قوله رَحِمَهُ اللهُ: (وَالهِجرَةُ: الانتِقَالُ مِن بَلَدِ الشِّركِ إِلَى بَلَدِ الإِسلَامِ) هذا تعريف الهجرة شرعًا.
والهجرة لغة: الترك.
والهجرة على ثلاثة أقسام: هجرة البلد، وهجرة العمل، وهجرة العامل.
هجرة العمل: من الكفر والبدع والفسوق والعصيان.
وهجرة العامل، وهذا يشمل هجر الكافر والمبتدع.
ضابط بلاد الكفر:
استفدنا من والدي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى الضابط في هذا: أن بلاد الكفر هي التي أغلب مَنْ فيها كفار.
(وَالهِجرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِن بَلَدِ الشِّركِ إِلَى بَلَدِ الإِسلَامِ)
(فَرِيضَةٌ) أي: واجبة، والدليل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ الآيات، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ» رواه الترمذي (1604) عَنْ جَرِيرِ.
وهذا إذا كان في بلاد الكفر لا يستطيع أن يقيم فيها دين الله، ولا أن يظهر فيها شعائر الله، فيجب عليه الهجرة إذا كان قادرًا عليها.
أما إذا كان آمنًا على دينِهِ، ويقدر على إقامة دين الله وإظهار شعائر الله فلا يجب عليه الهجرة.
ونستفيد من أدلة وجوب الهجرة: أن الذي لا يهاجر مع القدرة مرتكب لكبيرة، وليس معنى هذه الأدلة التي فيها الوعيد أنه يخرج من الملة.
(وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَن تَقُومَ السَّاعَةِ) الهجرة لا تنقطع ما بقي الجهاد.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» رواه البخاري (2783)، ومسلم (1353) عن ابْنِ عَبَّاسٍ، فهذا لأن مكة صارت بلد إسلام.
والمهاجر لا يحل له أن يرجع إلى بلده ويبقى فيها، حتى ولو صارت بلد إسلام إلا ثلاثة أيام-وهذا من مشقة الهجرة-كما في «صحيح مسلم»(1352) عن الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لِلْمُهَاجِرِ إِقَامَةُ ثَلَاثٍ بَعْدَ الصَّدَرِ بِمَكَّةَ»، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا .
وهناك بعض استثناءات كضرورة علاج ونحو ذلك.
(فَلَمَّا استَقَرَّ بِالمَدِينَةِ أَمَرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسلَامِ، مِثلُ: الزَّكَاةِ) فيها قولان لأهل العلم:
أحدهما: أنها فرضت في المدينة.
الثاني: أنها فرضت في مكة، قال تَعَالَى: ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾[فصلت: 6-7]. وهذه الآية مكية، قالوا: ولكن أنصباؤها وتفصيل الكلام عليها شرع في المدينة، وبهذا يجمع بين الأدلة.
(وَالصَّومِ) فرض في المدينة السنة الثانية من الهجرة، فتوفي صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات.
(وَالحَجِّ) فرض بالمدينة، وفي تحديد السنة خلاف، فمنهم من قال: في السنة السادسة، واستدلوا بقوله تَعَالَى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، ومنهم من قال: في السنة التاسعة، وهذا قول جمهور أهل العلم، ومنهم من قال: في التاسعة أو العاشرة، القول الأخير فيه تردد.
(وَالجِهَادِ) فرض في السنة الثانية من الهجرة.
(وَالأَذَانِ) فرض في السنة الأولى، وقيل: في السنة الثانية.
والنّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن هناك أذان، فكانوا يتحينون الصلاة ثم يخرجون.
(أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشرَ سِنِينَ) هذه المدة التي بقيها صلى الله عليه وسلم في المدينة: عشر سنين.
والدليل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ، فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم» رواه البخاري (3851).
(وَبَعدَهَا تُوُفِّيَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ) ووفاته صلى الله عليه وسلم كانت في رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وقد أصيب الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم بمصيبة لا أشد منها.
(وَدِينُهُ بَاقٍ) لأن الله تكفل بحفظه.
(لَا خَيرَ إِلَّا دَلَّ الأُمَّةُ عَلَيهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَهَا مِنهُ)
روى مسلم (1844) عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو أن النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ».
(بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَافتَرَضَ اللهُ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَينِ: الجِنِّ وَالإِنسِ) فرسالته صلى الله عليه وسلم عامة، وروى البخاري (335، 438)، ومسلم (521) عن جَابِرِ الحديث وفيه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً». وأدلة أخر: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19].
(وَأَكمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]).
وهذه من أعظم النعم على هذه الأمة أن الله أكمل لها هذا الدين، وهذه الآية نزلت في حجته صلى الله عليه وسلم بعرفة.
قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
وهذا يفيدنا أن اليهود يخترعون الأعياد بأهوائهم، ولكن نحن نتبع في أعيادنا الشرع، فليس لنا إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى.