جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 15 يناير 2017

(30)درس /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 18من شهر ربيع الثاني 1438.


بسم الله الرحمن الرحيم

 [حجة الوداع]

قال أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ:

فصل

نذكرُ فيه ملخصَ حجةِ الوداع وكيفيتِها بعونِ الله ومَنِّه وحُسْنِ توفيقِه وهدايته، فنقولُ وبالله التَّوفيق:

صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم الظهرَ يوم الخميس لستٍّ بقينَ من ذي القَعدةِ من سنةِ عشرٍ بالمدينةِ، ثم خرجَ منها بمنْ معهُ من المسلمين من أهل المدينةِ ومن تجمَّعَ من الأعرابِ، فصلى العصرَ بذي الحُليفةِ ركعتَين، وباتَ بها.

وأتاه آتٍ من ربِّه عزَّ وجل في ذلكَ الموضعِ ـ وهو وادي العقيقِ ـ يأمرُه عن ربه عز وجل أن يقولَ في حجتِه هذه: «حجة في عمرة». ومعنى هذا: أنَّ اللهَ أمره أن يقرن الحجَّ مع العمرةِ، فأصبحَ صلى الله عليه وسلم فأخبر الناسَ بذلك، فطافَ على نسائِه يومئذٍ بغسلٍ واحدٍ، وهُنَّ تسعٌ، وقيلَ: إحدى عشرة. ثم اغتسلَ وصلى في المسجدِ ركعتين، وأهلَّ بحجة وعمرة معًا. هذا الذي رواه بلفظه ومعناه عنه صلى الله عليه وسلم ستةَ عشرَ صحابيًّا، منهم خادمُه أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد رواه عنه صلى الله عليه وسلم ستةَ عشر تابعيًّا، وهو صريحٌ لا يحتمل التأويلَ، إلا أن يكونَ بعيدًا، وما عدا ذلك مما جاء من الأحاديثِ الموهمةِ التمتعَ أو ما يدلُّ على الإفراد، فلها محلٌّ غير هذا تُذكر فيه.

والقِران في الحجِّ عند أبي حنيفةَ هو الأفضل، ورِوايةٌ عن الإمام أحمد بنِ حنبل ، وقولٌ للإمام أبي عبد الله الشافعي، وقد نصره جماعةٌ من محقِّقِي أصحابِه، وهو الذي يحصلُ به الجمعُ بين الأحاديث كلِّها. ومن العلماء من أوجبَه، والله أعلم.

وساق صلى الله عليه وسلم الهديَ من ذي الحليفةِ، وأمر مَن كان معه هديٌ أن يهلَّ كما أهلَّ صلى الله عليه وسلم.

وسارَ صلى الله عليه وسلم والنَّاسُ بينَ يديهِ وخلفهِ، وعن يمينِه وشمالِه أُممًا لا يُحصَون كثرةً، كلُّهم قدِم ليأتمَّ به صلَّى الله عليه وسلم.

فلما قدم صلى الله عليه وسلم مكةَ طاف للقدومِ، ثم سعَى بينَ الصَّفا والمروةِ، وأمرَ الذين لم يسوقُوا هديًا أن يفسخُوا حجَّهم إلى عمرةٍ ويتحلَّلوا حِلًّا تامًّا، ثم يهلُّوا بالحجِّ وقتَ خروجهم إلى منى، ثم قال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عمرَةً».

 فدلَّك هذا أنه لم يكن متمتعًا قطْعًا، خلافًا لزَاعِمي ذلك من أصحابِ الإمام أحمد وغيرِهم.

 وقدم عليٌّ رضي الله عنه من اليمن فقال صلى الله عليه وسلم: «بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قال: بِإِهْلَالٍ كَإِهلالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ لهُ  النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» روى هذا اللفظَ أبو داود وغيره من الأئمةِ بإسناد صحيح، فهذا صريح في القِران، وقدِم علي رضي الله عنه من اليمن هديًا، وأشركه صلى الله عليه وسلم في هديِه أيضًا، وكان حاصلُها مائةَ بدنة.

ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى مِنى فبات بها ،وكانت ليلةَ الجمعة التاسع من ذي الحجة.

ثم أصبحَ فسارَ إلى عرفة وخطب بِنمِرَةَ خطبةً عظيمة، شهدها من أصحابه نحوَ أربعين ألفًا رضي الله عنهم أجمعين، وجمع بين الظهر والعصرِ ثم وقف بعرفة. ثم بات بالمزدلفَة، وجمع بين المغربِ والعشاء ليلتئذٍ، ثم أصبح فصلى الفجرَ في أول وقتها.

ثم سار قبل طلوع الشمسِ إلى مِنى، فرمى جمرةَ العقبة، ونحر، وحلقَ. ثم أفاضَ فطاف بالبيت طوافَ الفرضِ وهو طوافُ الزيارة، واختُلف أينَ صلى الظهرَ يومئذٍ، وقد أشكل ذلك على كثيرٍ من الحفاظ. ثم حلَّ من كل شيءٍ حرُم منه صلى الله عليه وسلم. وخطب ثانِي يومِ النحر خطبةً عظيمة أيضًا، ووصَّى وحَذَّر وأنذرَ وأشهدهم على أنفسِهم أنه بلَّغ الرسالة.

فنحن نشهدُ أنه بلغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصح الأمةَ صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إِلى يومِ الدِّين.

ثم أقبل صلى الله عليه وسلم منصرفًا إلى المدينة، وقد أكملَ الله له دينَه.

*********************

هذا الفصل في حجةِ الوداع، وقد بدأ الحافظ ابن كثير رحمه الله قبل الشروع في المقصود بالاستكانة وطلب العون من الله سبحانه ،وهذا من أسباب السداد والتأييد من الله سبحانه على أداء المطلوب، نسأل الله من فضله العظيم.

(صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم الظهرَ يوم الخميس لستٍّ بقينَ من ذي القَعدةِ)

قوله: (يوم الخميس) هذا على قولٍ لبعضهم ،وهو قول ابن حزم، وذهب بعضهم إلى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ خرج يوم السبت ،وهذا قول ابن القيم في «زاد المعاد» (2/97-101) ،وناقش ابنَ حزمٍ في المسألة.

وابنُ حزم له كتاب«حجة الوداع»قام بتحقيقه الأخ عبدالمجيد الشميري في دار الحديث بدماج،وهذا الكتاب كان يثني عليه والدي الشيخ مقبل رحمه الله،ويقول: كتاب «حجة الوداع» لأبي محمد بن حزم من أحسن الكتب المصنفة في الحج ،ووقع له فيه بعض الأخطاء، قالوا: لعله لم يحجَّ.اهـ.

 (من سنةِ عشرٍ بالمدينةِ)

هذا العام العاشر حجَّ فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع ،ولم يحج غيرها بعد هجرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ، قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(2/96):لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِوَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ ،وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ.اهـ والسبب في كونه لم يحجَّ قبلها بعد هجرتِهِ أن مكة كانت بيد الكفار إذ لم يتمَّ فتحُها إلا في السنة الثامنة. وفي السنة التاسعة كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مشغولًا باستقبال الوفود من القبائل وبلدان شتى، وأيضًا لأجل تطهير البيت من المشركين وضلالات الجاهلية، كما تقدم في درسٍ ماضٍ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أرسل أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه«لا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» رواه البخاري (369) ،ومسلم (1347).

 (فصلى العصرَ بذي الحُليفةِ ركعتَين، وباتَ بها)

هذا رواه البخاري  (1546) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ» ،ورواه مسلم (690) مختصرا .

-ويستفاد منه بعضُ المسائل الفقهية :

-مشروعية القصر للمسافر إذا تجاوز بيوتَ بلده ، فذو الحليفة قريب من المدينة.

- المبيت  بالقربِ من البلد التي يسافر منها،وذكروا أن مبيت النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بذي الحليفة من أجل أن من نسي شيئًا يسهل عليه الرجوع له، وأن من تأخر منهم يسهل له أن يلتحق بهم، والله أعلم.

- أن ميقات أهل المدينة ذو الحليفة. والمواقيت المكانية التي في «الصحيحين» أربعة.روى البخاري (1524)، ومسلم (1181) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ».وذو الحليفة أبعد المواقيت من مكة .

- وقوله في حديث أنس:« وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ » أي: لبَّى ،فالإهلالُ هو: رفع الصوت بالتلبية.

وهذا يفيد استحباب رفع الصوت بالتلبية .

-وفيه تأخير الإحرام إلى بعد الركوب. وروى البخاري ،ومسلم من طريق عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ: لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ؟ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ  الحديث وفيه:وَرَأَيْتُكَ، إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ . قال النووي في «شرح صحيح مسلم»: انبعاثها هُوَ اسْتِوَاؤُهَا قَائِمَةً .

قال :وَفِيه  دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُحْرِمَ إِذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ .وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :يُحْرِمُ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ رُكُوبِ دَابَّتِهِ وَقَبْلَ قِيَامِهِ ،وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيِّ ،وَفِيهِ حَدِيثٌ من رواية ابن عَبَّاسٍ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ اهـ

قلت حديث ابن عباس الذي أشار إليه الإمام النووي أخرجه الترمذي من طريق خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ» .وخُصيف :هو ابن عبدالرحمن الجزري ضعيف . وتأخير الإحرام إلى بعد الركوب من جملةِ التيسير ، فقد يُحرِم ويتأخر عن الخروج وهذا مما قد يشق عليه.



 (وأتاه آتٍ من ربِّه عزَّ وجل في ذلكَ الموضعِ ـ وهو وادي العقيقِ ـ يأمرُه عن ربه عز وجل أن يقولَ في حجتِه هذه: «حجة في عمرة»)

هذا رواه البخاري (1534) من حديث عُمَرَ بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ».

وفسَّره الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ هنا، وقال: (ومعنى هذا: أنَّ اللهَ أمره أن يقرن الحجَّ مع العمرةِ).

فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو بذي الحليفة أتاه آتٍ من ربه وأمره أن يحجَّ قارنًا .

(فطافَ على نسائِه يومئذٍ بغسلٍ واحدٍ، وهُنَّ تسعٌ، وقيلَ: إحدى عشرة)

كان نساء النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ معه في حجته وطافَ عليهن،روى البخاري (270) ،ومسلم (1192) من طريق مُحَمَّدِ بْنِ المُنْتَشِرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا».

والطواف بالنساء: كناية عن الجماع.

-وفيه جواز المعاودَةِ إلى الجماع بغسل واحد ،ويستحب أن يتوضأ لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ».أخرجه مسلم (308).

(فطافَ على نسائِه يومئذٍ بغسلٍ واحدٍ، وهُنَّ تسعٌ، وقيلَ: إحدى عشرة ثم اغتسلَ وصلى في المسجدِ ركعتين)

ظاهر كلام الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ اغتسل مرة أخرى للإحرام،والأول غسلُ الجنابة، ويدلُّ له ما جاء عند الترمذي (830) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ».

وقد أفصح بذلك ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (2/101)،وقال:وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ اغْتَسَلَ غَيْرَ الْغُسْلِ الْأَوَّلِ لِلْجَنَابَةِ، وَقَدْ تَرَكَ بَعْضُ النَّاسِ ذِكْرَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ عَمْدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ سَهْوًا مِنْهُ ،ثم استدل بحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه المذكورعلى ذلك.

وهذا يفيد استحباب الغسل للإحرام  .

وروى  الإمام مسلم (1218) عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حديثه الطويل في حجة الوداع،وفيه: «فَأَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي».

وروى البزار كما في «كشف الأستار» (1084)من حديث ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أنه قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ» ، والحديث في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (715) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ. قال النووي رحمه الله في «المجموع»(7/212):اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا ،سَوَاءٌ كَانَ إحْرَامُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ ،وَلَا يَجِبُ هَذَا الْغُسْلُ ،وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ مُتَأَكَّدَةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي «الْأُمِّ»، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ .قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي «الْإِشْرَافِ»: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِغَيْرِ غُسْلٍ جَائِزٌ. قَالَ :وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلْإِحْرَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا نَسِيَ الْغُسْلَ يَغْتَسِلُ إذَا ذَكَرَهُ.اهـ

وقصة أسماء بنت عميس يستفاد منها أيضًا :

- حرصها على العلم والاستفادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

- أن المرأة الحائض أو النفساء إذا مرت بالميقات وهي تريد النسك فإنها تغتسل وتحرم.

-موقف أسماء بنت عميس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يفيد أن الله جعل لها البركة ،فإن النفاس تكون في أشد الضعف، وهي جعل لها الله البركة وحجَّت كما حج الصحابة رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

(وصلى في المسجدِ ركعتين، وأهلَّ بحجة وعمرة معًا)

هذه الصلاة هي صلاة الظهر ،روى الإمام مسلم (1243) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ».وهذا يفيد أن  النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صلى خمس صلوات في ذي الحليفة.

فقد خرج بعد صلاة الظهر في اليوم الأول من المدينة وصلى بذي الحليفة العصر،وفي اليوم الثاني خرجَ من ذي الحليفة بعد صلاة الظهر .وتقدم السبب في تأخره بذي الحليفة .

وقد استدل بهذا الحديث جمهور العلماء على استحباب صلاة ركعتين قبل الإحرام  .

قال الترمذي في«سننه»(تحت رقم 819): الَّذِي يَسْتَحِبُّهُ أَهْلُ العِلْمِ: أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ.

وقال النووي رحمه الله في «المجموع»(7/221):يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا .اهـ .

كذا نقلَ الإمامُ النووي الإجماع في المسألة ،والواقع فيه خلافٌ يسير ،فقد ذهب الإمام أحمد في روايةٍ عنه إلى أنه يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ عَقِيبَ مَكْتُوبَةٍ فَقَطْ، وَإِذَا رَكِبَ وَإِذَا سَارَ سَوَاءٌ.«الإنصاف»(3/433) للمرداوي. وهذه الرواية اختارها شيخ الإسلام رحمه الله في«مجموع الفتاوى»(26/108)،وقال: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ عَقِيبَ صَلَاةٍ: إمَّا فَرْضٍ وَإِمَّا تَطَوُّعٍ إنْ كَانَ وَقْتَ تَطَوُّعٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ،وَفِي الْآخَرِ: إنْ كَانَ يُصَلِّي فَرْضًا أَحْرَمَ عَقِيبَهُ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلْإِحْرَامِ صَلَاةٌ تَخُصُّهُ ،وَهَذَا أَرْجَحُ.اهـ

وقال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في « زاد المعاد» (2/101): وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى لِلْإِحْرَامِ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ فَرْضِ الظُّهْرِ. اهـ.وفي «مناسك الحج والعمرة» (15)للشيخ الألباني:ليس للإحرام صلاة تخصه ،لكن إن أدركته الصلاة قبل إحرامه، فصلى ثم أحرم عقب صلاته كان له أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحرم بعد صلاة الظهر. وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في «مجموع الفتاوى»(22/15): الصواب أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن كان وقت فريضة جعل إحرامه بعدها كما فعل النبي  صلى الله عليه وسلم ، أما أن يتقصد للإحرام صلاة خاصة فلا. وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في «الملخص الفقهي»(1/416): أما الصلاة قبل الإحرام، فالأصح أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن صادف وقت فريضة، أحرم بعدها، لأنه صلى الله عليه وسلم أهلَّ دبر الصلاة، وعن أنس أنه صلى الظهر ثم ركب راحلته.ثم ذكر كلام ابن القيم السابق.

وكذا استدلوا على الاستحباب بما رواه البخاري (1534) من حديث عُمَرَ بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ». وهذه الصلاة هي صلاة الظهر،فإذا اتُّفِق له وقت فريضة أحرم بعدها كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ويراجع:«المغني»(مسألة 2289) لابن قدامة .

 (وهو صريحٌ لا يحتمل التأويلَ، إلا أن يكونَ بعيدًا)

(وهو صريح) أي: حديث أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حج قارنًا.

(لا يحتمل التأويل) لا يحتمل أن يُصرف عن ظاهره، إلا أن يكون الاحتمال بعيدًا، ومن الأدلة الصريحة حديث عمر السابق، «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ».

(وما عدا ذلك مما جاء من الأحاديثِ الموهمةِ التمتعَ أو ما يدلُّ على الإفراد، فلها محلٌّ غير هذا تُذكر فيه)

الأحاديث التي توهم أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حج متمتعًا تُحمل على حج القِران، فإن القِران يَصدق عليه تمتع، كما قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. والأدلة التي فيها أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حج مفردًا،- كحديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عند البخاري (1562)، ومسلم (1211) قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَجِّ»، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ، أَوْ جَمَعَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ.- لها أجوبة عند أهل العلم، منها: تقديم أحاديث القِران، لأنها أصرح.

(فلها محلٌّ غير هذا تُذكر فيه) أي: غير السيرة، فهذا موضعه كتب الفقه .



(والقِران في الحجِّ عند أبي حنيفةَ هو الأفضل، ورِوايةٌ عن الإمام أحمد بنِ حنبل ، وقولٌ للإمام أبي عبد الله الشافعي، وقد نصره جماعةٌ من محقِّقِي أصحابِه، وهو الذي يحصلُ به الجمعُ بين الأحاديث كلِّها)

والصواب أن التمتع أفضل الأنساك الثلاثة، لأن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تمنى أنه حج متمتعًا، وقال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا» رواه البخاري (7229)، ومسلم (1211) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

والحج مناسكه ثلاثة: حج تمتع: وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم يتحلل و يحرم بالحج.

وحج قران: وهو أن يحرم بالعمرة والحج معًا،أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج.

وحج إفراد: وهو أن يحرم بالحج وحده.

(وسارَ صلى الله عليه وسلم والنَّاسُ بينَ يديهِ وخلفهِ، وعن يمينِه وشمالِه أُممًا لا يُحصَون كثرةً، كلُّهم قدِم ليأتمَّ به صلَّى الله عليه وسلم)

هذا إشارة إلى ما رواه الإمام مسلم (1218) من حديث جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: « فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ «لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ..».

قال جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ...»، يعني: مد البصر من أمامه وخلفه ويمينه ويساره،ومدُّ البصر:منتهاه ،أقصى ما يبلغه البصر. وقد كان النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أعلن وآذن الناس بحجته حتى يتعلموا مناسك الحج ويتفقهوا في أمور دينهم.

(فلما قدم صلى الله عليه وسلم مكةَ طاف للقدومِ)

الطواف على ثلاثة أنواع:

الأول :طواف القدوم: وهذا لمن قدم مكة ،وهو مستحب عند جمهور العلماء.

الثاني :طواف الإفاضة: قال تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [البقرة:29]، وهذا ركن من أركان الحج ،وعليه إجماع أهل العلم.

الثالث: طواف الوداع: وهذا واجب على كل من يريد الخروج من مكة عقب الحج. روى البخاري (1755)، ومسلم (1328)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ». وفي الحديث استثناء المرأة الحائض فلها أن تنصرف ولو لم تطف بالبيت.

والذي يدخل المسجد للطواف لا يبدأ بتحية المسجد، بل يفعل كما فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ،يبدأ بالطواف بالبيت. قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا..»رواه مسلم (1218).



(ثم سعَى بينَ الصَّفا والمروةِ)

القارن والمفرد ليس عليهما إلا سعي واحد ،فمن طاف طواف القدوم ثم سعى بين الصفا والمروة أجزأه ذلك، ولا يحتاج أن يسعى بعد طواف الإفاضة كما فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وأما إذا لم يسعَ بعد طواف القدوم فيلزمه السعي بعد طواف الإفاضة، قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة:158].

والسعي بين الصفا والمروة ركن عند جمهور العلماء. قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ في «شرح صحيح مسلم» (9/ 20- 21): مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ وَلَا غَيْرِهِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ .وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ :هُوَ تَطَوُّعٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :هُوَ واجب فإن تركه عصى وجبره بالدم وصح حَجَّهُ .دَلِيلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعَى، وَقَالَ:« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».اهـ.



(وأمرَ الذين لم يسوقُوا هديًا أن يفسخُوا حجَّهم إلى عمرةٍ ويتحلَّلوا حِلًّا تامًّا، ثم يهلُّوا بالحجِّ وقتَ خروجهم إلى منى، ثم قال: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عمرَةً)

فسخ الحج إلى العمرة صورته: أن يحرم بالحج ثم يتحلل بعمرة .

وفسخ الحج إلى العمرة جمهور العلماء يرون أن هذا خاص بالصحابة، ولكن الأصل عدم الخصوصية.

 (وقدم عليٌّ رضي الله عنه من اليمن)

كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أرسل عليًّا إلى اليمن ،فلما جاء قال له النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ :«بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قال: بِإِهْلَالٍ كَإِهلالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ لهُ  النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ»،وهذا فيه منقبة لعلي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،وحرصه الشديد على التأسي بالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فقد أهل بإهلال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، فأخبره النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أنه حج قارنًا ،وقال له:( إني سقت الهدي وقرنت).

ويفيد جواز قول: لبيك اللهم إهلالًا كإهلال فلان، وفي المسألة خلاف بين أهل العلم.

ولما قدم علي رضي الله عنه وجد فاطمة رضي الله عنها  قد تحلَّلت فأنكر عليها ذلك .قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه :«وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ، وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا، قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ، بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «صَدَقَتْ صَدَقَتْ». رواه مسلم (1218) .

«صَدَقَتْ صَدَقَتْ» كرر الكلام مرتين للتأكيد. قال النووي رحمه الله في «شرح صحيح  مسلم»(8/179):فِيهِ إِنْكَارُ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ مَا رَآهُ مِنْهَا مِنْ نَقْصٍ فِي دِينِهَا، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَأَنْكَرَهُ .اهـ

 (فهذا صريح في القران)

هذه ثلاثةُ أدلة ساقها ابن كثير في حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حج قران:

حديث عمر«حجة في عمرة»، وحديث:«لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عمرَةً»،وحديث:«بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قال: بِإِهْلَالٍ كَإِهلالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ لهُ  النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ».رواه أبوداود (1797)عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

وروى البخاري (1566)،ومسلم (1229)عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ».

(وأشركه صلى الله عليه وسلم في هديِه أيضًا، وكان حاصلُها مائةَ بدنة)

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ جلب بهدي معه من ذي الحليفة .روى البخاري (1691)،ومسلم (1227) عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:«تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ ..».  وجاء علي بن أبي طالب من اليمن أيضًا ببعض البُدن ،فاكتملت مائة بدنة ،ونحر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بيده الكريمة ثلاثًا وستين بدنه، ونحر علي ما غبَر-ما بقي-37 بدنة، والحديث في «صحيح مسلم» (1218) من حديث جابر وفيه: «ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا، فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا..»

«فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ» على عدد سني عُمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

وكان البُدن تبادرُ في القربِ من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأيتهن يبدأ.روى أبوداود (1765)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» . وَقُرِّبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا، قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ قَالَ: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ».والحديث صحيح . قَالَ الطِّيبِيُّ  رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: مُنْتَظِرَاتٌ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ لِلتَّبَرُّكِ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فِي نَحْرِهِنَّ اهـ من «مرقاة المفاتيح»(5/1826).

قال الشوكاني رحمه الله في «نيل الأوطار»(5/155): فِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  حَيْثُ تُسَارِعُ إلَيْهِ الدَّوَابُّ الَّتِي لَا تَعْقِلُ لِإِرَاقَةِ دَمِهَا تَبَرُّكًا بِهِ ،فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ الْبَهِيمِيِّ أَهْدَى مِنْ أَكْثَرِهِ وَأَعْرَفَ؟ تَقْرُبُ هَذِهِ الْعُجْمُ إلَيْهِ لِإِزْهَاقِ أَرْوَاحِهَا وَفَرْيِ أَوْدَاجِهَا وَتَتَنَافَسُ فِي ذَلِكَ وَتَتَسَابَقُ إلَيْهِ، مَعَ كَوْنِهَا لَا تَرْجُو جَنَّةً وَلَا تَخَافُ نَارًا، وَيَبْعُدُ ذَلِكَ النَّاطِقُ الْعَاقِلُ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ يَنَالُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ النَّعِيمَ الْآجِلَ وَالْعَاجِلَ ،وَلَا يُصِيبُهُ ضَرَرٌ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ ،حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ مُظْهِرًا لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِ الْمُصْطَفَى  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَيْنَ مُحَمَّدُ لَا نَجَوْت إنْ نَجَا، وَأَرَاقَ الْآخَرُ دَمَهُ وَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّفَاوُتِ الَّذِي يَضْحَكُ مِنْهُ إبْلِيسُ، وَلِأَمْرٍ مَا كَانَ الْكَافِرُ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ.اهـ

وظاهر الحديث يشكل مع حديث جابر المتقدم:« فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ »،وقد أورد الإشكال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(2/242)،وأجاب عنه وقال:قيل نَقْبَلُهُ وَنُصَدِّقُهُ، فَإِنَّ الْمِائَةَ لَمْ تُقَرَّبْ إِلَيْهِ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَرْسَالًا، فَقُرِّبَ مِنْهُنَّ إِلَيْهِ خَمْسُ بَدَنَاتٍ رَسَلًا، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّسَلُ يُبَادِرْنَ وَيَتَقَرَّبْنَ إِلَيْهِ لِيَبْدَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.

(ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى مِنى فبات بها)

كان خروجه من مكة إلى منى يوم الخميس اليوم الثامن يوم التروية فبات بها وصلى بها الصلوات الخمس، وكان يصلي قصرًا من غير جمعٍ بين الصلاتين، روى البخاري (1084)،ومسلم (695) من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ»، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ.

وهذا عام للمقيمين بمكة ولغيرهم فإن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ما أمر المقيمين بمكة بالإتمام بمنى ولا بعرفة ولا بمزدلفة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى»(26/130):وَيَقْصُرُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ. وَكَذَلِكَ يَجْمَعُونَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى كَمَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَفْعَلُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ وَلَا قَالُوا لَهُمْ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ.اهـ

(وكانت ليلة الجمعة التاسع من ذي الحجة)

بات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنى ليلة الجمعة الليلة التاسعة من ذي الحجة ،وقد اجتمع في يوم عرفة فضيلتان كونه يوم جمعة وكونه يوم عرفة.

والدليل على أن يوم عرفة كان يوم جمعة حديث عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ» .رواه البخاري (45)، ومسلم (3017).

(ثم أصبحَ فسارَ إلى عرفة وخطب بِنمِرَةَ خطبةً عظيمة، شهدها من أصحابه نحوَ أربعين ألفًا رضي الله عنهم أجمعين، وجمع بين الظهر والعصرِ ثم وقف بعرفة).

الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج .روى أبوداود(1949) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَجَاءَ نَاسٌ أَوْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَأَمَرُوا رَجُلًا فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ الْحَجُّ؟، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَنَادَى «الْحَجُّ، الْحَجُّ، يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَتَمَّ حَجُّهُ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»، قَالَ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلًا خَلْفَهُ فَجَعَلَ يُنَادِي بِذَلِكَ. والحديث في «الصحيح المسند» (900) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.

وروى أبو داود في «سننه» (1950)  عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ الطَّائِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ قُلْتُ: جِئْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتَ، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ»،والحديث في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (923) لوالدي الشيخ مقبل رَحِمَهُ اللَّهُ.

« مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ» أي: صلاة الفجر بمزدلفة.

وهذا دليل على أنه يجزئ الوقوف بعرفة في أيِّ جُزءٍ من أجزاء الليلة العاشرة ليلة النحر . وهذا  من حيث الجواز، والسنة أن يفعل كما فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أن يخرج من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس اليوم التاسع من ذي الحجة ،كما في حديث جابر رضي الله عنه في حجة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم«..فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ،وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..»رواه مسلم (1218).أما من لم يَصِلْ عرفة إلا بعد طلوع فجر ليلة النحر فقد فاته الحج.

وهذه الخطبة العظيمة التي أشار إليها الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ اشتملت على جُمل  ومعاني عظيمة  في حُرمة المسلم في دمه وماله وعرضه، والتحذيرمن سفك دماء المسلمين، والوصية بالنساء، و الحث على الاعتصام بالكتاب والسنة،وغير ذلك . ونسوق هذه الخطبة بلفظها لأنها تعتبر من قواعد الإسلام ومن جوامع الكلِم ،ونرجو من ربنا الكريم أن ينفعَنا بها .يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» رواه مسلم (1218) من حديث جابر رَضِي الله عَنهُ  في حجة الوداع.

(وجمع بين الظهر والعصر ثم وقف بعرفة)

في حديث جابررضي الله عنه الطويل عند مسلم (فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .

استنبط ابنُ القيم في «زاد المعاد» (2/ 216 )من قوله (ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ) أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُصَلِّي جُمُعَةً اهـ



وفيه مشروعية الجمع بعرفة جمع تقديم بأذانٍ واحد وإقامتين.

وقد ذكر الشافعي الحكمة من الجمع بعرفة ومزدلفة ،وقَالَ: «وَكَانَ أَرْفَقَ بِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ لِأَنْ يَتَّصِلَ لَهُ الدُّعَاءُ، فَلَا يَقْطَعُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَأَرْفَقَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَنْ يَتَّصِلَ لَهُ الْمَسِيرُ، وَلَا يَقْطَعُهُ بِالنُّزُولِ لِلْمَغْرِبِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ».كذا في «زاد المعاد»(1/ 462) .

(ثم بات بالمزدلفَة، وجمع بين المغربِ والعشاء ليلتئذٍ، ثم أصبح فصلى الفجرَ في أول وقتها).

المبيت بمزدلفة واجب وقد رخص النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ للضعفة أن ينصرفوا في آخر الليل . روى البخاري (1676)،ومسلم (1295) من طريق ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاَةِ الفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: «أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ،وروى البخاري (1679) ،ومسلم في صحيحه(1291) عَنْ أَسْمَاءَ بنت أبي بكر  رضي الله عنهما: أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ المُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: «يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ القَمَرُ؟» ، قُلْتُ: لاَ، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: «يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ القَمَرُ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: «فَارْتَحِلُوا» ، فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ: «يَا بُنَيَّ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظُّعُنِ».(غلسنا ) قال النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم» :أَيْ لَقَدْ تَقَدَّمْنَا عَلَى الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ قَالَتْ: لَا.

وقولها (هَلْ غَابَ القَمَرُ)قال الشيخ ابن عُثيمين في «مجموع الفتاوى»(23/ 82) :معلوم أن غروب القمر ليلة العاشر لا يكون إلا في نحو ثلثي الليل، يعني إذا لم يبق من الليل إلا الثلث ،وتقيد العلماء بالنصف ليس عليه دليل، فالصواب: أن الحكم مقيد بآخر الليل.

وقال رحمه الله (23/ 82 ) :القمرلا يغيب إلا إذا مضى أكثر الليل في ليلة العاشر .اهـ



 (فرمى جمرةَ العقبة، ونحر، وحلقَ).

هذه أعمال الحج يوم النحر، وهذا الترتيب على سبيل الأفضل يبدأ يرمي جمرة العقبة ثم ينحر هديه ثم يحلق رأسه ثم يطوف طواف الإفاضة،يقول والدي رحمه الله عن الثلاثة الأعمال الأولى ترتيبها مجموع في كلمة:«رَذَحَ»الراء للرمي،والذال للذبح،والحاء للحلق .

وقيام النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بهذه الأعمال  كلِّها في ساعات يسيرة فيه بركة عظيمة  ،فقد رمى جمرة العقبة ضُحى،ثم نحر ثلاثا وستين بدنة وأكل منها،ثم حلق رأسه ،ثم ذهب إلى البيت وطاف طواف الإفاضة ،فهذه بركة عظيمة وبركة إلهية ،جعلها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وهذا الترتيب كما تقدم لبيان الأفضل ،فلو قدَّم أو أخَّر جاز ذلك، لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: «اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ» فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلاَ حَرَجَ» فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ» رواه البخاري (83)، ومسلم (1306).

حتى لو بدأ بطواف الإفاضة يوم النحر جاز له ذلك .روى البخاري (1722) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ «لاَ حَرَجَ». قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: «لاَ حَرَجَ». قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: «لاَ حَرَجَ».

 وفي رواية في «صحيح مسلم» (1306)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أن رجلًا أتى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» قَالَ: فَمَا رَأَيْتُهُ سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا قَالَ «افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ».

فمن حيث الجواز، الأمر فيه سعة ،لكن ينبغي الحرص على السنن قدر المستطاع، روى الإمام مسلم (1297)عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ». ،وتقدم أيضًا حديث جابر:«فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ».

والحج: اسم يجمع السنن والواجبات والأركان، قال شيخ الإسلام رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (7/ 646) :اسْمُ الْحَجِّ هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ رُكْنٍ وَوَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ ،وَهُوَ حَجٌّ أَيْضًا تَامٌّ بِدُونِ الْمُسْتَحَبَّاتِ ،وَهُوَ حَجٌّ نَاقِصٌ بِدُونِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجْبُرُهَا دَمٌ.

وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى»(16/ 7) :وَلَا رَيْبَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ حَسَنٌ ،وَفِعْلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَهَا أَحْسَنُ اهـ

 فلا ينبغي التساهل والتقصير ،فالحجُّ فرصة في المسابقة إلى الخير ،ولكن الناس -إلا من رحم الله- قد ألفُوا الراحة واستلذُّوها ،وهذا من نتائج الغفلة والكسل وثمارِهما الوخيمة.

 (واختُلف أينَ صلى الظهرَ يومئذٍ، وقد أشكل ذلك على كثيرٍ من الحفاظ).

اختلفوا أين صلى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الظهر يوم النحر، لاختلاف الروايات فقد جاء أنه صلى الظهر بمكة،وجاء أنه صلى الظهر بمنى .روى الإمام مسلم (1218)عن جابر في حديثه الطويل في حجة الوداع :«ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ».

وروى الإمام مسلم (1308) من طريق نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» قَالَ نَافِعٌ: «فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ».

قال النووي رحمه الله في«شرح صحيح مسلم»(8/193): وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ،ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ،ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بِمِنًى.اهـ

 و ذكر مناقشة أجوبة الطرفين الحافظ ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»(2/258).

أما ما رواه  الترمذي (920 ) من طريق أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ إِلَى اللَّيْلِ» .

فهذا إسناده ضعيف .أبوالزبير مدلس وقد عنعن .



(ثم حل من كل شيء حرم منه صلى الله عليه وسلم)

وهذا هو التحلل الأكبر.



(وخطب ثانِي يومِ النحر خطبةً عظيمة أيضًا، ووصَّى وحَذَّر وأنذرَ وأشهدهم على أنفسِهم أنه بلَّغ الرسالة).

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كانت خطبته يوم النحر .روى البخاري (1741)، ومسلم (1679)، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ «أَلَيْسَ ذُو الحَجَّةِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». ورواه البخاري (1739)بنحوه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

أما قول الحافظ ابن كثير: إنه ثاني يوم النحر ،فهذا قول المالكية والحنفية .وقد رده الحافظ ابن حجر رحمه الله (تحت رقم 1742)،وقال: وَقَدْ بَيَّنَ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ عَالِمُ أَهْلِ زَمَانِهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ نُقِلَتْ مِنْ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْأُمَرَاءِ يَعْنِي مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ .قَالَ ابن أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْريّ عَن ابن جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَشُغِلَ الْأُمَرَاءُ فَأَخَّرُوهُ إِلَى الْغَدِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا ،لَكِنَّهُ يَعْتَضِدُ بِمَا سَبَقَ –أن الخطبة يوم النحر-وَبَانَ بِهِ أَنَّ السُّنَّةَ الْخُطْبَةُ يَوْمَ النَّحْرِ لَا ثَانِيهِ .اهـ

وروى أبوداود (1957)عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ التَّيْمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ بِمِنًى فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا، حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ مَا يَقُولُ: وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: «بِحَصَى الْخَذْفِ» ثُمَّ أَمَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَنَزَلُوا فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ فَنَزَلُوا مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نَزَلَ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ .والحديث صحيح.وقوله:( وَنَحْنُ بِمِنًى).قال الشوكاني في «نيل الأوطار»(3/365):أَيَّامُ مِنًى أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَأَحَادِيثُ الْبَابِ مُصَرِّحَةٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ ،فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَيَتَعَيَّنُ يَوْمُ النَّحْرِ اهـ

وجاء أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ خطب أوسط أيام التشريق يعني الثاني عشر هذا جاء من طريق أَبِي نَضْرَةَ، عمَّنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ» ، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» ، قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» ، قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» ، قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ» ـ قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ، أَمْ لَا ـ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ ، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» رواه الإمام أحمد (38/474) ، وهو في «الصحيح المسند» (1523) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.

نكونُ استفدنا مما تقدم عدد خطَب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في الحج :خطبة يوم عرفة، خطبة يوم النحر،خطبة أوسط أيام التشريق.

ويستفاد من خطب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في هذا الموسم العظيم الاهتمام بتعليم الناس مناسك الحج ،وهكذا ما يحتاجون إليه من أمور الفقه ،والحث على التمسك بالكتاب والسنة، و تعليم العقيدة ،ولا ينبغي التفريط في العقيدة لأنها أساس الدين ،وبعض الناس كلامه على المناسك لا ينظر إلى ما يحتاجه الناس من تعليم الوضوء والصلاة والعقيدة والتحذير من المعاصي وخطرها ، وهذا من الأخطاء.

ومن خطب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ التي كانت في حجة الوداع ما رواه الترمذي (616) من طريق سُلَيمِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ»، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي أُمَامَةَ: مُنْذُ كَمْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الحَدِيثِ؟ قَالَ: «سَمِعْتُهُ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً»، والحديث في «الصحيح المسند» (481) لوالدي رَحِمَهُ اللَّهُ.

فائدة:

لِسِتَّةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ مِنْ أَيَّامِ ذِي الْحِجَّةِ أَسْمَاءُ: الثَّامِنُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَالتَّاسِعُ عَرَفَةَ ،وَالْعَاشِرُ النَّحْرِ ،وَالْحَادِيَ عَشَرَ الْقَرِّ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ النَّفْرِ الثَّانِي .«فتح الباري»(تحت رقم 1739).

(فنحن نشهدُ أنه بلغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصح الأمةَ صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إِلى يومِ الدِّين)

وتقدم في حديث جابر عند مسلم (1218) يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».

والحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ يقول هنا: (فنحن نشهدُ أنه بلغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصح الأمةَ صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إِلى يومِ الدِّين).

ونحن أيضًا نشهد بأن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة كما أراد الله منه، وبالله التوفيق، والحمد لله.