مِن الخَصَائِصِ عِصمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من خصائص النّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته أنه معصوم فيما طريقه البلاغ وعليه إجماع أهل العلم، قال الله تَعَالَى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ [النجم: 1-4]. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ» رواه أبو داود (3646)، وهو في «الصحيح المسند» (794) لوالدي رَحِمَهُ الله.
لَا يَجُوزُ عَلَيهِ التَّعَمُّدُ، أي: تعمد المخالفة، وهذا بإجماع أهل العلم.
ولَا يَجُوزُ عَلَيهِ الخَطَأُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وهو ما يحصل عن غير عمد، وهذا أيضًا عليه الإجماع سوى الشيء اليسير الذي قد يحصل عن خطأ، ومع ذلك فهو لا ينافي العصمة؛ لأنه قليل نادر، فإذا وقع الخطأ فإنَّ الله ينبه النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ولا يقره عليه. ومن ذلك قول الله تَعَالَى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في شأن المتخلفين: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) ﴾ [التوبة: 43].
وصلى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مرة في نعليه فجاءه جبريل وأمره بخلع نعليه فخلعهما وهو يصلي، ثم قَالَ للصحابة: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقْلِبْ نَعْلَهُ، فَلْيَنْظُرْ فِيهَا، فَإِنْ رَأَى بِهَا خَبَثًا فَلْيُمِسَّهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا»، وهو في «الصحيح المسند» تحت رقم (413) لوالدي رَحِمَهُ الله.
ومن أدعيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي» الحديث رواه البخاري (6398)، ومسلم (2719) عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
هذا، وينبغي التحفظ من الكلام في هذه المسألة وخاصة بين العوام؛ حتى لا يقع إنسان في شر ومزلقة أو يوقع غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هَل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يَجتَهِدَ؟
في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس له أن يجتهد، قالوا: لأنه قادر على النص، ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قد يُسأل أحيانًا وينتظر الجواب، ومن أمثلة ذلك: حديث ابن مسعود، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرِبِ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ، لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ يَا أَبَا القَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. رواه البخاري (125)، ومسلم (2794).
ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يتوقف في الجواب بسبب أنه لم ينزل عليه شيء كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُر، فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 8]. رواه البخاري(2371)، ومسلم(987)، وأحمد (9476).
القول الثاني: لَهُ أَن يَجتَهِدَ، ولَا يَجُوزُ عَلَيهِ الخَطَأُ في الاجتهاد.
القول الثالث: بَلْ لَا يُقَرُّ عَلَيهِ.
وقد تكلم الشوكاني رَحِمَهُ اللهُ على هذه المسألة في «إرشاد الفحول»(2/220)، وذكر الأدلة في بيان قول الجمهور على جواز الاجتهاد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، ورجحه كذلك، وكذلك رجحه الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ في «شرح صحيح مسلم»(3/144)، والشنقيطي في «دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب» (224).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِنَ الخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنَ العِلمِ بِاللهِ وَدِينِهِ مَبلَغَهُ
هذه المسألة معدودة في الخصائص النبوية، أن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كُلِّف وحده من العلم ما كلف الناس بأجمعهم، والله أعلم.
ودليل ذلك حَدِيث ابنِ عُمَرَ عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَينَا أَنَا نَائِمٌ إِذ أُتِيتُ بِقَدَحٍ فِيهِ لَبَنٍ فَشَرِبتُ مِنهُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَجرِي فِي أَظفَارِي، ثُمَّ أُعطِيتُ فَضلِي عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلتَ ذَلِكَ يَا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: العِلمَ». رواه البخاري (82) في كتاب العلم، ورواه مسلم (2391).
قَالَ ابن أبي جمرة: فِيهِ أَنَّ عِلْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ دَرَجَتَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ حَتَّى رَأَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَطْرَافِهِ. نقله عنه الحافظ في «فتح الباري»(12/394).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِنَ الخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى مَا لَا يَرَى غَيرُهُ مِنَ النَّاسِ
ومن ذلك:
v رؤيته بعض الملائكة ومنهم جبريل عليهم الصلاة والسلام.
v رؤية النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أشياء غيبية لا تُعلم إلا بالوحي، كما في حديث جابر في خطبة صلاة الكسوف، وفيه قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ».
v رؤيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بعض الشياطين، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ» ثُمَّ قَالَ «أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ» ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ: «إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ، جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» رواه مسلم (542).
v ومن ذلك: ما في حديث الإسراء، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الحِجْرِ، فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» رواه البخاري (3886)، ومسلم (170).
وقد ذُكرت أشياء في هذه المسألة بعضها فيها مبالغة ولم تستند على دليلٍ صحيح، منها: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ». ينظر «الشفا»(1/68)، وهذا يحتاج إلى دليل صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هَل مِنَ الخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ أَمرُ اللهِ لَهُ أَن يَختَارَ الآخِرَةَ عَلَى الأُولَى؟
قال الله تَعَالَى: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾ [الضحى: 4].
وقال تَعَالَى: ﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾ [الحجر: 88]. وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)﴾ [طه: 131]، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾[الكهف].
والأدلة التي فيها التحذير من الدنيا وفتنتها والترغيب في الآخرة عامة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ولأمته، قال تَعَالَى: ﴿ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) ﴾ [يوسف: 109].
وقد اختار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآخرة على الأولى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ»، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ » رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382).
وذكر سبحانه أن من اختارت الدنيا على الأخرى من نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تصلح أن تكونَ زوجًا لنبيه، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا(29)﴾[الأحزاب]. وقد اخترنَ الآخرة على الأولى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُن وأرضاهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِنِ الخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الشِّعْرَ
من الخصائص أنه يحرم عليه تعلم الشعر، قال تَعَالَى: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾.
وقد كان النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يقول بعض الكلمات من الشعر، مثل: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» رواه البخاري (2864)، ومسلم (1776) عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ.
وعن جُنْدَب بن عبد الله، يَقُولُ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ:
«هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ...وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» رواه البخاري (6146)، ومسلم (1796).
وهذا نادر، فلا يخرج عن وصف النّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لا يقول الشعر، وقد يتمثل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول غيره.
وأما حديث عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُبَالِي مَا أَتَيتُ إِن شَرِبتُ تِريَاقًا أَو تَعَلَّقتُ تَمِيمَةً، أَو قُلتُ الشِّعرَ مِن قِبَلِ نَفسِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، فهو حديث ضعيف؛ فيه عبدالرحمن بن رافع التنوخي ضعيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هَل مِنَ الخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحسِنُ الكِتَابَةَ وَأَنَّهُ يَحرُمُ عَلَيهِ ذَلِكَ؟
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يكتب، ويدل له وصفه بالأمي، لكن كونه لا يحسن الكتابة هذا ليس من خصائصه؛ إذ يوجد كثيرٌ ممن لا يحسنها، والله أعلم.
أما تحريم الكتابة فهذا عُدَّ من الخصائص أنه كان يحرم عليه الكتابة، قال تَعَالَى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)﴾[ العنكبوت].
وقد جاء وصفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في القرآن والسنة بالأمي: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾.
والأمي: الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب.
وروى البخاري (1913)، ومسلم (1080) عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاثِينَ.
وهذا هو الأصل في هذه الأمة الأمية.
ووصفُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأمية فضيلة له؛ لاستغنائه بحفظه، واعتماده على ضمان الله منه بقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ [الأعلى:6] «مفردات القرآن»(87) للراغب.
وقال القرطبي في «تفسيره»(14/212): حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَةَ، وَقَوْلَ الشِّعْرِ وَتَعْلِيمِهِ؛ تَأْكِيدًا لِحُجَّتِهِ وَبَيَانًا لمعجزته.
وَقَد زَعَمَ بَعضُهُم أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت حتى تعلم الكتابة، وهذا قول لا دليل عليه يصح. وقد ورد فيه حديث عَن عَبدِ اللهِ، قَالَ: لَم يَمُت رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى كَتَبَ وَقَرَأَ.
وهذا فيه يَحيَى بن المتوكل ومجالد بن سعيد وهما ضعيفان.
وقد ادَّعَى بَعضُ عُلَمَاءِ المَغرِبِ أَنَّهُ كَتَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم صُلحِ الحُدَيبِيَةِ، وهو أبو الوليد الباجي، ومستنده رواية البخاري «فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ..»، وقد أجاب عنه الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ بأن هذا مطلق ويقيد بالرواية الأخرى التي فيها «فَأَمَرَ عَلِيًّا فَكَتَبَ»، والله أعلم.