«سنن الترمذي» أصلٌ في معرفة الحديث الحسن
الإمام الترمذي رَحِمَهُ اللهُ نجده يقول كثيرًا في «السنن»: هذا حديث حسن، وقد يقول: حسن صحيح، أو يقول: حسن صحيح غريب. ويوجد ذكر الحسن في كلام أهل العلم ممن سبقه كالبخاري وأحمد، ولكن أكثر منه الإمام الترمذي؛ ولهذا صار «سنن الترمذي» أصلًا في معرفة الحديث الحسن.
ــــــــــــــــــــ
من مظان الحديث الحسن «سنن أبي داود»
قال أبو داود: (ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ، وَمَا لَم أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ، وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ) وهذا ثابت عنه، ذكره أبو داود في «رسالته إلى أهل مكة»(27)، وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد».
وقوله: (وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ) ما يشبه الصحيح الحسن لذاته، وما يقاربه الحسن لغيره.
(وَمَا كَانَ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ) فإذا أخرج أبو داود في «سننه» لِمن به ضعفٌ شديد بيَّنه.
(وَمَا لَم أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ) قال والدي رحمه الله في «السير الحثيث» (72): الذي لم يذكر فيه شيئًا: منه ما هو في «الصحيح»، في «صحيح البخاري»، ومنه ما هو صالح للحجية، ليس في «صحيح البخاري»، ولكنه صحيح أو حسن، ومنه ما هو صالح للشواهد والمتابعات. اهـ.
فقول أبي داود: (فَهُوَ صَالِحٌ) قد يكون صالحًا للحجية أو للاعتبار.
(وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ) الصحيح في «سنن أبي داود» على مراتب تختلف في القوَّة.
فأبو داود يذكر في «سننه» تحت كل باب أصح ما عرفه فيه.
ويروى عنه أنه قال: (وَمَا سَكَتَ عَنْهُ هُوَ حَسَنٌ)، كذا قال الحافظ ابن كثير، وقد تعقَّبه الحافظ ابن حجر في «النكت» (1/432) أن النسخ المعتمدة التي وقف عليها ليس فيها هذا.
و في «مراجعة تدريب الراوي» يُؤيِّد والدي الحافظ ابن حجر، ويقول: صحيح، هذا الذي ينبغي أن يُعتَمَدَ.
و«سنن أبي داود» رواها عن أبي داود جمع، وأشهر الروايات وأتمُّها رواية أبي بكر ابن داسة.
وأكثر شيء اهتم أبو داود في «سننه» بأحاديث الفقه، قال والدي رَحِمَهُ اللهُ في «مراجعة تدريب الراوي»: هي من أكبر المراجع في أحاديث الأحكام والعبادات.
ـــــــــــــــــــــــ
«مصابيح السنة» للبغوي
اصطلح الإمام البغوي في هذا الكتاب باصطلاح خاص، وهو أن الصحيح ما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما، والحسن ما رواه أبو داود والترمذي وما أشبههما.
وهذا الاصطلاح خاص به. والإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ ينكر على البغوي بأن هناك أحاديث في «المصابيح» منكرة، وهذا ينقض ما ذكره، وبعضهم قال: هذا اصطلاح للبغوي ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذا قول التبريزي كما في «النكت على ابن الصلاح» للحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ.
والتبريزي له «مشكاة المصابيح» مختصر من «المصابيح».
فـ«مصابيح السنة» للبغوي عليها عدةُ شروح: «شرح المصابيح» لابن الملَكِ، و«المفاتيح في شرح المصابيح» للمظهري. وهناك عدة شروح على «مشكاة المصابيح» منها:
«شرح الطيبي»، «مرقاة المصابيح» للقاري، و«مرعاة المصابيح» للمباركفوري.
ــــــــــــــــــــــ
قاعدة: لا يلزم من الحكم بالصحة أو الحُسْن على الإسناد أن يكون المتن كذلك؛ إذ قد يكون شاذًّا أو معلًّا.
هل الأصل في الأحاديث أنه يوجد فيها علة أو السلامة من العلة والشذوذ؟
الأصل السلامة من العلة والشذوذ.
والعلة تعرف بجمع الطرق، وكذلك قد يكون هنالك فائدة أخرى التفسير، فالروايات يفسر بعضها بعضا.
لكن على من يقوم بهذا أن يحذر من الاغترار أو الرياء، ومن التباهي والتكاثر والتفاخر، وأن يحذر أن يخرج عن الاهتمام بالأشياء النافعة، قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)﴾[التكاثر].
قال ابن القيم رحمه الله في «عِدَة الصابرين»(171): منهم من يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم فيجمعه تكاثرًا وتفاخرًا، وهذا أسوأ حالًا عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه؛ فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها. اهـ.
فنسأل الله العافية، ما أكثر دسائس الإرادات ووساوس الشيطان!
ــــــــــــــــــــــ
مراد الترمذي بقوله: حسن صحيح
مسألة: قول الترمذي رَحِمَهُ اللهُ في الحكم على الحديث: حسن صحيح، هذا مشكل؛ لأن الحسن دون الصحيح، فكيف يجمع بينهما في حديث واحد؛ ولهذا اختلف العلماء في مراد الإمام الترمذي على أقوال، منها:
أنه باعتبار إسنادين، أحدهما: حسن، والآخر: صحيح.
وهذا ينتقده الحافظ ابن كثير؛ لأنه هناك عبارة يقول فيها الترمذي: (حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِن هَذَا الْوَجْهِ) فأين الطريق الثانية؟!
أنه حسن باعتبار المتن وصحيح باعتبار الإسناد، هذا أيضًا تعقبه ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ، وقال: (وَفِي هَذَا نَظَرٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ يَقَولُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ مَرْوِيَّةٍ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ، وَفِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ).
قول ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ: أنه يشرب الحسن بالصحة، أي: يمزج، وانتقد هذا الحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ أن الترمذي يقول: (هذا حديث حسن صحيح) في أحاديث في أعلى درجة الصحة، فكيف يكون هنا يشرب الصحة بالحسن، وأن الإمام الترمذي رَحِمَهُ اللهُ لا يكاد يفرد الصحة إلا نادرًا فيقول: (هذا حديث صحيح)، والغالب أنه يضيف الحُسْنَ، فيقول: (هذا حديث حسن صحيح).
وكذلك تعقبه الحافظ العراقي رَحِمَهُ اللهُ في «التقييد والإيضاح»(62).
واستفدنا من والدي رَحِمَهُ اللهُ في هذه المسألة: أن أحسن ما ذُكر في هذا قول الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ: أن ما كان له إسنادان، وقال الترمذي فيه: هذا حديث حسن صحيح، فيكون صحيحًا باعتبار إسناد، حسنًا باعتبار إسناد آخر.
وما ليس له إلا إسناد واحد، فيكون هناك «أو» محذوفة للتردد حسن أو صحيح. اهـ.
والذي يحتاجه الباحث أن يبحث عن الأحاديث ويحكم عليها بما تستحقه.
ــــــــــــــــــــــ
الحديث الضعيف
عرفه ابن الصلاح: (هُوَ مَا لَم يَجْتَمِعْ فِيهِ صِفَاتُ الصَّحِيحِ وَلَا صِفَاتُ الْحَسَنِ)، وهذا منتقَد بأن ذكر الصحيح لا يحتاج له؛ لأن ما قصُر عن الحسن فهو عن الصحيح أقصر.
قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ في «النكت» (492): ولو عبر بقوله: كل حديث لم تجتمع فيه صفات القبول، لكان أسلم من الاعتراض وأخصر، والله أعلم.
وما أحسن قول العراقي رَحِمَهُ اللهُ في «الألفية»:
أمَّا الضَّعِيْفُ فَهْوَ مَا لَمْ يَبْلُغِ |
___ |
مَرْتَبَةَ الحُسْنِ، وإنْ بَسْطٌ بُغِي |
وقال البيقوني:
وكل ما عن رُتبة الحسن قصُر |
___ |
فهو الضعيف وهو أقسامًا كثُر |
متى يكون السند ضعيفًا؟
إذا فَقَدَ صفة من صفات القبول أو أكثر يكون ضعيفًا، إذا وُجِد فيه سقط يكون فقد شرطًا واحدًا، وهو: فقدُ الاتصال.
إذا فقد عدالة الراوي رُدَّ، والطعن في الراوي من جهة العدالة خمسة: الكذب، والتهمة، والفسق، والبدع، والجهالة.
والطعن في الراوي الذي يتعلق بانتفاء الضبط خمسة: فحش الغلط، والغفلة، والوهن، ومخالفة الثقات، وسوء الحفظ.