مذاكرةٌ قبل الدَّرس :
من نعمةِ الله أن الأمهاتِ الصالحات في
غايةِ الحرص على صلاح أولادهن ، وفي غاية الحرص على أن يتعلموا العلم
الشرعي ، وعلى قربهم من الخير و أهل الخير
ـ وجزى الله الأمهات الحاضرات خيرًا ـ وهذا من الواجبات المتحتمات
على
المرأة -حرصها على صلاح أولادها والدعاء لهم .
ومن فضل الله ،الأمهات الآن في أشدِّ الحرص على استفادة
أولادها- ذُكوراً وإناثاً -وحفظهم للقرآن الكريم
، محفِّزات
على العلم والحفظ، واستغلال لهذا العمر
النفيس .
حتى إنَّ من الأمهات من تقول: أنا مفرِّغة لابنتي
تحفظ،
وتحضر الدروس، وتستفيد .
والمحروم من حُرِمَ نعمة العلم النافع
، ونعوذ بالله من الفتن .
نسأل الله أن يصلح الحال- الهمم هابطة ،والعزيمة
ضعيفة ،
قطع على الناس -إلا من رحم ربي -
طريقَ السعادة
والتجارةِ الخالدةِ الكسلُ والراحة ،وكثرة وسائلِ الضياع ،.
اطلب العلمَ ولا تكسل فمَا أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكسل
وقد ذكر ابنُ القيم رحمه الله في مدارج
السالكين (2/ 166) أنه
أَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ
أُمَّةٍ عَلَى أَنَّ النَّعِيمَ لَا يُدْرَكُ بِالنَّعِيمِ
وَأَنَّ مَنْ رَافَقَ الرَّاحَةَ
فَارَقَ الرَّاحَةَ ، وَحَصَلَ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَقْتَ
الرَّاحَةِ فِي دَارِ
الرَّاحَةِ، فَإِنَّ قَدْرَ التَّعَبِ تَكُونُ الرَّاحَةُ .
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي
الْعَزَائِمُ ... وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ
وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ
صَغِيرُهَا ... وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ
وَالْقَصْدُ: أَنَّ مُلَاحَظَةَ حُسْنِ
الْعَاقِبَةِ تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ
بِاخْتِيَارِكَ
وَغَيْرِ اخْتِيَارِكَ. اهـ
أيام والمسؤولية تكثر، أيام والحقوق تكبر، فاستغلال
هذا
الوقت، وهذا الفراغ .
وقد روى البخاريُّ في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا،
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ
فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ " .
معرفة قدر هذه النعمة قبل أن تزول ، قبل
الحسرة، إذا كبُرت
المسؤوليَّة ، الذهن يتشتت، والتركيز يضعف، والحافظية
تنهار، وقد يكون هناك أمور أخرى ـ والعياذ
بالله ـ فكلما تأخر
الزمن كثرت الفتن، وكثرت الشواغل، مع ما الدُّنيا عليه من
أصلها دارُ هُمومٍ وابتلاء ، ودار فناء لا
بقاء ، فيبقى في حسرة
عظيمة ، في الأولى
والأُخرى .
والله مامشى من الدقائق والسنين لايمكن تداركه، فالمحافظة
على الوقت في طلب العلم قبل فوات الفرصة، قبل
الانشغال ، والفراغ
لا يدومُ ، والعُمْر قصير ،والزَّمن يسير
كما
يقولُ أهلُ العلم .
اقبلي النصيحة من محبةٍ للخير لك قبل أن تقعي في
التجرُبة
بنفسك ،والسعيدُ منِ اعتبر بغيره ،لا من اعتبر بنفسه .
والله سبحانه هو الميسر نسأل الله أن ييسر لنا ولأخواتنا
سُبل
العلم .
كان من أدعيةِ الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى
ـ أن اللهَ
ييسر لي طلب العلم (نذكر هذا من باب التحدُّث بالنعمة
وليتأسَّى به الأمهاتُ وليتربَّى البناتُ
على هذا الخير ) .
الدعاء للأولاد بالخير، والسعادة، وأن يقذف الله
في قلوبهم نورَ
العلم، والهداية بيد الله ليست بأيدينا نسأل الله أن يصلحَ
أولادنا ويعيذنا وإياهم من الفتن .
ولايعرف قدرَ هذا النعمة إلا من وفقه الله
عز وجل .
******************************
فصلٌ : مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب
ثم أسلم حمزةُ عمُّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وجماعةٌ
كثيرون، وفشا الإسلامُ .
فلما رأت قريشٌ ذلك ساءَها، وأجمعوا على
أن يتعاقدوا على
بنى هاشم وبني المطلب ابنَي عبد مناف: ألا يبايعُوهم، ولا
يناكحُوهم،
ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسْلِموا إليهم
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا
بذلك صحيفة وعلَّقوها
في سقف الكعبة، ويقال إن الذي كتبها منصور بن عكرمة بن
عامر بن
هاشم بن عبد مناف، ويقال: بل النَّضر بن
الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فشُلَّت يدُه.
وانحاز إلى الشِّعب بنو هاشم وبنو المطلب،
مؤمنهم وكافرهم إلا
أبا لهب- لعنهُ الله- فإنه
ظاهرَ قريشاً.
وبقوا على تلك الحال لا يدخل عليهم أحدٌ
نحواً من ثلاث سنين .
وهناك عمِل أبو طالب قصيد تَه المشهورة
:
جزى الله عنا عبدَ شمس ونوفلا .
******************************
هذا الفصل في مقاطعة وهجر قريش لبني المطلب
وبني هاشم، فإن قريشاً هَالَهَا، وأفْزَعها انتشارُ الإسلام و علوُّ الإسلام، ورأت
أنه أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي أعز الله به الإسلام، وأسلم حمزة ـ رضي
الله عنه ـ عم رسول الله
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وانتشار
الإسلام في نواحي
العرب، وإيواء النجاشي للذين هاجروا إليه ، فرأت أن تقاطع
بني هاشم وبني المطلب، و قالوا إما أن تُسْلِموا
النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ أو نقاطعكم .
و ذكر هنا الحافظُ ابنُ كثير وجهَ المقاطعة .
فقال ـ رحمه الله تعالى ـ : (وأجمعوا على
أن يتعاقدوا على بنى
هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف: ألا يبايعوهم، ولا
يناكحوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم) .
لا فيه بيع بينهم، ولا شراء، ولا تزويج،
ولا كلام، ولا مجالسة
هجر كُلِّي، وكتبوا هذه المعاقدة في صحيفة ـ الصحيفة:
الورقة ـ وعلَّقوها في سقف الكعبة .
يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في البداية
و النهاية: (تَوْكِيدًا على أنفسهم) .
فتمَّ الأمرُ على هذا .
و من رحمة الله عز وجل أن يسَّر للنبي صلى الله
عليه وعلى
آله وسلَّم من يناصره وهم بنو هاشم
و بنو المطلب مؤمنُهم
و كافرُهم، وما خرج منهم إلا أبو لهب عم
رسول الله ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ فإنه ظاهر قريشًا أي: عاونهم
وناصرهم على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وعلى
الحق .
ووقوف الكفار من بني المطلب وبني هاشم مع النبي ـ
صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ـ حميةً و عصبية؛ لأنه منهم و في
ذلك وأمثاله يقول النبي
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ (إِنَّ
اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ
الْفَاجِرِ) متفق عليه عن أبي هريرة ـ
رضي الله عنه ـ (يُؤَيِّدُ) أي: ينصر.
و تمَّ حصار النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ و من معه
ممن آواه و نصره في شِعْب
أبي طالب سنة سبعٍ من
البعثة، و كانت المدة ثلاثَ سنين -مدة طويلة
-، وهم في حصار
وحَبس لا يأتيهم طعام، ولا شراب،
ولا غذاء إلا إذا
استطاع أحدٌ أن يتسلَّل بشيء من الطعام والخبز
و إذا عثر عليه
قريش نكَّلوا به و عاقبوه.
(وهناك عمل أبو طالب قصيدته المشهورة:
جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلا) .
هذه القصيدة تُسمَّى لاميةَ أبي طالب .
وتتمةُ البيت لأنه ما ذكر ابنُ كثير إلا الشطرَ
الأوَّلَ منه
جزى الله عنا عبد شمسٍ و نوفلا***عقوبةَ
شر عاجلا غير آجل
لأن عبد شمس و نوفل من المعادين للنبي ـ
صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ و من معه ممن آواه بخلاف هاشم والمطلب.
بنو عبد مناف أربعة ـ كما تقدم في أول الكتاب ـ هاشم،
والمطلب، وعبد شمس، ونوفل .
ولامية أبي طالب بطولها ما ثبتت، لكن فيها
بعض الأبيات
جاءت بأسانيد أخرى ثابتة .
(إلا أبا لهب لعنه الله، فإنه ظاهرَ قريشاً)
يقول هنا الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى
ـ في أبي لهب لعنه
الله .
ولعن الكافر الميت لمصلحة الإسلام ولبيان حاله جائز
.
أما إذا كان لغير مصلحة فهذا منهي عنه روى
البخاري
(1329) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ
أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا).
أما الكافر الحي فلا يجوز لعنُهُ لأنَّ الله قد يهديه للإسلام
أخرج البخاري في صحيحه (4069) عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنْالرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ
اللَّهُمَّ الْعَنْ
فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ
اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ
الْحَمْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ
لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ}.
و في صحيح مسلم (675) عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
وَأَبي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ
مِنْ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ
وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ
قَائِمٌ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ
بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ
بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
اللَّهُمَّ اشْدُدْ
وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ
اللَّهُمَّ الْعَنْ
لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ
بَلَغَنَا
أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) .
وهذا التفصيلُ في لعن الكافر سمعناه مراراً من الوالد الشيخ
مقبل رحمه
الله .
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/ 67)اتَّفَقَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى
تَحْرِيمِ اللَّعْنِ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ
وَالطَّرْدُ.
وَفِي الشَّرْعِ :الْإِبْعَادُ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْعَدَ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ لَا يُعْرَفَ حالُه
وخاتمة أمره مَعْرِفَةً
قَطْعِيَّةً فَلِهَذَا قَالُوا لَا يَجُوزُ لَعْنُ أحد بعينه
مسلما كان أوكافرا أَوْ دَابَّةً إِلَّا مَنْ عَلِمْنَا بِنَصٍّ
شَرْعِيٍّ أَنَّهُ مَاتَ
عَلَى الْكُفْرِ أَوْ يَمُوتُ عَلَيْهِ كَأَبِي جَهْلٍ
وَإِبْلِيسَ .
وتكلَّم على المسألة العلَّامةُ
ابن عثيمين رحمه الله في شرح
رياض الصالحين تحت (باب تحريم لعن إنسان بعينه أو
دابة) .
وقال:حتى لو كان كافرا وهو حي فإنه لا يجوز أن تلعنه واستدل
بحديث
ابن عمر المذكور .
وقال ابن عُثيمين رحمه الله : ومن الناس من
تأخذه الغيرةُ
فيلعن الرجل المعين إذا كان كافرا وهذا لا يجوز، لأنك لا تدري
لعل
الله أن يهديه وكم من إنسان كان من أشد الناس عداوة
للمسلمين والإسلام هداه الله
وصار من خيار عباد الله المؤمنين،
ونضرب لهذا مثلا: عمر بن الخطاب الرجل الثاني
بعد أبي بكر
في هذه الأمة، كان من ألدِّ أعداء الإسلام ففتحالله عليه فأسلم .
خالد بن الوليد كان يقاتل المسلمين في أحد وهو من جملة من
كرَّ عليهم
وداهمهم .
عكرمة بن أبي جهل وغيرهم من كبار
الصحابة الذين كانوا من
أول ألدِّ أعداء المسلمين فهداهم الله عز وجل .
ولهذا قال: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أويعذبهم فإنهم ظالمون }
.
أما إذا مات الإنسان على الكفر وعلمنا أنه مات كافرا فلا بأس
أن نلعنه
لأنه ميؤوس من هدايته والعياذ بالله لأنه مات على
الكفر .
ولكن ما الذي نستفيده من لعنه ربما يدخل هذا - أعني لعنه -
في قول النبي
صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات فإنهم
أفضوا إلى ما قدموا .اهـ المراد
وأبو لهب: اسمه عبد العزى، عم النبي ـ صلى
الله عليه وعلى
آله وسلم ـ .
و نذكر هُنا ما مضى للاستذكار
الإسلامُ أدرك أربعةً من أعمام النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ وهم أبو طالب، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، أما أبو
طالب
وأبو لهب فماتا على الكفر، وأما العباس و حمزة فهما
من خيار صحابة رسول الله ـ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
قال الحافظ في فتح الباري (3884 ):مِنْ
عَجَائِبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ
الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَعْمَامِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعَةٌ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمُ
اثْنَانِ وَأَسْلَمَ اثْنَانِ وَكَانَ اسْمُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ
يُنَافِي
أَسَامِيَ الْمُسْلِمَيْنِ وَهُمَا أَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ
وَأَبُو
لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بِخِلَافِ مَنْ اسْلَمْ وهما حَمْزَة
وَالْعَبَّاس .
******************************
ثم سعى في نقضِ تلكِ الصحيفةِ أقوامٌ من
قريش، فكان القائمُ
في أمر ذلك هشامُ بن عمرو بنِ ربيعة بنِ الحارث بن حَبِيب بن
جذيمة
بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، مشى في ذلك إلى
مُطعم بنِ عدي وجماعةٍ من قريش، فأجابوه
إلى ذلك، وأخبر
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه أن اللهَ قد أرسلَ على تلك
الصحيفةِ
الأَرَضَة، فأكلت جميعَ ما فيها إلا ذكرَ الله
عز وجل، فكان كذلك .
ثم رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، وحصل
الصلحُ برغمٍ
من أبي جهل عمرو بن هشام .
******************************
في هذه الجُمَل بيان أنهم بعد أن أجمع
كفارُ قُريش على مقاطَعةِ
مُناصري النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بني هاشم
وبني
المطلب حصل بينهم فيما بعدُ اختلافٌ وافتراق حينما
أكلت الأرَضَةُ الصحيفةَ فسعى نفرٌ في
نقض الصحيفة التي
كان تمَّ اجتماعهم عليها وتبرَّأُوا منها وقامَ بنقضِها هشامُ بنُ
عمرو والمُطعم بن عدي
وآخرون .
وقد أشار هُنا ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى
-إلى قصَّة يذكرها
بعضُ أهلِ السير أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي
طَالِبٍ: «يَا عَمِّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ
الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ فَلَمْ
تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ للَّه
إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهَا الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ
وَالْبُهْتَانَ» . فَقَالَ أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ «نعم» ! قال فو
الله مَا
يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ
ابْنَ أخى قد أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا فَهَلُمَّ
صَحِيفَتَكُمْ فَإِنْ كَانَتْ كَمَا قَالَ
فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا
وَانْزِلُوا عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ
ابْنَ أَخِي.
فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ نَظَرُوا
فَإِذَا
هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا
فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي
نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.
وقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى
ـ: (فأكلت جميع ما فيها
إلا ذكر الله عز وجل، فكان كذلك) .
أي كان الأمر على ما حكاه النبيُّ ـ صلى
الله عليه وعلى آله
وسلم ـ من أكلِ الأَرَضةِ وهي دود تأكل الأخشاب ونحوها ،
إلَّا ذِكرَ الله ِ .
والله أعلم القصة ذكرها ابنُ هشام في السيرة (2/ 19)بدون
إسناد فقد قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بعضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ: أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ؛
إنَّ رَبِّي اللَّهَ قَدْ
سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ الخ .
ثم بعد هذا انفكَّ الحصارُ وانتهى، فرجع بنو هاشم
و بنو
المطلب إلى مكة بعد ثلاث سنين ،وكان من حكمة اللهِ ورحمته
أن تفرَّقَّتْ قلوبُهم وتنافَرت مما
كان سبباً في خروج النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ومُناصريه من الحبْس
والحِصار .
(وحصل الصلح برغم من أبي جهل) نفذ الصلح على الرغم
من
أبي جهل و إن كان رافِضَاً له .
******************************
واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أن قريشاً
أسلموا، فقدم مكةَ
منهم جماعةٌ، فوجَدوا البلاءَ والشدَّة كما كانا، فاستمرُّوا بمكة
إلى أن هاجروا إلى المدينة، إلا السَّكرانَ بن عمرو زوج سود
بنت مزمعة، فإنه مات بعد
مقدمِه من الحبشة بمكة قبلَ الهجرة
إلى المدينة وإلا سلمةَ بن هشام، وعياشَ بن أبي
ربيعة، فإنهما
احتبسا مستضعَفين، وإلا عبدَ الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه
حُبس فلما
كان يومَ بدر، هرب من المشركين إلى المسلمين .
******************************
هنا تمام هذا الفصل يذكر ابنُ كثير ـ رحمه
الله تعالى ـ أنه
أشيعت أخبارٌ أن قريشاً بمكةَ أسلموا، وبلغ ذلك المهاجرين إلى
الحبشة، وهذا قبل هجرة النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ
إلى المدينة بقليل ، في السنة العاشرة من البعثة،
وقد مكثَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ في مكة ثلاثة
عشر عاماً .
فرجع المهاجرون من الحبشة وهذا غير رجوعهم
الأول، رجعوا
فوجدوا البلاءَ، والشدَّة، والأذى
كما كان من قبل فبقوا
بمكة إلى أن هاجر النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة.
فلما هاجر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ هاجر
أصحاب الهجرة إلى الحبشة معه إلى المدينة إلا هؤلاء النفر .
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (إلا
السكران بن
عمرو زوج سود بنت زمعة) كان زوجُ سودةَ قبل أن يتزوجها
النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ ، سودة بنت زمعة -
رضي الله عنها - كانت تحت السكران بن عمرو
ـ رضي الله عنه
ـ صحابي أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ولم يخرج مع النبي ـ
صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة؛ لأنه مات قبل
الهجرة .
قال - رحمه الله تعالى - (و إلا سلمةَ بن هشام) أخو أبو جهل
عمرو بن هشام
والحارث .
(وعياش بن أبي ربيعة، فإنهما احتُبسا مستضعَفين)
لم يخرجا مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ حينما
هاجرَ إلى المدينة بسبب حَبْس قريش لهما .
وقنت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ يدعولهما فقد
ثبت في الصحيحين البخاري (1006) ومسلم (295 )-
(675) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ،
يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي
رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ
سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ،
اللَّهُمَّ أَنْجِ
المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى
مُضَرَ،
اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ: وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ
" .
سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة - رضي
الله عنهما - لم
يشهدا بدرًا، ولا أحدًا، ولا الخندقَ؛ لأنهما كانا محبوسَين .
الوليد بن الوليد قال الحافظ
في الإصابة في ترجمته: الوليد بن
الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن
عمر بن مخزوم القرشي
المخزوميّ، أخو خالد
بن الوليد .
لما أسلم حبسه أخواله، فكان النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يدعو له
في القنوت، كماثبت في الصّحيح ثم أُفلت من أسرهم،
ولحق بالنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم في عمرة
القضية .اهـ المراد
.
وقد نجاهم اللهُ سبحانه وتعالى
من أيدي المشركين جميعاً .
(وإلا عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه
حُبس)
عبدالله بن مخرمة بن عبد العزى أيضًا لم
يخرج مع النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة حبسه المشركون.
(فلما كان يوم بدر، هرب من المشركين إلى
المسلمين)
هرب من أيدي المشركين وشهد مع النبي ـ صلى
الله عليه
وعلى آله وسلم بدراً وجميعَ المشاهد .
ونحن في دروسنا هذه نتذكر جرائمَ الحوثيين،
وأفعالَهم الشنيعة
من حصار الصالحين الأخيار في –دار الحديث بدماج –
وأذاهم،وتعذيبهم، وصب النيران عليهم ، وسفْك
الدماء البريئة
وقتل الضُّعفاء من النساء والصبيان وكبار السِّن نتذكَّرُهَا لأننا
نجدهامطابقة بل وأشد ، فهذه الأفعال أفعال مشركين ماهي
أفعال
مسلمين ،ومن غيرِأيِّ سبب كما قال تعالى { وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْإِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
و اللهُ ليس بغافلٍ عنهم ولكنه
سبحانه يمْهل ويستدرج الظلمة
بالنِّعم والأولاد والأموال ثم يأخذهم أخذ
عزيزٍ مقتدر.
وهُمُ الآن في حضيضِ البلاء والعذاب
نسألَ اللهَ أن يخمدَ
شوكتهم ويكفي البلادَ والعباد شرَّهُم .
******************************
فصل ـ خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
الطائف
فلما نُقِضت الصحيفةُ وافق موتَ خديجةَ
رضي الله عنها، وموتَ
أبي طالب، وكان بينهما ثلاثةَ أيام، فاشتدَّ البلاءُ على رسول
الله
صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومِه، وأقدموا عليه، فخرج
رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم إلى الطائف لكي يؤووه
وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عز وجل،
فلم يجيبوه إلى شيءٍ من الذي طَلب، وآذوه أذى عظيماً، لم ينل
قومُه منه أكثر مما نالوا
منه فرجع عنهم .
******************************
لمَّا نُقضت الصحيفةُ التي كان تمَّ الإجماع
عليها، وهذا في سنةِ
عشر من البعثة النبوية.
تتابعت المصائبُ على النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ
فماتت خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - التي كانت
مناصرةً، مؤانسةً،
معينةً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ و مات أبو طالب عمُّ النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ
الذي كان يغضب له و يحوطه، وهذا من تتابع المصائب ولله
الحكمة
البالغة .
(وكان بينهما ثلاثة أيام )
يقول : كان بين وفاتيهما ثلاثة أيام، والذي
نستطيع أن نجزم به
،أنه كان موتُهما في عامٍ واحد ، وكان بين وفاتيهما مدة
يسيرة، يقول بعضهم ثلاثة أيام، وقيل غير
ذلك.
ثم اشتد البلاء على النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ ؛
لأن أبا طالب كان مانعًا لأذى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى
آله
وسلم ـ فلما مات اشتد الأذى على رسول الله ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ ، فخرج
رسول الله ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ إلى الطائف؛ لكي يؤووه وينصروه ليبلغ
الرسالة،
والإسلام فقابله أهلُ الطائف بأشد أنواع الأذى،
وردُّوا قوله، ولم يستجيبُوا له ثم رجع
بعد ذلك إلى مكة.
وقد ثبت في صحيح البخاري
(3231) عَنِ عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا
قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ
يَوْمِ أُحُدٍ،
قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا
لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا
لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي
عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ
عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ،
فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى
وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا
بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا
بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي،
فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ
اللَّهَ قَدْ سَمِعَ
قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ
الجِبَالِ
لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ،
ثُمَّ
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ
عَلَيْهِمُ
الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ
أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ
اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ،
لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) .
(بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ) ميقات أهل نجد، وهو قرن المنازل (الأَخْشَبَيْنِ)
أي : جبال مكة.
وهذا من رحمة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
بالكفار، لم يدعُ
عليهم، وأحيانًا قد يدعو عليهم إذا اشتدت
شوكةُ الكفار ، قد يدعو ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ عليهم حسب المصلحة. والله تعالى أعلم .
وهذا الحديث فيه إرسالُ الله ملَك الجبال إلى النبي ـ صلى الله
عليه وعلى
آله وسلم ـ عند رجوعه من الطائف إلى مكة على
قول من أقوال أهل العلم أن هذا في رجوعه من الطائف إلى مكة .
******************************
ودخل مكة في جوارِ المطعمِ بن عدي بن نوفل
بن عبد مناف،
وجعلَ يدعو إلى الله عز وجل، فأسلم الطفيلُ بن عمرو الدَّوسي،
ودعا له
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له آيةً ،
فجعل الله في وجهِه نوراً، فقال:
يا رسولَ الله أخشى أن يقولوا
هذا مُثْلَةٌ، فدعا له، فصار النورُ في سوطه، فهو المعروف
بذي النُّور.
ودعا الطفيلُ قومَه إلى الله فأسلم بعضُهم،
وأقام في بلاده، فلما
فتح الله على رسوله خيبر قدم بهم في نحوٍ من ثمانين بيتاً.
******************************
لمَّا رجع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ من الطائف
إلى مكة كان في جوار المُطعِم بن عَدي، والمُطعِم بن عَدي كان
كافرًا
ومات على ذلك، ولم ينسَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ هذا الإحسان من المُطعِم
بن عَدي بل حفظ له ذلك،
وأحب أن يكافِئَه كما في صحيح البخاري عَنْ جبير بن مطعم
رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي
أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ
حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي
هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» .
(النَّتْنَى) الأسرى من كفار قريش الذين
كانوا بأيدي المسلمين،
نتنى لكفرهم .
فهنا كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ بجوار المُطعِم
بن عَدي أنه لا يتعرض أحدٌ بأذى له .
وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدعو
الله فجاء
الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة، وكانوا يحذِّرونه، وهذا شأن
الأعداء كانوا
يقولون: إنه كاهن ، ساحر، فقال: لِمَ لا أسمع
منه، فأسلم على يد النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ
و هنا ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله
تعالى ـ قصةً له.
(ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يجعل الله له آية)
(الآية): العلامة. نور بينَ عينيه يضيء
إذا مشى في الظلام .
(فجعل الله في وجهه نوراً، فقال: يا رسول
الله أخشى أن يقولوا
هذا مُثلة)
قد يقولون هذا عيب .
(فدعا له، فصار النُّور في سوطه، فهو المعروف
بذي النُّور)
السوط: العصا .
القصة من طريق ابن الكلبي، وهو هشام بن
محمد بن السائب
الكلبي، وهو متروك .
وللفائدة أيضاً أبوه محمد بن السائب متروك .
و الطفيل بن عمرو هاجر إلى النبي ـ صلى
الله عليه وعلى آله
وسلم ـ بالمدينة ومعه صاحب له فاجتَوَوا المدينة ـ أي: تغير
عليهم
الجوـ ، وعمد صاحبه إلى مشاقص فقطع بَرَاجِمَه ـ
البراجم: مفاصل الأصابع ـ فجعل يَشخُبُ دمًا ـ أي: ينزُف ـ كما
في صحيح
مسلم عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ
لَكَ فِي
حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ -
فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ،
فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ
الطُّفَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ،
فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ،
فَشَخَبَتْ
يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي
مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ
حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ
لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ
لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ
مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟
قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا
الطُّفَيْلُ
عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» .
الطفيل عرض على النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ
بمكة الخروج إلى دوس، وقال: إن هناك حصنًا لدوس، وأراد
الله أن يجعل هذا للأنصار فهاجر النبي ـ صلى الله
عليه وعلى
آله وسلم ـ إلى المدينة {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] .
قال القاضي في إكمال المُعْلِم (1/ 270 ) : فَأبى ذلكً النَّبِى (
صلى الله عليه وسلم ) لِلَّذِى ذَخَرَ
الَلّهُ لِلأنْصًارِ .
( و دعا الطفيل قومَه) يعني قبيلة دوس .
(و أقام في بلاده ، فلما فتح اللهُ على
رسوله خيبر قدم بهم في
نحوٍ من ثمانين بيتاً).
سبحان الله إسلام أمة عظيمة من قبيلة دوس،
وقد ثبت في
الصحيحين البخاري (2937) ومسلم (197)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ
اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ
اهْدِ دَوْسًا
وَأْتِ بِهِمْ).
وهذا من رحمة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ بالكفار
و قد تقدم في أول الكتاب.
وبهذا ننتهي .