قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].
فوائد الآية:
- فيه تقسيم الظن إلى قسمين: منهي عنه وهو كثير، وجائز.
-تحريم سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة والخير، كما في الحديث: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» رواه البخاري (6064)، ومسلم (2563) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ويقول الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [يونس: 36].
-تحريم تجسس المسلم على أخيه المسلم.
-نستفيد: الأخذ بما ظهر وترك تتبع عيوب الآخرين، والجزاء من جنس العمل، كما في الحديث: «مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» أخرجه الترمذي في «سننه» (2032) عَنْ ابْنِ عُمَرَ، والحديث في «الصحيح المسند» للوالد رحمه الله.«جَوْفِ رَحْلِهِ» أي: بيته.
- التنفير عن الغيبة.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ فيه تقوى الله، وترك هذه الخصال التي تنافي الأخوة الإيمانية. والحث على التوبة، فمن تاب توبة صادقة تقبَّل الله توبته، وجعله من المرحومين.
-هذه الآية فيها تشبيه تمثيلي، مثَّل المغتاب بمن يمزِّق جثة أخيه ويأكله، وهذا مما تنفر منه النفوس وتستبشعه، وخاصة الميت، وهذا غاية التنفير والتحذير عن الغيبة.
-ولذكر الموت في قوله: ﴿ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ﴾ فائدة: وذلك لأن الغِيبة في حق الغائب دون الحاضر فكأنه ميت؛ لأنه يغتابه في حال غَيبته.
-وأيضًا الشخص الذي اغتيب غائب، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فكان هذا بمنزلة الميت الذي يمزَّقُ لحمه، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
وذكر سُبحَانَهُ لفظ الأخ ﴿لَحْمَ أَخِيهِ﴾؛ لأن مقتضى الأخوة التحابب والتراحم والنصرة، وكانت الغِيبة لأخيه بمنزلة تقطيع لحمه، فهي تنافي الأخوة الإيمانية.
-وشبه الغِيبة بالتفكه بالأكل؛ لأن المغتاب يتفكه ويتمتع بغِيبة أخيه والطعن في عرضه. فالمحبة معنى زائد على مجرد الأكل، فهذا يحب لحم أخيه، والأكل قدر زائد على تمزيق العرض، فهو يمزق ويأكل.
مسألة: هل الغِيبة تكون في الحضور والغَيبة أم في الغَيبة فقط؟
كلام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ يفيد أنها تكون في حال الغَيبة فقط، وهذا الذي رجحه الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ وأخذه من اشتقاق الغِيبة.
وتحريم الغيبة عام حق المسلم صغيرًا أو كبيرًا ذكرًا أو أنثى، ويدخل فيه عيب الصورة الظاهرة والباطنة، كذلك نسبه، ويدخل فيه القول والفعل والكتابة.
ونستفيد من الآية: أن الغيبة من كبائر الذنوب، والغيبة داخلة في الظلم؛ لأنها من نهش الأعراض.
أدلة في تحريم الغيبة مع ما ذُكِر:
يقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» رواه أبو داود (4876) عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وهو في «الصحيح المسند» (435) لوالدي رَحِمَهُ الله.
ويقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» رواه البخاري (1739) واللفظ له، ومسلم (1679) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
ويقول النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» رواه أبو داود (4878) عَنْ أَنَسِ، وهو في «الصحيح المسند» (112) لوالدي رَحِمَهُ الله.
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا!، -تَعْنِي: قَصِيرَةً-، فَقَالَ: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ»، قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا». رواه أبو داود (4875).
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم (2581).
ويستثني من الغيبة ستة أمور، قال الشاعر:
الــــذَّمُّ لَيْسَ بِغِيبَـــــــــــــةٍ فِي سِتَّةٍ |
♣ |
مُتَظَلِّمٍ وَمُعَــــــــرِّفٍ وَمُحَـــــــذِّرٍ |
وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ |
♣ |
طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إزَالَةِ مُنْكَرٍ |