جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 24 يونيو 2020

اختصار الدرس الثالث والعشرين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب المتعلم:

الأول: اجتناب الأسباب الشاغلة عن التحصيل إلا سببا لا بد منه للحاجة

 هذا من آداب الطالب المتأكدة أن لا يرفع رأسًا لغير العلم، وأن يحرص على التفرغ للعلم وتحصيله، قال الله: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].

وكان أبو هريرة رضي الله عنه متفرغًا لطلب العلم، وقد لازم النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «إنَّ النَّاسَ، كَانُوا يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِي حَتَّى لاَ آكُلُ الخَمِيرَ وَلاَ أَلْبَسُ الحَبِيرَ، وَلاَ يَخْدُمُنِي فُلاَنٌ وَلاَ فُلاَنَةُ، وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالحَصْبَاءِ مِنَ الجُوعِ» الحديث رواه البخاري (3708).

وفي المقالة المعروفة: اعطِ العلم كلك يعطِك بعضه.

وجاء عن الإمام مالك رَحِمَهُ الله إمام دار الهجرة: لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مَا يُرِيدُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ حَتَّى يَضُرَّ بِهِ الْفَقْرُ وَيُؤْثِرَهُ عَلَى كُلِّ حَاجَةٍ. رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء»(6/331).

وأيضًا لا بد أن يقدِّم تحصيل العلم على كل حاجة، من الصوارف والشواغل، قال الشافعي رَحِمَهُ الله في «الرسالة»(19): والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به.

فحق على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه، والصبرُ على كل عارض دون طَلَبِه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه. اهـ.

والشاعر يقول:

أَخي لَن تَنالَ العِلمَ إِلّا بِسِتَّة...سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ

ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ...وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ

والشواغل تهز المعلومات، وتضعف الحافظية، وحاجز عن التقدم في العلم النافع. وقد استنبط الحافظ رَحِمَهُ الله في «فتح الباري»(118) من حديث أبي هريرة السابق، وقال: فِيهِ أَنَّ التَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا أَمْكَنُ لِحِفْظِهِ..

 ولهذا كان من نصائح والدي الشيخ مقبل رَحِمَهُ الله لطالب العلم: اجعل الدنيا تابعة للعلم ولا تجعل العلم تابعًا للدنيا، فإذا لم تجعل إلا وقت فراغك للعلم فقد لا تستفيد، أو بهذا المعنى.

فهذه وصية لطالب العلم أن يحرص على التفرغ، حتى إن بعضهم استحب لطالب العلم أن يؤخر الزواج حتى لا يشغل عن العلم بالزوجة والولد وطلب المعيشة، ولكن هذا ليس بصحيح، قال الله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور] .

وروى البخاري (5065 ومسلم (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»الحديث.

والزواج سنة المرسلين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾[الرعد: 38] .

والزواج سعادة ونعمة وعون على طلب العلم، إذا كان الزوجان صالحان وعندهما محبة للعلم النافع فإنه يحصل بينهما تعاون،ويتحقق من الخير الشيء الكثير.

وإذا كان هناك سبب لا بُدَّ منه من الحوائج فيقدَّم على طلب العلم، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» رواه مسلم (996) عن ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهمَا.

 إذا كان هناك من الأهل يحتاجون إلى النفقة فلا يجوز له أن يضيعهم، أو يحتاج هو نفسه فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» رواه البخاري (5199 ومسلم (1159 عَنْ ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهمَا.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم رجال علم وأعمال وعفة ونزاهة، فكانوا يجمعون بين التحصيل والاكتساب، وقد بوب الإمام البخاري رَحِمَهُ الله في كتاب العلمبَابُ التَّنَاوُبِ فِي العِلْمِ» ثم أخرج برقم (89) عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.الحديث

فهكذا أهل الهمة العالية وإن حصل لهم شواغل فإنهم لا يفرطون في العلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأدب الثاني: تطهير القلب وتصفيته.

وهذا من أهم صفات طالب العلم تصفية القلب من الأخلاق المنكرة والعقائد الباطلة، ليكون قلبه صالحًا لقبول العلم فيزكو علمُه وينمو وينتفع به، فإن القلب وعاء يجب تنظيفه من كل دَرَنٍ ومن كل مرض- أمراض القلوب كثيرة: كالرياء والنفاق والعجب والغرور والحسد والكبر والطمع في الدنيا-

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

ولقد أحسن القائل -في ضرب مثَل لقلب طالب العلم-: يُطَيَّبُ القَلبُ لِلعِلمِ كَمَا تُطَيَّبُ الأَرضُ للزِّرَاعَةِ.

قال شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله في «مجموع الفتاوى» (9/315): بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا.

وقال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(2/23): مِنْ أَعْظَمِ أسباب انشراح الصدر: إِخْرَاجُ دَغَلِ الْقَلْبِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تُوجِبُ ضِيقَهُ وَعَذَابَهُ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُصُولِ الْبُرْءِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تَشْرَحُ صَدْرَهُ، وَلَمْ يُخْرِجْ تِلْكَ الْأَوْصَافَ الْمَذْمُومَةَ مِنْ قَلْبِهِ، لَمْ يَحْظَ مِنَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِطَائِلٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَادَّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ، وَهُوَ لِلْمَادَّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا. اهـ.

وقال ابن رجب رَحِمَهُ الله في «لطائف المعارف»(139): قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصح للأمة.

وعلَّق ابن رجب على ذلك، وقال: وبهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة. اهـ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأدب الثالث: التواضع للمعلم وعدم احتقاره.

الأدلة متكاثرة في فضل التواضع وذم الكبر، فإذا كانت الأدلة فيها الحث على التواضع بصفة عامة لكل مسلم فتواضع الطالب للمعلم من باب الأولى.

وقال الشافعي:أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِي لِكَيْ يُكْرِمُوهَا...وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لَا تُهِينُهَا

وقال مجاهد رَحِمَهُ الله: «لا يَتَعَلَّمُ العِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ» كما في «صحيح البخاري» معلقًا.

من التعالي على المعلم الذي لديه الأهلية في التعليم: أن لا يأخذ عنه الطالب العلم لكونه أصغر منه سنًا، أو أقل شهرة ونسبًا وصلاحًا أو أقل منه مالًا.

ونبي الله موسى رحل إلى نبي الله الخضر عليهما الصلاة والسلام وتعلم منه وتحمَّل المتاعب، ومعلوم أن نبي الله موسى أفضل وأعلى منزلة من نبي الله الخضر، وعندما وصل إلى الخضر استأذنه بتلطف وأدب أن يتبعه، قال تعالى: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف] فهذا غاية في التواضع من هذا النبي الكريم.

وقد بوب أهل الحديث في كتبهم (رواية الأكابر عن الأصاغر ومما ذكر أهل الحديث في هذا رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري رضي الله عنه في قصة حديث الجساسة والدجال الذي رواه مسلم (2942).

وعبد الله بن عباس رضي الله عنهمَا مع صغر سنه يأخذ عنه كبار الصحابة لأنه رفعه الله بالعلم كان يقرئ المهاجرين، منهم: عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، كما في «صحيح البخاري» (6830).

وقد قال وكيع بن الجراح رَحِمَهُ الله كما في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/216): «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى يَسْمَعَ مِمَّنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَمِمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَمِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ».

والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأدب الرابع: التأدب مع المعلم

أن يعرف الطالب حق معلمه، ولا يتطاول عليه، ولا يقاطعه وهو يتكلم، أو يرفع صوته عليه، ويتأدب معه بحفظ سره، إلى آخره.

وبأدب الطالب مع معلمه يميل قلبه إليه، ويصير له مزيد اهتمام وعناية بذلك الطالب.

يقول ابْنُ جُرَيْجٍ: «لَمْ أَسْتَخْرِجِ الَّذِي اسْتَخْرَجْتُ مِنْ عَطَاءٍ إِلَّا بِرِفْقِي بِهِ» رواه ابن عبد البر رَحِمَهُ الله في «جامع بيان العلم وفضله» (1/423). لأن المعلم إذا وجد الأدب والإكرام أعطى مما عنده وأكرم الطالب.

قال الخطيب رَحِمَهُ الله في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1/208): إذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ مِمَّنْ يِتَمَنَّعُ بِالرِّوَايَةِ، وَيَتَعَسَّرُ فِي التَّحْدِيثِ، فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُلَاطِفَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيَرْفُقَ بِهِ وَيُخَاطِبَهُ بِالسُّؤْدَدِ، وَالتَّفْدِيَةِ، وَيُدِيمُ الدُّعَاءَ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَبِيلٌ إِلَى بُلُوغِ أَغْرَاضِهِ مِنْهُ. اهـ.

ومن أعظم ما يبعث على الأدب مع المعلم معرفة عِظَمِ قدر العلم ومنزلته، فمن عرف قدر العلم وعظَّمه عظَّم أهله وعرف لهم قدرهم ومكانتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأدب الخامس: التواضع للعلم.

فلا يتعالى ويتجبر على العلم، فإن العلم رفعة وعزة لا يُنال إلا بذلة النفس، والتواضع للعلم في أشياء كثيرة، منها:

§    التواضع للعلم بالتلقي والصبر على ذلك، وثبت عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا، قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَا فُلَانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ». فَقَالَ: واعجبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ، وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَى؟ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ، وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ، فَيَخْرُجُ، فَيَرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ مَا جَاءَ بِكَ؟ أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ: فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، فَقَالَ: «كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي» رواه الدارمي (590).

ونستفيد من قصة ابن عباس: تربية طالب العلم على الثبات وعدم المبالاة بالمثبطين.

§    الصبر على الفقر والحاجة كما كان حال السلف ومن بعدهم من أهل العلم الذين يحرصون على العلم النافع، فما وصلوا إلى هذا وثبت لهم الرسوخ في العلم إلا بجهد وصبر وهمة عالية، حتى إنهم لا يهتمون بمآكلهم ومشاربهم ونومهم.

ذكر لنا والدي أن بعض المحدثين رحل في طلب العلم فكانت تأتيه رسائل، وصلت إليه الرسالة الأولى ثم وضعها في الدرج ولم يفتحها والثانية.. والثالثة.. خشية الانشغال، فلما استفاد ونال من العلم فتح الرسائل، فإذا في إحداها: مات أبوك، وفي الأخرى: مات كذا. فعلق والدي رَحِمَهُ الله: لو فتحها لشُغل عن العلم الذي رحل من أجلِه.

وأيضًا هناك قصة لوالدي رَحِمَهُ الله وهذا كله من باب التذلل للعلم والتواضع، ذكر والدي رَحِمَهُ الله أنه كان في طلبه للعلم إذا زادت كسرة خبز وضعها في الخزانة، فإذا احتاجها أخذها، فإذا طال عليها الوقت يأتي عليها آثار نسج العنكبوت فيمسحه ويأكل كسرة الخبز.

§    خدمة العلم، ولا يفلح في العلم إلا من خدمه، وهذا يكون بالحفظ والفهم والصبر على تحصيله وكدِّ الذهن والفكر والسهر والمذاكرة واستغلال البكور ..إلى آخره.

ومن لم يتواضع للعلم فإنه يحرم العلم، قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأعراف] .

قال الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إن الله عز وجل يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبَّار، ومن تواضع لله ورَّثه الله الحكمة. رواه الآجري رَحِمَهُ الله في «أخلاق العلماء»(72). وسنده صحيح.

قال الشاعر: العِلْمُ حَرْبٌ لِلْفَتَى المُتَعَالِي...كَالسَّيْلِ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ العَالِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأدب السادس: الانقياد لقول المعلم الرشيد

أي: يذعن لتوجيهات المعلم التي تتعلق بالعلم وتهذيب الطالب وتربيته، لأن المعلم يجمع بين التعليم والتربية، قال الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء] . ﴿ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ هم العلماء والأمراء.

فمما يذكرونه في آداب الطالب أن يتواضع لمعلمه، ويذعن له فلا يقدم رأيه على رأي معلمه الرشيد الحكيم أو يتجاهل نصائحه، على سبيل المثال: إذا أرشد المعلم إلى حضور درسٍ، أو حذره من تراكم الدروس والتثقيل عليه، أو حذره من الحضور عند فلان لأنه ليس على منهجنا، ينبغي أن يمتثل.

أو إذا سمع شيخه يحثه على طلب العلم ينبغي أن يبادر.. وهكذا كلما ذكر له فضيلة بارد إليها، أما الذي لا يبالي بنصائح معلمه القيمة هذا لا يفلح في العلم.

ومن باب التحدث بنعمة الله لقد كنت أتأثر بنصائح والدي رَحِمَهُ الله، ولا أتزحزح عنها حتى نصائحه في الأشياء الدقيقة، مثل: تقليل طالب العلم من الطعام، وتقليل طالب العلم من النوم، وأجد لذلك راحة وانشراح صدر، ونسأل الله أن يثبتنا.

هذا، والمراد من الانقياد للمعلم وتقديم قوله ما كان في حدود الشرع، و فيما لا يخالف الدليل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» رواه البخاري (7145 ومسلم (1840) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأدب السابع مشاورة الطالب المعلم في أموره

والمراد يستشير المعلم في الشيء الذي يَحتاج فيه إلى المشورة.

فمثلًا: إذا أرادَ الطالب أن يبحث في شيء أو يقوم بتحقيق كتاب وهو متحيِّر فينبغي أن يستشير معلمَه ليدلَه على الأنسب، وربما لا يعدم الطالب خيرًا من مساعدته والدعاء له بالتوفيق.

والمشاورة محمودة لذوي الخبرة والبصيرة، فهي ليست خاصة بالمتعلم مع معلمه، وفي ذلك من الخير والبركة العظيمة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور العقلاء من أصحابه، وأمره الله بذلك فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾[آل عمران: 159] ، وأثنى الله على الذين يشاورون، فقال: ﴿وَاَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.

 وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجمع القراء وكبار أهل بدر، ويستشيرهم. وقد قيل: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار.

وهنا تنبيه: هذا الأدب مرَّ معنا في درس «تدريب الراوي» عند والدي رحمه الله وغفر له فعلَّق وقال: هذا إذا كان المعلم فاهمًا، أما إذا كان لا يعرف أن يتصرَّفَ لنفسه فلا.

وكما يَستسلم المريضُ العاقل لقول الطبيب الناصح الحاذق فعلى المتعلم أن يكون كذلك. بل انقياد المتعلم للمعلم أولى من انقياد المريض للطبيب، لأن انقياد المتعلم لمعلمه يتعلق بالدين والأدب والشفاء الروحي القلبي، وانقياد المريض للطبيب يتعلق بالشفاء البدني الجسدي، وشتان بينهما!