عدم إجبار النفس على أكل الشيء الذي تعافه
عن ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَيْفُ اللَّهِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ، وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا، قَدْ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ، هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيَّ. رواه البخاري(5391)، ومسلم (1946).
وفي رواية أن المرأة ميمونة.
في هذا الحديث: ترك ما تعافه النفس من المأكولات والمشروبات.
قال ابن القيم رَحِمَهُ الله في «زاد المعاد»(4/199): وَكَانَ إِذَا عَافَتْ نَفْسُهُ الطَّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ، وَلَمْ يُحَمِّلْهَا إِيَّاهُ عَلَى كُرْهٍ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ، فَمَتَى أَكَلَ الْإِنْسَانُ مَا تَعَافُهُ نَفْسُهُ، وَلَا يَشْتَهِيهِ، كَانَ تَضَرُّرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنِ انْتِفَاعِهِ.
وقال ابن كثير في « الفصول في سيرة الرسول» بعد ذكر حديث الضب: وَهَكَذَا يُكرَهُ لِكُلِّ مَن كَرِهَ أَكلَ شَيءٍ أَن يَأكُلَهُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِن مِن القَرَفِ التَّلَفَ».
وَقَد كَرِهَ الأَطِبَّاءُ ذَلِكَ؛ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِن سُوءِ المِزَاجِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ.
وقال الحافظ في « فتح الباري»(5537): وَفِيه وفور عقل ميمونة أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَظِيمُ نَصِيحَتِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهَا فَهِمَتْ مَظِنَّةَ نُفُورِهِ عَنْ أَكْلِهِ بِمَا اسْتَقَرَّتْ مِنْهُ، فَخَشِيَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَأَذَّى بِأَكْلِهِ؛ لِاسْتِقْذَارِهِ لَهُ، فَصَدَقَتْ فَرَاسَتُهَا.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَتَقَذَّرَ شَيْئًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَلِّسَ لَهُ؛ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ مِنْ بعض النَّاس. اهـ.
وهذا من مسائل الطب النبوي: أنَّ الشيء الذي تعافه النفس لا ينبغي إجبارُها على أكله، فقد يضر، وقد يزيد المرض؛ ولهذا كره الأطباء ذلكَ، قال ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَد كَرِهَ الأَطِبَّاءُ ذَلِكَ؛ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِن سُوءِ المِزَاجِ) الحافظ ابن كثير ينقل عن الأطباء أن النفس إذا كرهت شيئًا فيُترك أكلُهُ، ولا تُجْبَر على ذلك الطعام أو الشر ب؛ لما يؤدي إليه من سوء المزاج وتغييرِهِ.
والمزاج يحتاج إلى سياسة حتى يكون حسنًا مرتاحًا، وهناك أسباب تغيِّر المزاج غير هذا: كالأحزان، والأمراض، والمشاكل، والمعاصي من أعظمها، وقد يكون هذا بسبب وراثة، القلق المستمر والتوتر، وقلة النوم، والجوع، وقد يكون سبب تغير المزاج سوء الغذاء، والأكل الكثير.
والمرأة عندها تغير المزاج أكثر من الرجل؛ لضعفها، وخاصة عند الحمل، وفترة النفاس، وعند قرب مجيء الحيض، فقبل نزول الحيض بأيام المرأة تشعر بتغير المزاج، وكذلك الأيام الأولى من الحيض، ويأتي من وراء ذلك التوتر وسوء الخلق وسوء التصرفات، وهذا شيء قد لا تنتبه له المرأة أنها في هذا الوقت لا بُد أن يحصل لها تغير مزاج، وأنها بحاجة إلى القُرْبِ من ربِّها، فتستعين بالله سُبحَانَهُ، ولا تجعل للشيطان مدخلًا عليها، حتى إن إحدى النساء تستفسر وتقول: أنا كل ما يأتيني الحيض لا بد أن أقع في مشكلة، وفي خصام مع الأهل.
فتحتاج المرأة أن تلجأ إلى الله سُبحَانَهُ، وتستعين بالله عَزَّ وَجَل، وتكثر من ذكر الله تَعَالَى وقراءة القرآن؛ لتطرد الشيطان، ولا يتقوى عليها، وتحتاج إلى شيء من الراحة، حتى تتعدى تلك الأيام على خير إن شاء الله.
فإصلاح المزاج أمر مهم، في كل الأحوال وفي جميع الأوقات.
وطالبة العلم مِن أحوج ما يكون إلى هذا!
لتسير على أحسن حال، وتبتعد عن العوائق والعراقيل.
ومع ما تقدم أيضًا: حُسْن الغِذاء، يُصلح المزاج، النوم الذي لا بد منه- أربع ساعات أو خمس ساعات قد لا تكفي-، وكلٌّ بحسبه الست الساعات أو السبع، فحاجة الأجسام تختلف.
وأما الحديث الذي استدل به ابن كثير: «إِن مِن القَرَفِ التَّلَفَ»، فهو حديث ضعيف.
و«القَرَفِ» قال ابن الأثير في «النهاية»(4/ 46): القَرَف: مُلابَسَة الدَّاءِ ومُداناة المَرَض، والتَّلفُ: الْهَلَاكُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ العَدْوى، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الطِبّ؛ فَإِنَّ اسْتِصْلاح الْهَوَاءِ مِنْ أعْون الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ الأبْدان، وفَساد الْهَوَاءِ مِنْ أَسْرَعِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الأسْقام. اهـ.
عرفنا أن القرف: أن يمرض، أو يقرب من المرض، أي: من المرضى أو بلد فيها وباء، وقد ذكر ابن القيم في «زاد المعاد»(4/ 41) حِكَمًا من المنعِ من دخول الأرض التي فيها وباء، ومنها:
أَلَّا يُجَاوِرُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ قَدْ مَرِضُوا بِذَلِكَ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِمُجَاوَرَتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَمْرَاضِهِمْ. وذكر هذا الحديث. ثم قال: قَالَ ابن قتيبة: الْقَرَفُ مُدَانَاةُ الْوَبَاءِ، وَمُدَانَاةُ الْمَرْضَى.