ما حكم التعريف يوم عرفة لغير الحاج؟
أولًا المراد بالتعريف عشية عرفة، قال ابن القاسم في «حاشية الروض المربع» (2/523) التعريف هو اجتماع الناس في المساجد عشية عرفة، للدعاء والذكر، حتى تغرب الشمس، كما يفعله أهل عرفة. اهـ.
وهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا حث على فعله.
في «المغني»(2/296): قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ التَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ، يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ عَرَّفَ بِالْبَصْرَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَبَكْرٌ، وَثَابِتٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَذِكْرٌ لِلَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا.
وقال ابن القاسم في «حاشية الروض المربع» (2/523): والتحقيق أن الوقوف بعرفة عبادة مختصة، بمكان مخصوص، فلا يشبَّه هذا التعريف به، كسائر المناسك، بل مفسدة اعتقادية تتوقع، بل نفس الوقوف وكشف الرؤوس يستلزم التشبه، وقال قتادة عن الحسن: أول من صنع ذلك ابن عباس، وسئل عنه الحكم وحماد وإبراهيم فقالوا: محدث، وأجمع أهل العلم أن الأصل في العبادات التشريع، وقال شيخ الإسلام: بدعة، لم يره أبو حنيفة ومالك وغيرهما بغير عرفة، ولا نزاع بين العلماء أنه منكر، وفاعله ضال. اهـ.
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام يحمل والله أعلم على الذي يتشبَّه بأهل عرفة في لبس الإحرام والتلبية، وكشف الرأس...، أو يسافر إلى مسجد من المساجد كبيت المقدس؛ للتفرغ للعبادة في هذا اليوم.
ويوضِّح هذا ما ذكره رَحِمَهُ الله في «مجموع الفتاوى»(27/15): أَمَّا زِيَارَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَمَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَقْصِدُهَا الضُّلَّالُ: مِثْلَ وَقْتِ عِيدِ النَّحْرِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الضُّلَّالِ يُسَافِرُونَ إلَيْهِ؛ لِيَقِفُوا هُنَاكَ، وَالسَّفَرُ إلَيْهِ لِأَجْلِ التَّعْرِيفِ بِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا قُرْبَةٌ مُحَرَّمٌ بِلَا رَيْبٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَشَبَّهَ بِهِمْ وَلَا يُكَثَّرُ سَوَادُهُمْ.
وقال شيخ الإسلام في «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة»(222): وتعريف ابن عباس بالبصرة، وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته لم يمكن أن يقال: هذا سنة مستحبة.
بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا أنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانًا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة.
وتبيَّن من هذا أن شيخ الإسلام ينقل خلافًا في مسألة التعريف بعرفة لغير الحاج، فيُحمل المنع الذي لا نزاع في المنع منه على ما تقدم.
كما نستفيد مما ذُكِر: أن التعريف بعرفة لغير الحاج على قسمين:
التشبه بأهل عرفة بلبس الإحرام وكشف الرؤوس والتلبية، أو السفر لأجل هذا التعريف. هذا لا نزاع في إنكاره.
تحري الاجتماع في مساجد البلد عشية عرفة؛ للتفرغ للعبادة. وهذا فيه خلاف بين أهل العلم.
وقد ذكر هذا النوع الثاني ابن رجب في «لطائف المعارف»(272)، وقال: واختلف العلماء في التعريف بالأمصار عشية عرفة، وكان الإمام أحمد لا يفعله ولا ينكر على من فعله؛ لأنه روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة.
أما الشيخ الألباني فذكره في بدع عرفة في «حجة النبي صلى الله عليه وسلم»(126)، وقال: التعريف الذي يفعله بعض الناس من قصد الاجتماع عشية يوم عرفة في الجوامع، أو في مكان خارج البلد فيدعون ويذكرون، مع رفع الصوت الشديد والخطب والأشعار ويتشبهون بأهل عرفة.
هذا بعض ما يسَّر الله به في النقل عن أهل العلم في هذه المسألة.
وما أحسن ما تقدم عن شيخ الإسلام: لا بأس به أحيانًا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة.
أما أن يجتمع أهل البلد ويقصدون ويتحرون الاجتماع في المساجد، ويداومون عليه فهذا ليس بمشروع، وهو داخل في البدع.
ولا بأس أن يحرص المسلم على الدعاء يوم عرفة والذكر في بيته، خاليًا عن الناس، قال أبو شامة في « الباعث على إنكار البدع والحوادث»(32): قَالَ الطرطوشي: فاعلموا رحمكم الله أَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة علمُوا أَن أفضل الدُّعَاء يَوْم عَرَفَة، وَلَكِن علمُوا أَن ذَلِك بموطن عَرَفَة لَا فِي غَيرهَا، وَلَا منعُوا من خلا بِنَفسِهِ فحضرته نِيَّة صَادِقَة أَن يَدْعُو الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَرهُوا الْحَوَادِث فِي الدّين، وَأَن يظنّ الْعَوام أَن من سنة يَوْم عَرَفَة الاجتماع بِسَائِر الْآفَاق وَالدُّعَاء، فيتداعى الْأَمر إلى أَن يُدْخل فِي الدّين مَا لَيْسَ مِنْهُ. اهـ.
وخاصة إذا كان صائمًا، أو يتقدم إذا كان له عادة ويدخل المسجد فيتفرغ للذكر والدعاء، هذا يندرج في عمومات الأدلة في الحث على ذلك.