من الحرص على العلم: التقييد
طالبة العلم ذاتُ الهِمَّةِ تُعرف بقلمها ودفترها، فهذا يحرص عليه أهل الهِمَمِ الرفيعة.
قد تجدين أو تسمعين فائدة تساوي الدنيا؛ لأنها تنقذكِ من جهل وظلمات، أو تردعكِ عن أشياء أنتِ واقعة فيها من مخالفات، وانتهاك للحرمات، أو تصلح سريرتك وفيما بينك وبين ربك، وتقربك من الجنة وتباعدك من النار. قال تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)﴾[الحديد].
قد تتذكَّرين فائدة- لو أُجِّلَتْ كتابتها تذهب عنكِ؛ فآفة العلم النسيان، أو إشكال يقيَّد؛ من أجل السؤال عنه، أو البحث عنه لمن عندها قدرة.
فلا بد من التقييد، وإلا ذهبت المعلومات وحصل النقص، خاصة مع ضعف الحافظية في هذه العصور المتأخرة، إذا كان منصور بن المعتمر -أحد المحدثين- يندم؛ لأنه ما كان يكتب، فكيف بنا نحن؟!
يقول رَحِمَهُ الله: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ وَأَنَّ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ ذَهَبَ عَنِّي مِثْلُ عِلْمِي. رواه البغوي في «زوائد الجعديات» (901)، والرامهرمزي في«المحدث الفاصل» (355).
ذهب عليه مثل علمِهِ وهو النصف؛ لأنه ما كان يقيد.
ويقول منصور: قلت لإبراهيم: كان سالم بن أبي الجعد أتم حديثًا منك؟ قال: إن سالمًا كان يكتب. رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» (1888).
حتى إن من أهل العلم من يرى أن كتابة كل ما يسمع في الحلقة وفي المجلس العلمي يكون من غير انتخاب.
وهناك بعض أهل العلم كانوا ينتخبون -ينتقون-، يسمع معلومات ويأخذ ما يرى أنه الأهَمُّ أو ما يحتاج له، ويمكن أن يكون ترك الأهم في الحقيقة فيفوت أشياء عليه، ويقولون في بعض الرواة: كان ينتخب، وقد كان عبد الله بن المبارك يفعله فندِمَ.
وإليكم هذه المسألة من «مراجعة تدريب الراوي»:
الشيخ الوالد: هل الأَولى له أن ينتخِبَ على الشيخ، أم يكتب كلَّ ما عند الشيخ ثُمَّ ينتخب؟
الطالب: الأَولى له أن يكتب كلَّ ما عند الشيخ ثُمَّ ينتخبُ.
الشيخ: لا بأس.
الشيخ: هل تستحضرُ شيئًا من كلامِ علمائنا في هذا؟
الطالب: قال عبد الله بن المبارك: مَا انْتَخَبْتُ عَلَى عَالِمٍ قَطُّ إِلَّا نَدِمْتُ. اهـ.
وقد جاء عن أبي حاتم الرازي: إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ. كما في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1670).
(إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ) يعني: اكتب كل ما تسمع ولا تنتقي.
(وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ) وقت التبليغ والتحديث يتحرى وينتقي المفيد، هذه طريقة جميلة مفيدة.
أما الانتقاء فقد يحصل ندم للذي ينتقي؛ لأنه فيما بعد سيدرك أنه ترك أشياء وفاتته علوم، فكيف بمن يُهمِلُ ولا يكتب شيئًا؟ كأن الأمر يعني غيرَهُ ولا يعنيه.
اللهم اهدنا إلى سواء السبيل.
[مقتطف من درس بلوغ المرام 38 لابنة الشيخ مقبل رَحِمَهُ الله تَعَالَى]