قَالَ أَبُو الفَضلِ أَحمَدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حَجَرٍ العَسقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
(بَابُ الآنِيَةِ) ذُكر هذا الباب في أبواب الطهارة؛ لأنه يُحتاج لها في الوضوء والغسل.
والآنية جمع إناء. والأصل في الآنية الحل، قال الله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة:29].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
16-عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
من فوائد هذا الحديث:
§ النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة.
ونقل الإجماع على التحريم النووي رَحِمَهُ الله في «شرح صحيح مسلم».
§ ظاهر الحديث العموم في النهي للرجل والمرأة، قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (14/29): وَيَسْتَوِي في التحريم الرجل والمرأة بلا خلاف.
وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي التَّحَلِّي؛ لما يُقصد منها من التزين لِلزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ.
حكم استخدام آنية الذهب والفضة لغير الأكل والشرب، مثل: وعاء الطيب، والكحل، والقلم:
جمهور أهل العلم على أن الحكم واحد، وأنه يُلحق بالنهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. وهذا هو الصحيح؛ لأنه إذا نُهِي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فغيرُهُما من باب أولى.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن النهي خاص بالأكل والشرب في آنية الذهب والفضة؛ لأن الدليل ورد في الأكل والشرب فلا يُلحق به ما عداه، وهذا الذي ذهب إليه الصنعاني في «سبل السلام». وهو قول الشوكاني في «نيل الأوطار»، والشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُم اللهُ.
ومن أدلة هذا القول حديث أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وهو: أن التابعي عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ-وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلاَثَ أَصَابِعَ مِنْ قُصَّةٍ-، فِيهِ شَعَرٌ مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَاطَّلَعْتُ فِي الجُلْجُلِ، فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا. رواه البخاري (5896).
والجلجل، قال الشيخ ابن عثيمين في «الشرح الممتع»(10/226): يعني مثل ما نسميه نحن (قارورة).
واختلفت الروايات هل هو بلفظ قُصّة أو بلفظ فضة؟ وورد أيضًا بلفظ «صُرَّة» عند الطبراني (23/332) عن عُثْمَان بْن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْرَجَتْ لَنَا صُرَّةً فِيهَا شَعْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْضُوبٌ بِحِنَّاءٍ، فَقَالَتْ: «هَذَا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وسنده صحيح. والصُّرَّة بِالضَّمِّ: خرقَة مربوطة.
وهذا يفيد جواز التبرك بآثار النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، لكنه لا يتعدى ذلك إلى غيرِه، فلا يُتبرك بأبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ولا مَن دونهما.
حكم اتخاذ آنية الذهب والفضة لمجرد الزينة فقط:
جمهور أهل العلم ألحقوا بالنهي اتخاذ آنية الذهب والفضة للزينة لا للاستعمال، فقالوا: ينهى عنه من باب أولى.
قال القرطبي في «المفهم»(5/346): وأما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة من غير استعمال، فمذهبنا، ومذهب جمهور العلماء: أن ذلك لا يجوز.
وذهبت طائفة من العلماء إلى جواز اتخاذها دون استعمالها.
ونستفيد من هذا الحديث:
§ التعليل للنهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة؛ وذلك لاجتناب التشبه بالكفار. وما عدا ذلك من العلل فمنتقدة.
§ وفيه تسلية الإنسان لنفسه، إذا وجد زخارف الدنيا وزينتها فيتذكر الآخرة، ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)﴾ [غافر:39].
وهكذا ينبغي لمن رأى العمران وزخارف الدنيا وعيشها، ينبغي أن يبادر إلى تحقير الدنيا؛ لأنها إلى الزوال «لَبَّيْكَ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ» رواه الإمام أحمد (20/459)، والحديث في الصحيح بدون لفظة «لبيك».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
«إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» الجرجرة: صوت الماء في الجوف.
وهذا باعتبار بما يؤول إليه الأمر، كما قال تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾ [النساء:10].
«جَهَنَّمَ» هذا من أسماء النار. قيل: سميت جهنم؛ لبُعد قعرها، وقيل: سميت بذلك؛ لغَلظ أمرِهَا.
وحديث أم سلمة في هذه الرواية الاقتصار على ذكر الفضة، ولكن فيه رواية في «صحيح مسلم» (2065)عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ..».
وهذه الرواية فيها ذكر الذهب والفضة، فنستفيد: أن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة كبيرة من الكبائر.