جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 6 أبريل 2021

فوائد من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

 رب زدني علما

❖❖❖

انتهينا ولله الحمد من درس « التبيان في آداب حملة القرآن » مع مجموعة من طالبات العلم  صباح يوم الاثنين 23 من شهر شعبان عام 1442، وسيتم إن شاء الله نشر ما تبقَّى مما لم يُنشر درسًا درسًا، وكان هنا تعليقةٌ على قول الإمام النووي رحمه الله في خاتمة كتابه ما نصُّه:

 (ابْتَدَأْتُ فِي جَمْعِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعِ الْأَوَّلِ ، وَفَرَغْتُ مِنْ جَمْعِهِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ  سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ). وقد رغِبنا في المبادرة بنشرها؛ ليُنتفعَ بها فدونكم:

هذه تعتبر بركة إلهية، ومنحة ربانية لهذا العالم الجليل الإمام النووي رَحِمَهُ الله فقد كتب هذا الكتاب القيم «التبيان في آداب حملة القرآن» في هذه المدة القصيرة في واحد وعشرين يومًا، وقد جعل الله لهذا العالم البركة في جهوده وتأليفه مع قِصر عمره، وأنتج وقدم للإسلام مؤلفات كثيرة، مع أنه لم يتجاوز عمره رَحِمَهُ الله  فوق الأربعين إلا قليلًا، فهذه بركة عظيمة.

وهذا من ثمار الإخلاص، والاجتهاد، والعمل الدؤوب، والإكثار من ذكر الله عَزَّ وَجَل، فهذه أسباب تجعل البركة بإذن الله عَزَّ وَجَل في الأعمار.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ الله ذكر تلميذه ابن عبد الهادي رَحِمَهُ الله أنه أملى «الحموية الكبرى» بين الظهر والعصر. ذكره في كتاب «العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية» (83): فقال: وَله الحموية الْكُبْرَى والحموية الصُّغْرَى، فَأَما الحموية الْكُبْرَى فأملاها بَين الظّهْر وَالْعصر.الخ.

الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ الله ألف «نخبة الفكر»  رسالة في علم الحديث ألفها وهو في السفر كما قال الصنعاني رَحِمَهُ الله:

وبَعدُ فَالنُّخْبة في عِلْم الأثرْ ❖❖❖مُخْتصرٌ يَا حَبَّذَا مِن مخْتصَرْ

ألفها الحافِظُ في حَال السّفرْ ❖❖❖ وهو الشّهابُ بْنُ علِّي بْنُ حجرْ

بركة عظيمة يكتبون من غير مراجع. وشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ الله كثيرًا من كتبه يكتبها من غير مراجع، وخاصة في فترة محنة السجن، ولا يُثنيهم مشاق السفر، ولا عدم وجود المراجع؛ فعلمهم كان في صدورهم رحمهم الله. والله يختص برحمته من يشاء.

ونحمد الله الذي وفقنا وأعاننا على الانتهاء من تدريس هذا الكتاب، مع طالبات مُجِدَّات يبعثن الهمة؛ لِما أجد من شدة شوقهن للعلم النافع ورغبتهن فيه، فلله الحمد والمنة، ونسأل الله عَزَّ وَجَل أن ينفعنا بذلك، فالعبرة بالكيفية لا بالكمية، ليس العبرة أن نكون انتهينا من «صحيح البخاري» مثلًا، ومن «تفسير ابن كثير»، ومن «التبيان في آداب حملة القرآن»، ومن كتاب كذا، ليس العبرة أن نكون انتهينا من حفظ القرآن، العبرة بما استفدنا وانتفعنا من المحفوظات والدروس، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها.

الإمام مالك بن أنس رَحِمَهُ الله يقول في الأثر المشهور: «إِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، إِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ». أخرجه الخطيب في«الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» ( 1526).

ليس العبرة بكثرة المحفوظات والمرويات، نقول: أخذنا، وأخذنا، ودرسنا: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) ﴾ [النور]. عافانا الله وإياكم.

وهذا الكتاب  الذي انتهينا منه كتاب عظيم ففيه تنبيه على أشياء دقيقة قد يكون الطالب في غفلة عنها: في أمور الإخلاص، وفي كثير من الأخلاق، والحث على الهمة العالية، وطلب العلم في وقت الشباب والقوة والنشاط، وآداب القراءة ... فنسأل الله أن يرحم هذا الإمام، وأن يجعله في ميزان حسناته.

فعلينا بالعمل بما استفدنا وتعلَّمنا ، فإن العلم والد والعمل مولود، والعلم شجرة والعمل ثمرة، والعلم إمام والعمل مأموم.

وما كانوا يعرفون الطالب بعلمه، وإنما يعرفونه بآدابه وأخلاقه وعبادته وسلوكه.

وما أحسن وصية الخطيب في «اقتضاء العلم العمل»( 14-15) لطالب العلم: إِنِّي مُوصِيكَ يَا طَالِبَ الْعِلْمِ: بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِهِ، وَإِجْهَادِ النَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ شَجَرَةٌ وَالْعَمَلَ ثَمَرَةٌ، وَلَيْسَ يُعَدُّ عَالِمًا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِهِ عَامِلًا.

 وَقِيلَ: الْعِلْمُ وَالِدٌ وَالْعَمَلُ مَوْلُودٌ، وَالْعِلْمُ مَعَ الْعَمَلِ، وَالرِّوَايَةُ مَعَ الدِّرَايَةِ.

 فَلَا تَأْنَسْ بِالْعَمَلِ مَا دُمْتَ مُسْتَوْحِشًا مِنَ الْعِلْمِ.

 وَلَا تَأْنَسْ بِالْعِلْمِ مَا كُنْتَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ وَلَكِنِ اجْمَعْ بَيْنَهُمَا.

 وَالْقَلِيلُ مِنْ هَذَا مَعَ الْقَلِيلِ مِنْ هَذَا أَنْجَى فِي الْعَاقِبَةِ إِذَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ، وَتَمَّمَ عَلَى عَبْدِهِ النِّعْمَةَ.

 فَأَمَّا الْمُدَافَعَةُ وَالْإِهْمَالُ وَحُبُّ الْهُوَيْنَى وَالِاسْتِرْسَالُ، وَإِيثَارُ الْخَفْضِ وَالدَّعَةِ وَالْمَيْلِ مَعَ الرَّاحَةِ وَالسَّعَةِ، فَإِنَّ خَوَاتِمَ هَذِهِ الْخِصَالِ ذَمِيمَةٌ، وَعُقْبَاهَا كَرِيهَةٌ وَخِيمَةٌ.

 وَالْعِلْمُ يُرَادُ لِلْعَمَلِ كَمَا الْعَمَلُ يُرَادُ لِلنَّجَاةِ، فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ قَاصِرًا عَنِ الْعِلْمِ، كَانَ الْعِلْمُ كَلًّا عَلَى الْعَالِمِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ عَادَ كَلًّا، وَأَوْرَثَ ذُلًّا، وَصَارَ فِي رَقَبَةِ صَاحِبِهِ غَلًّا. اهـ المراد.

ولقد ربى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صحابته تربية عظيمة في المسابقة إلى العمل، والاستسلام للدليل؛ فلذا ما كانوا يترددون طرفة عين، أو يقولون: هذا لم نألْفه، أو يقولون: هذا ليس بحرام إنما هو مكروه، كانوا إذا سمعوا الدليل مباشرة يدخلون في العمل، بركة عظيمة.

وانظرن إلى ما ثبت عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في شأن الحجاب، قالت: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31] شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا. رواه البخاري (4758).

يعني: مباشرة إلى العمل والامتثال.

وفي ذات مرة نزل الصحابة، وكانوا في سفر مع النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، فلما نزلوا تفرقوا كل ذهب إلى جهة، فقال النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكرًا عليهم: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ». فكانوا بعد ذلك إذا نزلوا منزلًا لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم. سبحان الله تطبيقٌ وعمل! ما قالوا: إن فيه ضيقًا ومشقة أن يقترب بعضنا من بعض، هنيئًا لهم، كانوا يطبِّقون كلام النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أشد مما يطبق المريض العاقل كلام الطبيب الناصح.

والحديث المذكور رواه أبو داود (2628 وهو في «الصحيح المسند»  (1211) لوالدي رَحِمَهُ الله عن أَبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ.

وكم نخشى على أنفسنا والله من كثرة تقصيرنا في العمل، و السلف رحمهم الله مع علمهم وتقواهم ومبادرتهم للعمل لا يزالون يتخوفون، ويقولون: ليتنا نجونا من هذا الأمر- يعني العلم- لا لنا ولا علينا.

قال ابن أبي حاتم رَحِمَهُ الله في «الجرح والتعديل» (1/62): كانوا يتخوفون من أفضل أعمالهم.

فكيف بنا نحن المقصرات في العمل، وقد يكون في أشياء واجبة لا يجوز لنا التقصير فيها؛ ولهذا رَحِمَ الله والدي وغفر له إذ يقول: نخشى والله أن الناس يدخلون الجنة، ونحن عند الأبواب، أو قد ذُهب بنا إلى كذا وكذا، والعياذ بالله.

فنسأل الله عَزَّ وَجَل العافية.

وعَالِمٌ بعِلمِهِ لَمْ يَعْمَلَنّْ❖❖❖ مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الوَثَنْ

وابن الوردي رَحِمَهُ الله في «اللامية» يقول:

في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى❖❖❖ وجمالُ العلمِ إصلاحُ العملْ

فعلينا بتفقد أنفسنا ومحاسبتها، وأن نرحمها والله من أن نعرضها لعذاب الله عَزَّ وَجَل وسخطه ومقته.

نسأل الله عَزَّ وَجَل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، وبارك الله فيكن وأسأل الله لي ولكن الثبات.

هذا، ونحن قادمات إن شاء الله إلى أيام مباركة، وهي أيام شهر رمضان، فالجد والاجتهاد في طاعة الله، والتقرب إلى الله عَزَّ وَجَل، فهي أيام معدودات، كما قال تَعَالَى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة:184]. أيام قليلة وهي فرصة من الفرص، نسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يبارك لنا فيه وأن يجعلنا من الفائزين به، والحمد لله رب العالمين.