[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 67]
﴿وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها﴾ قال ابن كثير : ( أَيْ: إِلَّا مَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ).
﴿وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ ﴾ قال ابن كثير : (يَعْنِي: كِتَابَ الْأَعْمَالِ ) أي: كتاب أعمال بني آدم خيرًا أو شرًا كما قال ربنا: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) ﴾[الإنفطار:11]. وهذا قول أن المراد: كتاب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة، ورجحه الشنقيطي في « أضواء البيان» (5 / 336)، وقال: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكِتَابِ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ الَّذِي يُحْصِيهَا اللَّهُ فِيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾، الْآيَةَ، وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾. اهـ .
وقال بعض المفسرين: هو اللوح المحفوظ.
قال البغوي: في «تفسيره»(5 / 422) ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، "يَنْطِقُ بِالْحَقِّ" يُبَيِّنُ بِالصِّدْقِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا إِلَّا مَا أَطَاقَتْ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا عَمَلَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِهِ وَيُبَيِّنُهُ. اهـ .
وقوله: ﴿ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾ في تفسير البغوي كما تقدم ﴿ يَنْطِقُ ﴾ يبين بالصدق، وقال الشنقيطي في « أضواء البيان» (5 / 336): وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى نُطْقِ الْكِتَابِ بِالْحَقِّ: أَنَّ جَمِيعَ الْمَكْتُوبِ فِيهِ حَقٌّ، فَمَنْ قَرَأَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ، كَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ فِي قِرَاءَتِهِ لَهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَتِ الْعَرَبُ اسْمَ الْكَلَامِ عَلَى الْخَطِّ. اهـ.
فعلى هذا ليس معنى النطق هنا أنه يتكلم، ولكن جميع ما فيه حق، فهو يبين الحق ويوضحه، وتوجد عبارة في كلام بعض أهل العلم: وقد نطق القرآن بذلك، أي: بيَّنه ووضحه، والأحسن ترك هذه العبارة؛ لأنه ما جاءت الأدلة بهذه العبارة: نطق القرآن، نطقت السنة، والله أعلم.
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قال ابن كثير: (أَيْ: لَا يُبْخَسُونَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) سبحانه تكرمًا وإحسانًا، قال عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) ﴾[النساء:47].
﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ﴾ أي: في غَفْلَةٍ وَضَلَالَةٍ. ﴿مِنْ هَذَا﴾، أَيِ: الْقُرْآنُ الَّذِي أنزله عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
﴿وَلَهُمْ أَعْمالٌ﴾ أَيْ: سَيِّئَةٌ.
﴿مِنْ دُونِ ذلِكَ﴾ أي: من دون الشرك.
﴿هُمْ لَها عامِلُونَ ﴾ فلا بد أن يعملوا ذنوبًا عظيمة من دون الشرك ليست شركية.
وقول آخر (أي: قد كتبت عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لَا مَحَالَةَ، لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ). وهذا استظهره ابن كثير وقواه واستدل له بحديث ابن مسعود«فو الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا».
وقال بعضهم: إن هذا يعود إلى المسارعين إلى الخير ﴿وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ﴾، وهذا قول بعيد فالآية في سياق الكفار.
﴿حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾قال ابن كثير: (وَهُمُ السُّعَدَاءُ الْمُنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا) هذا تفسير المترفين.
وفي النص على المترفين دليل أن أهل الترف ونعيم الدنيا أغلبهم منبع الشر والفساد، وكما قال عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) ﴾[الإسراء:16] فأهل الترف مسابقون إلى الفسق والشر إلا من رحم الله منهم، فهم يسابقون إلى الأغاني و السينما وإلى شرب الخمور، يسابقون إلى الشر والفتن، كما أن المترفين أيضًا غالبًا لا يصبرون على طلب العلم؛ لأن الترف فتنة، ولهذا ربنا سبحانه وتعالى اختار لصفوة خلقه وهم الأنبياء ضيق الحال وقلة ذات اليد وهكذا أتباعهم غالبًا.
﴿إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ قال ابن كثير: (أَيْ: يَصْرُخُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ).
﴿لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ﴾ قال ابن كثير: (أَيْ: لَا يجيركم أحد مِمَّا حَلَّ بِكُمْ سَوَاءٌ جَأَرْتُمْ أَوْ سَكَتُّمْ لَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا وَزَرَ لَزِمَ الْأَمْرُ وَوَجَبَ الْعَذَابُ).
﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ الضَّمِيرُ فِي بِهِ فِيهِ ثلاثة أقوال: الأول : الحرم بمكة. قال ابن كثير: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أَيْ بِالْبَيْتِ يَفْتَخِرُونَ بِهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وليسوا به.
الثاني: ضمير القرآن، يعني: يعود إلى القرآن. والثالث: أنه يعود إلى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، هذه ثلاثة أقوال.
﴿سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ أي: تقولون الهُجْر، وهو الكلام الفاحش.
من الفوائد:
· يسر هذا الدين الحنيف دين الإسلام.
· تدوين أعمال الخلق.
· مراقبة الله عز وجل؛ لأن الأعمال مدونة فيراقب الإنسان ربه في أعماله وأقواله وتصرفاته وسره وعلانيته.
· نفي الظلم عن الله سبحانه.
· حسرة الكفار إذا رأوا العذاب، ولا محيص لهم.
· ذم السمر في الباطل، وهكذا السمر فيما لا فائدة فيه، النبي ﷺ« كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ العِشَاءَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالحَدِيثَ بَعْدَهَا» رواه البخاري(547)، ومسلم (647) أي: بعد صلاة العشاء، وإذا كان هناك فائدة، أو مصلحة، أو مؤانسة الضيف، أو مؤانسة الأهل والأولاد والمحادثة معهم فهذا لا بأس بذلك، وقد كان أبو بكر يسمر عند النبي ﷺ، وبوب الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ « بَابُ السَّمَرِ فِي الفِقْهِ وَالخَيْرِ بَعْدَ العِشَاءِ» وقال: « بَابُ السَّمَرِ فِي العِلْمِ» لكن السمر في الخير والعلم، وعلى حسب الحاجة.
أما الذين يسمرون على الجوالات والتلفازات واللقاءات الطويلة على القيل والقال فهذا مذموم، وكلما طال السَّمر حرم الإنسان من قيام آخر الليل، ومن القيام بنشاط لصلاة الفجر، واستغلال بكور اليوم، ويفوته النوم في الليل، ونوم النهار لا يقوم مقام نوم الليل، حتى ولو نام أضعاف ما ينامه بالليل يقوم وجسمه مرهق، بخلاف نوم الليل فيه بركة وعافية، وخاصة إذا كان على طريقة نوم الأنبياء نوم نبي الله داود عليه السلام ونوم نبينا محمد ﷺ النوم أول الليل؛ حتى إنه يذكر الأطباء أن النوم قبل منتصف الليل أنفع من النوم بعد منتصفه. والله المستعان بلاد الترف تحتاج إلى مجاهدة في تنظيم النوم في الليل، ولا بأس يجعل له بعضًا في النهار يتقوى بها، وخاصة وقت القيلولة إذا تيسر، فالقيلولة أنفع نوم النهار وتقَوِّي الجسم وتمده بالطاقة والراحة النفسية، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يقيلون، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: «عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ البَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ».. الحديث رواه البخاري(2894)، ومسلم(1912). وقد ورد حديث: « قيلوا فإن الشياطين لا تقيل » وقد ذكره الشيخ الألباني رحمه الله في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (1647).