جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 2 مارس 2025

(63)فتاوى رمضان

 

غفر الله لنا ولكم ولوالدينا وسددكم لكل خير،  مما هو معلوم لنا ولكل مسلم ومسلمة أن شأن الصلاة عظيم وقد أخذت بمجامع قلبي لسنوات كلمات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة )، فدليني -هدانا الله وإياكم سواء السبيل- كيف تكون الصلاة راحة لنا وأنسًا وقرة عين، وخاصة في رمضان؟ وجزاكم الله عنا خيرًا.

الجواب:

نفعنا الله وإياكم، إليكِ ما بيَّنه ابن القيم بيانًا شافيًا كافيًا:

في «رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه»(34):

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الصَّلَاة الَّتِي تقر بهَا الْعين، ويستريح بهَا الْقلب، هِيَ الَّتِي تجمع سِتَّة مشَاهد:

المشهد الأول: الْإِخْلَاص، وَهُوَ أَن يكون الْحَامِل عَلَيْهَا والداعي إِلَيْهَا رَغْبَة العَبْد فِي الله، ومحبته لَهُ وَطلب مرضاته والقرب مِنْهُ، والتودد إِلَيْهِ وامتثال أمره، بِحَيْثُ لَا يكون الْبَاعِث لَهُ عَلَيْهَا حظًا من حظوظ الدُّنْيَا الْبَتَّة، بل يَأْتِي بهَا؛ ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى؛ محبَّة لَهُ وخوفا من عَذَابه ورجاء لمغفرته وثوابه.

المشهد الثَّانِي: مشْهد الصدْق والنصح، وَهُوَ أَن يفرغ قلبه لله فِيهَا، ويستفرغ جهده فِي إقباله فِيهَا على الله، وَجمع قلبه عَلَيْهَا، وإيقاعها على أحسن الْوُجُوه وأكملها ظَاهرا وَبَاطنا؛ فَإِن الصَّلَاة لَهَا ظَاهر وباطن.

فظاهرها الْأَفْعَال الْمُشَاهدَة والأقوال المسموعة، وباطنها الْخُشُوع والمراقبة وتفريغ الْقلب لله، والإقبال بكليته على الله فِيهَا، بِحَيْثُ لَا يلْتَفت قلبه عَنهُ إِلَى غَيره، فَهَذَا بِمَنْزِلَة الرّوح لَهَا وَالْأَفْعَال بِمَنْزِلَة الْبدن، فَإِذا خلت من الرّوح كَانَت كبدنٍ لَا روح فِيه.

المشهد الثَّالِث: مشْهد الْمُتَابَعَة والاقتداء، وَهُوَ أَن يحرص كل الْحِرْص على الِاقْتِدَاء فِي صلَاته بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيُصلي كَمَا كَانَ يُصَلِّي، ويعرض عَمَّا أحدث النَّاس فِي الصَّلَاة من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، والأوضاع الَّتِي لم ينْقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء مِنْهَا وَلَا عَن أحد من أصحابه.

المشهد الرَّابِع: مشْهد الْإِحْسَان، وَهُوَ مشْهد المراقبة، وَهُوَ أَن يعبد الله كَأَنَّهُ يرَاهُ، وَهَذَا المشهد إِنَّمَا ينشأ من كَمَال الْإِيمَان بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته، حَتَّى كَأَنَّهُ يرى الله سُبْحَانَهُ فَوق سماواته، مستويًا على عَرْشه، يتَكَلَّم بأَمْره وَنَهْيه، وَيُدبر أَمر الخليقة، فَينزل الْأَمر من عِنْده ويصعد إِلَيْهِ، وَتعرض أَعمال الْعباد وأرواحهم عِنْد الموافاة عَلَيْهِ، فَيشْهد ذَلِك كُله بِقَلْبِه، وَيشْهد أسماءه وَصِفَاته، وَيشْهد قيومًا حَيًّا سميعًا بَصيرًا، عَزِيزًا حكيمًا، آمرًا ناهيًا، يحب وَيبغض، ويرضى ويغضب، وَيفْعل مَا يَشَاء، وَيحكم مَا يُرِيد، وَهُوَ فَوق عَرْشه لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أَعمال الْعباد وَلَا أَقْوَالهم وَلَا بواطنهم، بل يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور.

المشهد الْخَامِس: مشْهد الْمِنَّة، وَهُوَ أَن يشْهد أَن الْمِنَّة لله سُبْحَانَهُ، كَونه أَقَامَهُ فِي هَذَا الْمقَام وَأَهَّله لَهُ ووفقه لقِيَام قلبه وبدنه فِي خدمته، فلولا الله سُبْحَانَهُ لم يكن شَيْء من ذَلِك.
فالمنة لله وَحده فِي أَن جعل عَبده قَائِما بِطَاعَتِهِ، وَكَانَ هَذَا من أعظم نعمه عَلَيْهِ، وَهَذَا المشهد من أعظم الْمشَاهد وأنفعها للْعَبد، وَكلما كَانَ العَبْد أعظم توحيدًا كَانَ حَظه من هَذَا المشهد أتم.

وَفِيه من الْفَوَائِد: أَنه يحول بَين الْقلب وَبَين الْعجب بِالْعَمَلِ ورؤيته؛ فَإِنَّهُ إِذا شهد أَن الله سُبْحَانَهُ هُوَ المانَّ بِهِ، الْمُوفق لَهُ، الْهَادِي إِلَيْهِ، شغله شُهُود ذَلِك عَن رُؤْيَته والإعجاب بِهِ، وَأَن يصول بِهِ على النَّاس، فيرفع من قلبه، فَلَا يعجب بِهِ وَمن لِسَانه، فَلَا يمن بِهِ وَلَا يتكثر بِهِ.
المشهد السَّادِس: مشْهد التَّقْصِير، وَأَن العَبْد لَو اجْتهد فِي الْقيام بِالْأَمر غَايَة الِاجْتِهَاد وبذل وَسعه فَهُوَ مقصر، وَحقّ الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ أعظم. اهـ المراد.