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل

لا بد لحامل القرآن أن يكون مميَّزًا في أفعاله وأقواله وأوصافه وسلوكه، وأن يبتعد عن الأخلاق السيئة وأخلاق السَّفلة؛ لأنه يقرأ القرآن  ويحمله في جوفِه فلا بد أن يتخلق بأخلاقه، كما في وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أن سئلت عائشة عن خلق النّبِيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ» رواه مسلم (746).

فيرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه حتى ولو كان النهي على سبيل الكراهة. إكرامًا وتعظيمًا للقرآن الذي يحمله في صدره.

ـــــــــــــــــــــ

أن يكون شريف النفس

أي: عالي النفس، ففيه وصية لحامل القرآن أن يكون عاليَ النفس بعيدًا عن مهانتها، وذلتها.

والنفوس الشريفة طموحاتها عالية، قال ابن القيم رَحِمَهُ الله في «الفوائد» (177): فالنفوس الشَّرِيفَة لَا ترْضى من الْأَشْيَاء إِلَّا بِأَعْلَاهَا وأفضلها وأحمدها عَاقِبَة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وَتَقَع عَلَيْهَا كَمَا يَقع الذُّبَاب على الأقذار، فَالنَّفْس الشَّرِيفَة الْعلية لَا ترْضى بالظلم وَلَا بالفواحش وَلَا بِالسَّرقَةِ والخيانة؛ لِأَنَّهَا أكبر من ذَلِك وأجلُّ، وَالنَّفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذَلِك. اهـ.

وقد أثنى الله  على النفوس الشريفة وذمَّ النفوس الدنيئة، فقال سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) [الشمس أي: زكاها بطاعة الله ، وخَابَ مَنْ دَسَّاهَا بالمعاصي.

وليس هناك أشرف للنفس من طاعة الله عز وجل. قال ابن القيم رحمه الله في «الجواب الكافي»(78): الطَّاعَةُ وَالْبِرُّ تُكَبِّرُ النَّفْسَ وَتُعِزُّهَا وَتُعْلِيهَا، حَتَّى تَصِيرَ أَشْرَفَ شَيْءٍ وَأَكْبَرَهُ، وَأَزْكَاهُ وَأَعْلَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَذَلُّ شَيْءٍ وَأَحْقَرُهُ وَأَصْغَرُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِهَذَا الذُّلِّ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْعِزُّ وَالشَّرَفُ وَالنُّمُوُّ، فَمَا أَصْغَرَ النُّفُوسَ مِثْلُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَمَا كَبَّرَهَا وَشَرَّفَهَا وَرَفَعَهَا مِثْلُ طَاعَةِ اللَّهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

آثار في وصايا وآداب لحملة القرآن الكريم:

الأثر الأول: (عَن عُمَرَ بنِ الخَطَّاب رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعشَرَ القُرَّاءِ، ارفَعُوا رُءُوسَكَم؛ فَقَد وَضَحَ لَكُمُ الطَّرِيقُ، وَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ، وَلَا تَكُونُوا عِيَالًا عَلَى النَّاسِ) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1217) من طريق طلق بن غنام، عن المسعودي، عن جواب بن عبيد الله، عن المعرور بن سويد، عن عمر.

وهذا أثر حسن؛ جواب بن عبيد الله حسن الحديث، والمسعودي مختلط، لكن رواية طلق عنه قبل الاختلاط، كما في «الكواكب النيرات».

في هذا الأثر: ثلاث وصايا لحملة القرآن:

 الوصية الأولى: (ارفَعُوا رُءُوسَكَم) هذا مما ينبغي لحملة القرآن، بل ولكل سني أن يرفعوا رؤوسهم وأن يعتزُّوا بدينِهم ولا يكونوا أذِلَّةً؛ لأنهم على حق وعلى خير وهدى.

(فَقَد وَضَحَ لَكُمُ الطَّرِيقُ) أي: تبين لكم طريق الحق والرشاد..

الوصية الثانية: (وَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ) فعلى القراء أن يكونوا سباقين إلى الخير، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148]. استبقوا إلى القرآن، إلى العلم، إلى الصلاة في الجماعة، إلى الذكر، إلى الأخلاق العالية.

الوصية الثالثة: (وَلَا تَكُونُوا عِيَالًا عَلَى النَّاسِ) أي: لا يكونوا عالة على غيرهم، ففيه الحث على ترك البِطالة، وأن حامل القرآن يكتسب بيده، قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) [الملك ويقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ-أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الجَبَلِ-فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ» رواه البخاري (1480 ومسلم (1042) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وقد دلَّ هذا الحديث أنَّ: سؤال الناس ذلة وإراقة لماء الوجه.

ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحث على الاكتساب: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» رواه الإمام أحمد (205) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

ويقول سفيان الثوري: عليك بعمل الأبطال، الاكتساب من الحلال والإنفاق على العيال. رواه ابن أبي حاتم رَحِمَهُ الله في مقدمة «الجرح والتعديل» (ص 85 والأثر صحيح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأثر الثاني: (عَن عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: يَنبَغِي لِحَامِلِ القُرآنِ أَن يُعرَفَ بِلَيلِهِ إِذَا النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِنَهَارِهِ إِذَا النَّاسُ مُفطِرُونَ، وَبِحُزنِهِ إِذَا النَّاسُ يَفرَحُونَ، وَبِبُكائِهِ إِذَا النَّاسُ يَضحَكُونَ، وَبِصمتِهِ إِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إِذَا النَّاسُ يَختَالُونَ)

أثر ابن مسعود أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص52وغيره من طريق المسيب بن رافع، عن ابن مسعود. ولم يسمع منه شيئًا. وإن كان سنده منقطعًا فمعناه صحيح.

(أَن يُعرَفَ بِلَيلِهِ إِذَا النَّاسُ نَائِمُونَ) يعني: أن من أوصاف حامل القرآن قيام الليل، وقيام الليل من شعار الصالحين ودأب المؤمنين، فكيف بحملة القرآن وطلبة العلم الذين ينبغي أن يكونوا أسبق الناس إلى هذه الخصلة وإلى كل خير؟! قال الله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة].

وجاء عن أَبِي عِصْمَةَ عَاصِمِ بْنِ عِصَامٍ الْبَيْهَقِيَّ يَقُولُ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَجَاءَ بِالْمَاءِ فَوَضَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَظَرَ إِلَى الْمَاءِ فَإِذَا هُوَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ لَهُ وِرْدٌ مِنَ اللَّيْلِ» رواه الخطيب في «جامعه» (178).

(وَبِنَهَارِهِ إِذَا النَّاسُ مُفطِرُونَ) أي: بصيامه، فهذا من آداب حامل القرآن: أن يكون له نصيب من الصيام، حتى ولو لم يتيسر له الإثنين والخميس، يصوم ولو يومًا واحدًا في الشهر، كما في حديث أبي عقرب رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّوْمِ، فَقَالَ: «صُمْ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ» الحديث رواه النسائي في «سننه» (2433 وهو في «الصحيح المسند» (1241) لوالدي رَحِمَهُ الله.

 فالصيام من أجلِّ العبادات، ومن أسباب صلاح القلب وخشوعه، ومن أسباب الصحة والعافية.

(وَبِحُزنِهِ إِذَا النَّاسُ يَفرَحُونَ) هذا كما قال الله في وصف أهل الجنة: ﴿ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور]. وبعض السلف ذُكر في أوصافهم أنه إذا رأيته حسِبْتَهُ يخشى الله.

يقول عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ، عَلِمتُ أَنَّهُ يَخشَى اللهَ، قال: وما رأيت مصليًا قط مثله. رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» (12/142).

وجاء هذا أيضًا في وصف صَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ عند الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/661) والأثر صحيح.

 

(وَبِصمتِهِ إِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ) إذا الناس يخوضون في الباطل يلزم السكوت ولا يخوض معهم، ومن صفات الكفار أهل النار: ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر].

والصمت عبادة وسعادة إلا في خير، وقد قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» رواه البخاري (6018 ومسلم (47) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

ويحتاج الصمت والتقليل من الكلام إلى جهاد عظيم، فإن اللسان كثير الكلام وحركاته سريعة، لا ينجو منه إلا من عصمه الله.

وما أجمل الصمت! حتى إنه والله ليقع في النفس إذا وجدنا بعض النساء عندها خُلُقُ الصمت؛ لأن الصمت صفة عزيزة رفيعة، القليل من يتصف بها؛ وما أكثر الأخطاء والزلَّات بسبب الكلام الكثير والثرثرة، والإنسان يملك نفسه بصمته فإذا تكلم يملكه ما تكلَّم به.

(وَبِخُشُوعِهِ إِذَا النَّاسُ يَختَالُونَ) هذا من صفات حملة القرآن، قال تعالى: ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأثر الثالث: (وَعَنِ الحَسنِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: إِنَّ مَن كَانَ قَبلَكُم رَأَوا القُرآنَ رَسَائِلَ مِن رَبِّهِم، فَكَانُوا يَتَدَبَّرُونَهَا بِاللَّيلِ، وَيُنَفِّذُونَهَا بِالنَّهَارِ). أثر الحسن البصري أورده النووي في «المجموع» (2/136). ولم أجده بسنده، والله أعلم.

ومعنى الأثر: أن السلف كانوا يرون القرآن رسائل ربَّانية إلهية من لدن حكيم خبير، فكانوا في الليل يقرؤونه ويتدبرون ويستفيدون، وفي النهار يكون التطبيق العملي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأثر الرابع: (وَعَن الفُضَيلِ بنِ عِيَاض رَحِمَهُ الله: يَنبَغِي لِحامِلِ القُرآنِ أَلَّا يَكَونَ لَهُ حاجَةٌ إِلَى أحَدِ الخُلَفَاءِ فَمَن دُونَهُم).

أخرجه الآجري في «أخلاق القرآن» (37 بسند صحيح. وأخرجه وأبو نعيم في «الحلية» (8/78) من وجه آخر.

يعني: ينبغي لحامل القرآن أن يرفع حاجته إلى ربه، وأن يفزع إلى خالقه في حوائجه، لا إلى المخلوقين، لا إلى خليفة، ولا إلى من هو دون الخليفة.

والفضيل بن عياض واعظ زاهد، وهذه طريقة الزهاد أهل العفة والنزاهة أنهم يرفعون حوائجهم إلى ربهم، ولا يذلِّون أنفسهم ويُدنِّسُونَهَا.

زاد الآجري رَحِمَهُ الله: (وَأَنْ تَكُونَ حَوَائِجُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ) يعني: يسألونه ويستفتونه.

هذا الأدب الذي ذكره الفضيل بن عياض عزيز، القليل من يتصف به، فيكون عفيفًا، عزيز النفس، وقد جاء عن سفيان الثوري: قَالَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ لِأَبِي حازم سلمة بن دينار: ارفع اليّ حاجتك، قال: هيهات هيهات، رفعتها رَفَعْتُهَا إِلَى مَنْ لَا تُخْتَزَلُ الْحَوَائِجُ دُونَهُ، فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَنَعْتُ، وَمَا زَوَى عَنِّي مِنْهَا رَضِيتُ. رواه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/679 والأثر حسن.

وذات مرة دخل والدي رَحِمَهُ الله إلى الرئيس، فقال له الرئيس: اطلب حاجتك، قال: ما أحتاج شيئًا، ولم آتِ لهذا. فألح عليه أن يسأل حاجته فأبى، فأعطاه من قبل نفسه سيارة، وأرسل إليه ببعض المساعدة للدعوة.

والعفيف والله يعظُم في نفوس التجار والرؤساء، بخلاف الذي يذل نفسه ويسأل الناس أموالهم، فإنه يصغُر في أعينهم حتى ولو كانوا أثرياء ورؤساء، نسأل الله أن يرزقنا جميعًا عزَّة النفس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأثر الخامس: (وَعَنهُ أَيضًا: حَامِلُ القُرآنِ حامِلُ رايَةِ الإِسلَامِ؛ لَا يَنبَغِي لَهُ أَن يَلهُوَ مَعَ مَن يَلهُو، وَلَا يَسهُو مَعَ مَن يَسهُو، وَلَا يَلغُو مَعَ مَن يَلغُو)

 هذا من صفات حامل القرآن: أنه لا يشارك الفرغ في اللهو والسهو واللغو؛ تعظيمًا للقرآن الكريم، واحترامًا للقرآن.

فالحاصل أن من أكرمه الله عز وجل بالقرآن الكريم، فإنه يحمل كنزًا عظيمًا في صدره، فلا ينبغي أن يتصف بأوصاف الضائعين، ولا بأوصاف السَّفلة المائعين.

وما يصنع طالب العلم وحامل القرآن بما تعلَّمه إذا جفاه ولم يعمل به، قال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ الله: إِذَا كَانَ نَهَارِي نَهَارَ سَفِيهٍ، وَلَيْلِي لَيْلَ جَاهِلٍ فَمَا أَصْنَعُ بِالْعِلْمِ الَّذِي كَتَبْتُ؟. رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء»(7/271 والأثر حسن.

حامل القرآن ينبغي ان يعرض نفسَه وأوصافه على القرآن، كالمرآة إذا نظر إليها أزال النقص والعيب، فهكذا الذي يقرأ القرآن ينظر حاله وأوصافه، فما كان من خلل أصلحه وتاب إلى الله منه، وما كان من أخلاق حميدة حمِد الله وشكره إذ وفقه لذلك. كما ذكر هذا الآجري رَحِمَهُ الله في «أخلاق أهل القرآن»( 80- 81): الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ اسْتَعْرَضَ الْقُرْآنَ، فَكَانَ كَالْمِرْآةِ، يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا قَبُحَ مِنْهُ، فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلَاهُ حَذِرَهُ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ، وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلَاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ، فَقَدْ تَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَكَانَ لَهُ الْقُرْآنُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسًا وَحِرْزًا، وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصَفَهُ، نَفَعَ نَفْسَهُ وَنَفَعَ أَهْلَهُ، وَعَادَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَعَلَى وَلَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

 

السبت، 24 أكتوبر 2020

شرح كتاب «التبيان في آداب حملة القرآن»

 
       الدرس الحادي والثلاثون من «كتاب التبيان في آداب حملة القرآن»

  
7/من شهر ربيع الأول/ لعام 1442هـ.

 

الاثنين، 19 أكتوبر 2020

اختصار الدرس الثلاثين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب المتعلم

البكور في طلب العلم

عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ بَارِك لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1000) من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير. والحديث حسن؛ من أجل أبي الزبير، ولا تضر عنعنته إذا كان الراوي عنه الليث بن سعد.

فيه أن من آداب الطالب: التبكير في تلقي العلم، فيأخذ دروسه في الصباح. وهذا الوقت تنزل فيه البركات، فالذي يأخذ دروسه في الصباح يستفيد، ويسهل عليه فهمُه وحفظه، وقد لا ينساه بعد ذلك.

بكور اليوم: هو أول النهار، وهذا عام البكور في طلب العلم، وفي تلقي العلم، وفي البحث، والحفظ، والأذكار، وفي السفر، حتى في الأعمال الدنيوية: كالتجارة، والزراعة. فهذه بركة عظيمة.

تضييع البكور في النوم، وفي الأشياء التافهة غفلة عن الخير، وحرمان عظيم ومضيعة للوقت، يقول أبو وائل شقيق بن سلمة: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ، فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَنَا، قَالَ: فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً، قَالَ: فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ، فَقَالَتْ: أَلَا تَدْخُلُونَ، فَدَخَلْنَا، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لَا، إِلَّا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ، قَالَ: ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً»الأثر رواه مسلم (822 ورواه البخاري مختصرًا (5043).

قال المباركفوري رَحِمَهُ الله في «منة المنعم شرح صحيح مسلم» (1/516) فيه: دليل على أن النوم بعد صلاة الفجر غفلة. اهـ.

وفي النوم بعد صلاة الفجر أضرارٌ صحية، كما ذكر هذا ابن القيم في «الطب النبوي»(181).

فأول اليوم له مزية على غيره لا ينبغي التفريط فيه، قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة»(2/216): أول النَّهَار بِمَنْزِلَة شبابه وَآخره بِمَنْزِلَة شيخوخته. وهذا أمرٌ معلومٌ بالتجربة، وحكمةُ الله تقتضيه. اهـ.

وقال ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين» (1/457): وَمِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهُمُ النَّوْمُ بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ غَنِيمَةٍ، وَلِلسَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ عِنْدَ السَّالِكِينَ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى لَوْ سَارُوا طُولَ لَيْلِهِمْ لَمْ يَسْمَحُوا بِالْقُعُودِ عَنِ السَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَمِفْتَاحُهُ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْأَرْزَاقِ، وَحُصُولِ الْقَسْمِ، وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ النَّهَارُ، وَيَنْسَحِبُ حُكْمُ جَمِيعِهِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْحِصَّةِ. اهـ.

ومن بركة استغلال بكور اليوم: أنه يجر البركة لبقية اليوم، فإذا استغل صباحه وجد بركةً عظيمةً في بقية يومه ونشاطًا وسعادة.

ويعين على معرفة قيمة وقت الصباح: العلم النافع، والصبر ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) [السجدة والهمة العالية، والدعاء أيضًا، ومعرفة الفضائل، وأدلة الترغيب في فضل البكور. فكم ينجح الذين يستغلون بكور يومهم، حتى إن هذا يعرفه أهل الأعمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأوقات التي ينبغي ترك النوم فيها:

بعد صلاة الفجر: فقد قال النّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«اللهُمَّ بَارِك لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا».

قبل صلاة العشاء: عن أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان «لا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، -أي: قبل صلاة العشاء-وَلاَ الحَدِيثَ بَعْدَهَا» رواه البخاري (771 ومسلم (647).

كره النبي صلى الله عليه وسلم النوم قبل صلاة العشاء حتى لا يفوته صلاة العشاء، و(بَعْدَهَا) أي: بعد صلاة العشاء حتى لا يفوته آخر الليل وبكور اليوم.

فاستغلال هذين الوقتين يستدعي ترك السهر في الليل، ويقضي على السهر بالليل، فنسأل الله أن يوفقنا وإياكن.

كان والدي ينصح الذي قد تعود على النوم بعد صلاة الفجر -بالنسبة لطلابه- أن يخرج إلى الوادي –الوادي بجوار مسجدنا-فيمشي يومين أو ثلاثة حتى تذهب عنه هذه العادة السيئة.

والمراد أنه يجاهد حتى تعتاد نفسُه استغلال بكور اليوم في قراءة الأذكار بعد الصلاة، وأذكار الصباح ومراجعة القرآن، ونحو ذلك.

النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه أنه كان لا ينصرف من مصلاه حتى تطلع الشمس، كما ثبت عن جابر بن سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: «كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ، أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ» رواه مسلم(670).

النوم آخر الليل؛ لأنه وقت خير وبركة، ينزل الله فيه إلى السماء الدنيا، كما في الحديث الذي رواه البخاري(7494 ومسلم (758) واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ». الله سبحانه ينادي عباده أن لا يغفلوا عن هذا الوقت النفيس.

وهناك وقت رابع بعد صلاة العصر: هذا ورد في حديث ضعيف عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ نَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ فَلا يَلُوَمَّنَ إِلا نَفْسَهُ». رواه ابن عدي في «الكامل»(5/240 وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/69 والراوي عن عمرو بن شعيب ابن لهيعة، وابن لهيعة ضعيف.

وقد استفدنا من دروس والدي رَحِمَهُ الله أن الحديث ضعيف فيه عبدالله بن لهيعة، وكذلك الشيخ الألباني رَحِمَهُ الله يضعفه في «سلسلة الأحاديث الضعيفة»(39 وله بعض الطرق الأخرى لكنها لا تصح.

إذن هذه أربعة أوقات في ترك النوم فيها، أما النهي عن النوم بعد صلاة العصر فمعتمد على حديث ضعيف، كما تقدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحافظة على المحفوظات

من آداب الطالب المحافظة على محفوظاته من النسيان، وهذا يكون بالمراجعة والتكرار، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تَعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» رواه البخاري (5033 ومسلم (791) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

في هذا الحديث: ضرب مثل للحفظ أنه يتفلت سريعًا كالناقة المربوطة إذا تفلتت من الوثاق -الرباط-ذهبت بعيدًا، ولا ترجع إلا بصعوبة ومشقة، وهكذا أيضًا الذي يتفلت منه القرآن-نسأل الله أن لا يحرمنا-أو بعض الأحاديث، أو غير ذلك من المحفوظات، ليس من السهل إرجاعه.

فالمحفوظات تحتاج إلى محافظة عليها من النسيان، وهذا يحتاج إلى صبر ومداومة حتى الموت.

سمعت والدي رَحِمَهُ الله يقول: الحفظ شاق وأشق منه المراجعة؛ لأن المراجعة يكون باستمرار.

وإهمال المحفوظات آفة من آفات العلم، فآفة العلم النسيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدم الإيثار الطالب بنوبته

قال الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في «شرح مقدمة المجموع»(208): يعني: إذا وصله الدَّورُ فلا يقول: يا فلان، قم عني بنوبتي، بل هو الذي يقوم بها. اهـ.

هذا من آداب الطالب أنه لا يؤثر بنوبته غيره،وذلك للأدلة التي فيها الحث على المسابقة والمنافسة في الخير، قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148].

أخرج البخاري (615 ومسلم (437) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».

ونقل النووي في «شرح صحيح مسلم» تحت رقم (2030) عن العلماء عدم الإيثار بالقرب وكراهة الإيثار للغير بموضعه من الصف الأول، وكذلك نظائره.

وفصَّل ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في مسألة الإيثار بالقرب من شرحه ل «مقدمة المجموع» (ص152 وقال: أما القُرَب الواجبة، فالإيثار بها محرم. ولا يجوز للإنسان أن يؤثر غيره بها، كرجل ليس معه من الماء إلا ما يكفي لوضوئه أو وضوء صاحبه، فهذا الإيثار حرام لا يجوز؛ لأنك سوف تسقط به واجبًا عليك.

وأما الإيثار بالقرب المستحبة فهذا فيه تفصيل إن كان في ذلك مصلحة فلا بأس، كما لو آثرت والدك بالصف الأول في المسجد. يعني: إنسان في الصف الأول ودخل والده فآثره بذلك فهذا لا بأس به، بل قد يكون خيرًا لما فيه من إيصال البر للوالد.

وكذلك لو آثرت به من له حق عليك فلا بأس، أما إذا لم يكن هناك سبب فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه يكره الإيثار لأنه يدل على رغبة الإنسان عن الخير. اهـ.

وتكلم على المسألة أيضًا الشيخ ابن عثيمين في «جلسات رمضانية» (ص 21) بنحو ما تقدم.

وأما ابن القيم رَحِمَهُ الله فإنه يرى جواز الإيثار بالقربات، كما في «زاد المعاد »(3/442).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإيثار بحظوظ النفس

حظوظ النفس، مثلًا: طعام، شراب، لباس. الإيثار فيه محبوب عند الله؛ لهذا يقول الله في الثناء على الأنصار: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر]. وسبب نزول هذه الآية ثابتٌ منْ حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي الجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ؟» فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ العَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ، وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ-أَوْ ضَحِكَ-مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]. رواه البخاري (4889 ومسلم (2054).

 الأنصار عندهم مكارم وأخلاق عالية، وإيثار عظيم، ثبت عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ، تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَزَوَّجْتَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «وَمَنْ؟»، قَالَ: امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: «كَمْ سُقْتَ؟»، قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ-أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» رواه البخاري (2048).

كان من تعليق والدي رَحِمَهُ الله على هذا الحديث في درسٍ لنا في «صحيح البخاري»: هذا-يعني: سعد بن الربيع-في غاية الكرم، وهذا يعني: عبد الرحمن بن عوف-غاية في العفة والنزاهة. اهـ.

كرم عجيب، وإيثار بالغ حتى إن سعد بن الربيع الأنصاري أراد أن يتنازل لأخيه في الله المهاجري عبد الرحمن بن عوف عن إحدى زوجاته، فالأنصار كانوا آية في الإيثار.

والنفس من طبيعتها عدم الإيثار؛ لأن الإيثار يعطي الشيء وهو بحاجته.

وهناك أمور تُسهِّل هذا الخُلُقَ العالي، قال ابن القيم في «طريق الهجرتين» (1/300): فإن قيل: فما الذى يسهل على النفس هذا الإيثار، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟ قيل: يسهله أُمور:

أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.

الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.

الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها. اهـ المراد.