الاعتبار بحالة الضعف والمختلطين
الاختلاط نوع من الجنون، قال السخاوي في « فتح المغيث»(4/366): وَحَقِيقَتُهُ فَسَادُ الْعَقْلِ وَعَدَمُ انْتِظَامِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ: إِمَّا بِخَرَفٍ أَوْ ضَرَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَرَضٍ مِنْ مَوْتِ ابْنٍ وَسَرِقَةِ مَالٍ، كَالْمَسْعُودِيِّ، أَوْ ذَهَابِ كُتُبٍ كَابْنِ لَهِيعَةَ، أَوِ احْتِرَاقِهَا كَابْنِ الْمُلَقِّنِ.
والمختلطون أُلف فيهم بعض المؤلفات كـ«الكواكب النيرات» لابن الكيال، وذكر عددًا في ذلك الكتاب من المختلطين، وكان والدي رَحِمَهُ اللهُ يقف في بعض دروسه وقفة عند المختلطين، ومن كلامه:
في المختلطين عبرة للمعتبرين، بالأمس كانوا في زمرة المحدثين واليوم في زمرة المجانين.
يعني: فلا يغترن أحد بذكائه، ولا بحفظه، ولا بفهمه، ولا بما أعطاه الله سُبحَانَهُ، فهذا عطاء من الله قد يزول عن قريب.
ومن حدث من المختلطين بعد اختلاطه؛ لأن منهم من يستمر في التحديث يأتيه الطلاب ويستمر في التحديث، فمن حدث بعد اختلاطه فإنه يضعف أحاديثه كلها التي قبل الاختلاط وبعده، إلا إذا تميز وبيَّنوا أن هذا الراوي سمع منه قبل الاختلاط فيقبل ما رواه عنه، وأما من لم يتميز فلا يُدرى أروى عنه قبل الاختلاط أو بعده؟ فإنه يرد حديثه ولا يحتج به.
وكان والدي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى يذكر ثلاثة من المختلطين اختلطوا ولم يضر اختلاطهم:
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي
وجرير بن حازم.
وإبراهيم بن أبي العباس.
ويعلق ويقول: مُنعوا من التحديث بعد الاختلاط، فهكذا الأسرة الطيبة!
يعني: إذا جاء طالب يريد أن يسمع يمنعون قريبهم من الخروج إليه ومن التحديث، وبهذا يسلم حديث الشيخ ولا يُرد شيء منه لأجل اختلاطه؛ لأنه لم يحدث بعد اختلاطه.
كان بعضهم ربما يختبر الشيخ الذي صار كبيرًا فيختبر عقله، فيقول مثلًا: هذا حمار أم شاة؟
ومنهم من يعيد سماع الحديث من الشيخ؛ لينظر هل سيخلِّط في التحديث؟
ونعوذ بالله أن نرد إلى أرذل العمر ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: 5].
يصير كأنه طفل لا تمييز له، وينسى كل ما مر به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ينسى أولاده وحوائجه والقيام بنفسه، ويحتاج إلى من يقوم به حتى إلى مستوى تنظيفه.
هذا الذي يكون من وراء طول العمر.
يرجع إلى حالة ضعف وعجز، وكما قال الشاعر:
يَسُرُّ الفَتَى طُولُ السَّلَامَةِ وَالبَقَا ... فَكَيْفَ تَرَ طُولَ السَّلَامَةِ يَفْعَلُ
يَرُدُّ الفَتَى بَعْدَ اعْتَدَالٍ وَصِحًّةٍ ... يَنُوءُ إذَا رَامَ القِيَامَ وَ يُحْمَلُ
(يَرُدُّ الفَتَى بَعْدَ اعْتَدَالٍ وَصِحًّةٍ) يكون في صحة وقوة فيرده طول العمر إلى الضعف والعجز.
(يَنُوءُ إذَا رَامَ القِيَامَ وَ يُحْمَلُ) أي: يثقل عليه إذا أراد أن يقوم، فيحتاج إلى من يساعده حتى يقف، وقد يحتاج إلى من يساعده عند المشي.
إن هذا يُذكر بمآل الحياة، وفيه تحفيز على الحرص على الخير والمسابقة إلى جنة الخلد، قبل الضعف، قبل العوائق، قبل الموت، وما أحسن وصية عبدالله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» رواه البخاري (6416)، ونسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
[مقتطف من الدرس السابع عشر من دروس بلوغ المرام لابنة الشيخ مقبل رَحِمَهُ الله]