جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 27 أكتوبر 2021

(2) اختصار دروس الأمثال في القرآن

 اختصار الدرس الثاني من الأمثال في القرآن

﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ [الرعد:17] الآية.

﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ أي: بحسب ما تتسع له، الكبير بكبره، والصغير بصغره.

﴿زَبَدًا﴾ قال الشوكاني في «فتح القدير» (3/90): الزَّبَدُ: هُوَ الْأَبْيَضُ الْمُرْتَفِعُ الْمُنْتَفِخُ عَلَى وَجْهِ السَّيْلِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْغُثَاءُ وَالرَّغْوَةُ. اهـ.

﴿رَابِيًا﴾ أي: عاليًا.

﴿ابْتِغَاءَ﴾ أي: طلب.

﴿حِلْيَةٍ﴾ أي: زينة، والمراد: الذهب والفضة.

﴿أَوْ مَتَاعٍ﴾ أي: أو ابتغاء متاع كالحديد، والنحاس، والرصاص، يصنع منه الأواني والملاعق والأبواب وغير ذلك.

﴿زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾  قال ابن جرير في «تفسيره» (16/409): يعني: مثل زبد السَّيل لا ينتفع به ويذهب باطلًا، كما لا ينتفع بزبد السَّيل ويذهب باطلًا.. ومعنى الكلام: ومما يوقدون عليه في النار زبدٌ مثلُ زبد السيل في بطول زَبده، وبقاء خالص الذهب والفضة. اهـ.

﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ﴾ أي: يضرب الله مثَلًا للحق والباطل.

﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ أي: ضياعًا لا انتفاع به.

﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ قال الشوكاني «فتح القدير» (3/91): مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ الْعَجِيبِ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فِي كُلِّ بَابٍ؛ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِعِبَادِهِ وَاللُّطْفِ بِهِمْ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾. اهـ.

في الآية ضرب مثلين للحق والعلم: أحدهما مائي، والآخر ناري.

المثل المائي:

هذا المثل في تشبيه الوحي في حياته للقلوب بالماء الذي ينزل من السماء ويحيي الأرض، فالوحي يحيي القلوب، كما أن المطر يحيي الأرض، وقد جاء في أدلة أخرى تشبيه الوحي بالمطر، قال سبحانه: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) ﴾، ثم بعد ذلك قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) [الحديد]. وروى البخاري (79ومسلم (2282) عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ»الحديث.

فشبه القلوب بالأودية في قوله عز وجل: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾، وكما أن الأودية مختلفة في سعة حملها للماء، كذلك القلوب مختلفة في تحمُّل الهدى والعلم والانتفاع وفهم المراد، بحسب سعتها وضيقها.

فإذا نزل المطر وانهلت السيول فإنها تطهِّر الأرض وتغسلها، وتحمل معها الغثاء، ثم يتفرق بعد ذلك الغثاء ويتلاشى، ويبقى الماء صافيًا، ينتفع به الناس ويسقون أنعامهم ومواشيهم منه، فكذلك الهدى ونور العلم إذا خالط القلوب حركها وأثار ما فيها من أمراض الشبهات والشهوات، واجتث جميع ما فيها، فترمي به القلوب وتلقيه، ولا يبقى فيها إلا الإيمان الخالص الصافي.

المثل الناري، في قوله عز وجل: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾

شبه الله الحق بالذهب والفضة والمعدن الذي يبقى بعد سبكه وخروج الخبث منه، وشبه سبحانه الباطل بالخبث الذي يذهب من غير انتفاع به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسائل وفوائد من الآية:

- ضرب مثل للوحي بالماء الذي يبقى في الأرض وينتفع بهِ الناس، فكما أنه لا حياة للعباد إلا بالماء كذلك لا حياة لهم إلا بالوحي، وهذا هو المَثَلُ المائي.

ضرْب مثل آخر للوحي بالنار؛ لمِا فيه من الإضاءة وإحراق الخَبَث.

- أن الذي يبقى هو الحق والإيمان والهدى، فهذا الذي يبقى وينتفع به صاحبه في الدنيا والآخرة.

- تشبيه القلوب بالأودية، فالقلوب تعدُّ آنية، وهي تحمل الخير والشر.

- أن القلوب التي تحمل العلم والهدى على قسمين:

واسعة تتسع للخير والهدى وتنتفع به، مع أن القلب عبارة عن مضغة صغيرة، لكنه كبير في حجمه المعنوي؛ فلهذا يحمل علومًا واسعة. فالمؤمن يحرص على توسيع قلبه بزيادة الإيمان والدعاء وبإزالة الصوارف.

وقلوب ضيقة تحمل القليل، وتنتفع بالشيء اليسير من نور العلم والإيمان؛ بسبب صوارف وشبهات وشهوات.

- تشبيه الشبهات والشهوات التي تكون في القلب بزبد السيل وزبد الحلية والمتاع الذي يوقد عليه للانتفاع به والتصرف فيه، وكما يذهب الزبد ولا ينتفع به، كذلك القلوب الطيبة التي خالطها الإيمان والعلم فإنه يثيرها ويطهرها ولا يبقى فيها إلا الإيمان الخالص الصافي، وإذا ذهبت أمراض القلوب صلحت القلوب، وازدادت نورًا و إيمانًا وعلمًا وعملًا وزهدًا وخشيةً وإقبالًا على الله عَزَّ وَجَل.

- وفيه بشارة للمؤمن أن الحق يعلو، وأن الباطل يزهق ويذهب، وكما قال أبو زرعة الرازي رحمه الله: لا يهولنك الباطل فإن للباطل جولة ثم يتلاشى. رواه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (342).

فالجاهلية ستنتهي إن شاء الله، والحزبية، والأهواء والبدع، وكتب الضلال كلها ستذهب إن شاء الله، وتصير لا قيمة لها في المجتمع، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾[الأنبياء: 18].

- فضل العلم النافع.

- الحث على تفقُّهِ هذين المثلين وتدبرهما والانتفاع بهما؛ حتى نكون من أهلهما.