تضمين الفعل معنى فعل آخر
شَرِبنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَت ۞۞۞ مَتَى لُجَجٍ خُضرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
«شربن بماء» الباء عند بعضهم في هذا الموضع تبعيضية بمعنى مِن.
ومنهم من قال: ليست تبعيضية، وأن «شرب» ضُمِّن معنى فعل آخر يناسب حرف الجر الباء، بمعنى «يروى»، ومنه قوله تعالى: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) ﴾ [الإنسان: 6]. أي: يروى.
فيكون قوله: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا﴾ أي: منها. وقول الشاعر: «شربن بماء البحر» أي: من ماء البحر.
ينظر: «مغني اللبيب»(142)، و«الجنى الداني في حروف المعاني»(43)، و«توضيح المقاصد» (2/758).
وابن القيم ينصر القول الثاني، وينكر تناوب الحروف ويجعل هذا من باب التضمين، وعزاه إلى فقهاء العربية، ونذكر نص كلامه رَحِمَهُ الله للفائدة:
قال في «بدائع الفوائد»(2/21): وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر. وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، فيشرِّبون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى، وطريقة حذاق أصحابه، يضمِّنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف.
وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار، تستدعي فطنة ولطافة في الذهن، وهذا نحو قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾[الإنسان:6]، فإنهم يضمِّنون يشرب معنى يروي، فيعدونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليل على الفعلين: أحدهما: بالتصريح به، والثاني: بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه، مع غاية الاختصار. وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، ومنه قوله في السحاب. ثم ذكر هذا البيت.
قال: وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها؛ فإنه لا دلالة فيه على الري، وأن يقال: يروى بها؛ لأنه لا يدل على الشرب بصريحه، بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري، بخلاف الباء، فتأمله، ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ﴾ [الحج:25]، وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء، ولكن ضمِّن معنى يهمُّ فيه بكذا، وهو أبلغ من الإرادة، فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة. اهـ المراد.