(اعلَم أَرشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ) فيه الدعاء للمخاطب وللطالب بالرُّشد.
والرشد: ضد الغي، والرشد نأخذه من الكتاب والسنة، ولن يكون أحد من الراشدين إلا بصفتين: الإيمان بالله وحده لا شريك له، والامتثال لأمره.
(لِطَاعَتِهِ) الطاعة: موافقة المراد، فعلًا للمأمور وتركًا للمحظور. كما في «شرح ثلاثة الأصول»(37)للعثيمين رحمه الله.
(أَنَّ الحَنِيفِيَّةَ مِلَّةُ إِبرَاهِيمَ: أَن تَعبُدَ اللهَ وَحدَهُ مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ)
الحنيف: هو المقبل على الله المعرض عما سواه.
الله يأمر نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ باتباع ملة ابراهيم: ﴿ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)﴾ [النحل:123]. وأمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تبع له، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130)﴾ [البقرة:130].
في هاتين الآيتين: الأمر باتباع ملة نبي الله براهيم عليه الصلاة والسلام.
وقال عَزَّ وَجَل في الاقتداء بالأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90]. فدين الأنبياء واحد من حيث أصول التوحيد والعقيدة والمكارم، وأما شرائعهم فمختلفة كما قال سُبحَانَهُ: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة:48].
(مِلَّةُ إِبرَاهِيمَ: أَن تَعبُدَ اللهَ وَحدَهُ مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ) فيه أن ملة أبينا إبراهيم فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له.
(مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ) ولا تقبل العبادة إلا بالتوحيد والإخلاص ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) ﴾ [الكهف:110].
وروى مسلم (2985) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ».
(وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُم لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾ [الذاريات:56]. وَمَعنَى يَعبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ)
هذه الغاية من خلق الثقلين -الإنس والجن- أن يعبدوا الله وحده.
(وَمَعنَى يَعبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ) هذا تفسير ﴿ لِيَعْبُدُونِ﴾، وقال بعضهم: إلا لآمرهم وأنهاهم، وهذا التعريف أعم يدخل فيه توحيد الله عَزَّ وَجَل وغيره من الأوامر والنواهي.
ومما يؤيد القول الثاني أن شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ قال: الْعِبَادَة هِيَ: اسْم جَامع لكل مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْأَقْوَال والأعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة.
والعبادة في اللغة: الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبَّدٌ، أي: مذلَّلٌ.
والعبودية قسمان: عبودية عامة، وهي: عبودية القهر والمُلك، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿نْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) ﴾ [مريم:93].
وعبودة خاصة، وهي: عبودية امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، قال سُبحَانَهُ: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان:63]. هي التي تنفع، وهي التي فيها النجاة من النار، أما عبودية القهر والملك فهي بغير اختيار أحد، وهي ملك لله، الكل عبيد لله عَزَّ وَجَل.
وبعضهم يزيد عبودية خاصة الخاصة: من الأنبياء، والمسابقين من أولياء الرحمن.
وقد استفدنا من والدي رَحِمَهُ اللهُ أن هذا التعبير تعبير صوفي؛ الأولى تركه -عبودية خاصة الخاصة-.
قال رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَعظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ: التَّوحِيدُ، وَهُوَ إِفرَادُ اللهِ بِالعِبَادَةِ)
قال سُبحَانَهُ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[الإسراء:23].
(وَهُوَ إِفرَادُ اللهِ بِالعِبَادَةِ) هذا توحيد الألوهية، وهو الذي يحاجُّ الأنبياء قومهم عليه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف:95]. وفي آيات كثيرة الله عَزَّ وَجَل يحاج مشركي قريش على إقرارهم بتوحيد الربوبية وإنكارهم توحيد الألوهية؛ لأنه يلزم من أقر بتوحيد الربوبية أن بقر بتوحيد الألوهية، فالله عَزَّ وَجَل يحاجهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) ﴾ [الزخرف:87].
فيلزم من أقرَّ بتوحيد الربوبية أن يوحِّد الله في ألوهيته، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
شروط توحيد الألوهية:
عِلْمٌ يَقِينٌ وَإخْلَاصٌ وَصِدْقُكَ مَعْ ... مَحَبَّةٍ وَانْقِيَادٍ وَالقَبُولِ لَهَا
وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من الأنداد قد ألها
أركان «لا إله إلا الله»:
لها ركنان: نفي، وإثبات. النفي في قوله: «لا إله» أي: نفي لجميع ما يُعبد من دون الله . «إلا الله» إثبات العبودية لله وحده لا شريك له، قال تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)﴾ [الحج:62].
(وَأَعظَمُ مَا نَهَى عَنهُ: الشِّركُ وَهُوَ دَعوَةُ غَيرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾[النساء:36].)
قال سُبحَانَهُ: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾ [البقرة:22]. وسئل النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ».عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه البخاري (4477)، ومسلم (86).
(وَهُوَ دَعوَةُ غَيرِهِ مَعَهُ) نص على دعاء غير الله، ويشمل كل عبادة تُصرف لغير الله، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يقول: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» رواه أبوداود في «سننه» (1479) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وهو في «الصحيح المسند» لوالدي رحمه الله.
والشرك على قسمين:
شرك أكبر: هو مساواة غير الله بالله فيما هو خاص بالله.
شرك أصغر: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر. ومن أمثلته: يسير الرياء، وقول: ما شاء الله وشاء محمد، والحلف بغير الله، إذا لم يعتقد تعظيم المخلوق كتعظيمه لله أو أشد، فهذا شرك أصغر، أما إذا اعتقد تعظيم المحلوف به كتعظيمه لله أو أشد فهو شرك أكبر.