جديد المدونة

جديد الرسائل

السبت، 17 أكتوبر 2015

بيان مكرالنسوة اللائي أنكرنَ على امرأة العزيزمن وجوه

قال تعالى { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ }.
قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 115)

فإن قيل: فما كان مكرُ النسوة اللاتى مكرن به، وسمعتْ به امرأةُ العزيز، فإن الله سبحانه لم يقصه فى كتابه؟.

قيل: بلى، قد أشار إليه بقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المَدينَةِ اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتَاهَا عَنْ 

نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] .

وهذا الكلام متضمِّن لوجوهٍ من المكر:

أحدها: قولُهن: {اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِد فَتَاهَا} [يوسف: 30] .

ولم يسمُّوها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذى يُنادى عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل. فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.

الثانى، أن زوجها عزيزُ مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.

الثالث: أن الذى تراوده مملوك لا حُر، وذلك أبلغ فى القبح.

الرابع: أنه فتاها الذى هو فى بيتها وتحت كنفِها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبى البعيد.

الخامس: أنها هى المراودة الطالبة.

السادس: أنها قد بلغ بها عشقُها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها.

السابع: أن فى ضمن هذا أنه أعفُّ منها وأبرُّ، وأوفَى، حيث كانت هى المراودة 

الطالبة، وهو الممتنع، عفافاً وكرماً وحياء، وهذا غايةُ الذم لها.

الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع، 

حالا واستقبالا: وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها.

 وفرقٌ بين قولك: فلان أضاف ضيفا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل 

الكل. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.

التاسع قولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] .

أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح فنسبن الاستقباح إليها.

 ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى، ولا يكدن يرين ذلك قبيحا .

كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك .

 فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي 

أن تساعَد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.

العاشر: أنهن جمعنَ لها فى هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط.

 فلم تقتصد فى حبها، ولا فى طلبها.

أما العشق فقولهن: {قَدْ شَغَفَهَا حُباً} [يوسف: 30] .
أي وصل حبه إلى شغاف قلبها.

وأما الطلب المفرْط فقولهن: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف: 30] .

والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على 

الفاحشة. فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم 

أرسلت إليهن، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن.

وقيل: إنها جمَّلته وألبسته أحسنَ ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرعْهُنَّ 

إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك المنظر البهى، وفى 


أيديهن مُدًى يقطِّعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن.

 وقد قيل: إنهن أبنَّ أيديهن .

 والظاهر خلاف ذلك  .
 وإنما تقطيعهن أيديهن: جُرحُها وشقها بالمُدى لدَهَشِهنَّ بما رأين .

 فقابلت مكرَهن القولي بهذا المكرِ الفعلي، وكانت هذه فى النساء غاية فى المكر .اهـ