جديد المدونة

جديد الرسائل

الاثنين، 19 أكتوبر 2020

اختصار الدرس الثلاثين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب المتعلم

البكور في طلب العلم

عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ بَارِك لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1000) من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير. والحديث حسن؛ من أجل أبي الزبير، ولا تضر عنعنته إذا كان الراوي عنه الليث بن سعد.

فيه أن من آداب الطالب: التبكير في تلقي العلم، فيأخذ دروسه في الصباح. وهذا الوقت تنزل فيه البركات، فالذي يأخذ دروسه في الصباح يستفيد، ويسهل عليه فهمُه وحفظه، وقد لا ينساه بعد ذلك.

بكور اليوم: هو أول النهار، وهذا عام البكور في طلب العلم، وفي تلقي العلم، وفي البحث، والحفظ، والأذكار، وفي السفر، حتى في الأعمال الدنيوية: كالتجارة، والزراعة. فهذه بركة عظيمة.

تضييع البكور في النوم، وفي الأشياء التافهة غفلة عن الخير، وحرمان عظيم ومضيعة للوقت، يقول أبو وائل شقيق بن سلمة: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ، فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَنَا، قَالَ: فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً، قَالَ: فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ، فَقَالَتْ: أَلَا تَدْخُلُونَ، فَدَخَلْنَا، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لَا، إِلَّا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ، قَالَ: ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً»الأثر رواه مسلم (822 ورواه البخاري مختصرًا (5043).

قال المباركفوري رَحِمَهُ الله في «منة المنعم شرح صحيح مسلم» (1/516) فيه: دليل على أن النوم بعد صلاة الفجر غفلة. اهـ.

وفي النوم بعد صلاة الفجر أضرارٌ صحية، كما ذكر هذا ابن القيم في «الطب النبوي»(181).

فأول اليوم له مزية على غيره لا ينبغي التفريط فيه، قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة»(2/216): أول النَّهَار بِمَنْزِلَة شبابه وَآخره بِمَنْزِلَة شيخوخته. وهذا أمرٌ معلومٌ بالتجربة، وحكمةُ الله تقتضيه. اهـ.

وقال ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين» (1/457): وَمِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهُمُ النَّوْمُ بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ غَنِيمَةٍ، وَلِلسَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ عِنْدَ السَّالِكِينَ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى لَوْ سَارُوا طُولَ لَيْلِهِمْ لَمْ يَسْمَحُوا بِالْقُعُودِ عَنِ السَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَمِفْتَاحُهُ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْأَرْزَاقِ، وَحُصُولِ الْقَسْمِ، وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ النَّهَارُ، وَيَنْسَحِبُ حُكْمُ جَمِيعِهِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْحِصَّةِ. اهـ.

ومن بركة استغلال بكور اليوم: أنه يجر البركة لبقية اليوم، فإذا استغل صباحه وجد بركةً عظيمةً في بقية يومه ونشاطًا وسعادة.

ويعين على معرفة قيمة وقت الصباح: العلم النافع، والصبر ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) [السجدة والهمة العالية، والدعاء أيضًا، ومعرفة الفضائل، وأدلة الترغيب في فضل البكور. فكم ينجح الذين يستغلون بكور يومهم، حتى إن هذا يعرفه أهل الأعمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأوقات التي ينبغي ترك النوم فيها:

بعد صلاة الفجر: فقد قال النّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«اللهُمَّ بَارِك لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا».

قبل صلاة العشاء: عن أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان «لا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، -أي: قبل صلاة العشاء-وَلاَ الحَدِيثَ بَعْدَهَا» رواه البخاري (771 ومسلم (647).

كره النبي صلى الله عليه وسلم النوم قبل صلاة العشاء حتى لا يفوته صلاة العشاء، و(بَعْدَهَا) أي: بعد صلاة العشاء حتى لا يفوته آخر الليل وبكور اليوم.

فاستغلال هذين الوقتين يستدعي ترك السهر في الليل، ويقضي على السهر بالليل، فنسأل الله أن يوفقنا وإياكن.

كان والدي ينصح الذي قد تعود على النوم بعد صلاة الفجر -بالنسبة لطلابه- أن يخرج إلى الوادي –الوادي بجوار مسجدنا-فيمشي يومين أو ثلاثة حتى تذهب عنه هذه العادة السيئة.

والمراد أنه يجاهد حتى تعتاد نفسُه استغلال بكور اليوم في قراءة الأذكار بعد الصلاة، وأذكار الصباح ومراجعة القرآن، ونحو ذلك.

النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه أنه كان لا ينصرف من مصلاه حتى تطلع الشمس، كما ثبت عن جابر بن سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: «كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ، أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ» رواه مسلم(670).

النوم آخر الليل؛ لأنه وقت خير وبركة، ينزل الله فيه إلى السماء الدنيا، كما في الحديث الذي رواه البخاري(7494 ومسلم (758) واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ». الله سبحانه ينادي عباده أن لا يغفلوا عن هذا الوقت النفيس.

وهناك وقت رابع بعد صلاة العصر: هذا ورد في حديث ضعيف عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ نَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ فَلا يَلُوَمَّنَ إِلا نَفْسَهُ». رواه ابن عدي في «الكامل»(5/240 وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/69 والراوي عن عمرو بن شعيب ابن لهيعة، وابن لهيعة ضعيف.

وقد استفدنا من دروس والدي رَحِمَهُ الله أن الحديث ضعيف فيه عبدالله بن لهيعة، وكذلك الشيخ الألباني رَحِمَهُ الله يضعفه في «سلسلة الأحاديث الضعيفة»(39 وله بعض الطرق الأخرى لكنها لا تصح.

إذن هذه أربعة أوقات في ترك النوم فيها، أما النهي عن النوم بعد صلاة العصر فمعتمد على حديث ضعيف، كما تقدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحافظة على المحفوظات

من آداب الطالب المحافظة على محفوظاته من النسيان، وهذا يكون بالمراجعة والتكرار، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تَعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» رواه البخاري (5033 ومسلم (791) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

في هذا الحديث: ضرب مثل للحفظ أنه يتفلت سريعًا كالناقة المربوطة إذا تفلتت من الوثاق -الرباط-ذهبت بعيدًا، ولا ترجع إلا بصعوبة ومشقة، وهكذا أيضًا الذي يتفلت منه القرآن-نسأل الله أن لا يحرمنا-أو بعض الأحاديث، أو غير ذلك من المحفوظات، ليس من السهل إرجاعه.

فالمحفوظات تحتاج إلى محافظة عليها من النسيان، وهذا يحتاج إلى صبر ومداومة حتى الموت.

سمعت والدي رَحِمَهُ الله يقول: الحفظ شاق وأشق منه المراجعة؛ لأن المراجعة يكون باستمرار.

وإهمال المحفوظات آفة من آفات العلم، فآفة العلم النسيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدم الإيثار الطالب بنوبته

قال الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في «شرح مقدمة المجموع»(208): يعني: إذا وصله الدَّورُ فلا يقول: يا فلان، قم عني بنوبتي، بل هو الذي يقوم بها. اهـ.

هذا من آداب الطالب أنه لا يؤثر بنوبته غيره،وذلك للأدلة التي فيها الحث على المسابقة والمنافسة في الخير، قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148].

أخرج البخاري (615 ومسلم (437) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».

ونقل النووي في «شرح صحيح مسلم» تحت رقم (2030) عن العلماء عدم الإيثار بالقرب وكراهة الإيثار للغير بموضعه من الصف الأول، وكذلك نظائره.

وفصَّل ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في مسألة الإيثار بالقرب من شرحه ل «مقدمة المجموع» (ص152 وقال: أما القُرَب الواجبة، فالإيثار بها محرم. ولا يجوز للإنسان أن يؤثر غيره بها، كرجل ليس معه من الماء إلا ما يكفي لوضوئه أو وضوء صاحبه، فهذا الإيثار حرام لا يجوز؛ لأنك سوف تسقط به واجبًا عليك.

وأما الإيثار بالقرب المستحبة فهذا فيه تفصيل إن كان في ذلك مصلحة فلا بأس، كما لو آثرت والدك بالصف الأول في المسجد. يعني: إنسان في الصف الأول ودخل والده فآثره بذلك فهذا لا بأس به، بل قد يكون خيرًا لما فيه من إيصال البر للوالد.

وكذلك لو آثرت به من له حق عليك فلا بأس، أما إذا لم يكن هناك سبب فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه يكره الإيثار لأنه يدل على رغبة الإنسان عن الخير. اهـ.

وتكلم على المسألة أيضًا الشيخ ابن عثيمين في «جلسات رمضانية» (ص 21) بنحو ما تقدم.

وأما ابن القيم رَحِمَهُ الله فإنه يرى جواز الإيثار بالقربات، كما في «زاد المعاد »(3/442).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإيثار بحظوظ النفس

حظوظ النفس، مثلًا: طعام، شراب، لباس. الإيثار فيه محبوب عند الله؛ لهذا يقول الله في الثناء على الأنصار: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر]. وسبب نزول هذه الآية ثابتٌ منْ حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي الجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ؟» فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ العَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ، وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ-أَوْ ضَحِكَ-مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]. رواه البخاري (4889 ومسلم (2054).

 الأنصار عندهم مكارم وأخلاق عالية، وإيثار عظيم، ثبت عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ، تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَزَوَّجْتَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «وَمَنْ؟»، قَالَ: امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: «كَمْ سُقْتَ؟»، قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ-أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» رواه البخاري (2048).

كان من تعليق والدي رَحِمَهُ الله على هذا الحديث في درسٍ لنا في «صحيح البخاري»: هذا-يعني: سعد بن الربيع-في غاية الكرم، وهذا يعني: عبد الرحمن بن عوف-غاية في العفة والنزاهة. اهـ.

كرم عجيب، وإيثار بالغ حتى إن سعد بن الربيع الأنصاري أراد أن يتنازل لأخيه في الله المهاجري عبد الرحمن بن عوف عن إحدى زوجاته، فالأنصار كانوا آية في الإيثار.

والنفس من طبيعتها عدم الإيثار؛ لأن الإيثار يعطي الشيء وهو بحاجته.

وهناك أمور تُسهِّل هذا الخُلُقَ العالي، قال ابن القيم في «طريق الهجرتين» (1/300): فإن قيل: فما الذى يسهل على النفس هذا الإيثار، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟ قيل: يسهله أُمور:

أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.

الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.

الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها. اهـ المراد.