ضرب المثل في قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49)كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 51].
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ﴾ بضم الميم جمع حمار، وأما حمْر بإسكان الميم فهي الإبل النفيسة.
﴿ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَحْتَ الْمُسْتَنْفِرَةِ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ النَّافِرَةِ؛ فَإِنَّهَا لِشِدَّةِ نُفُورِهَا قَدْ اسْتَنْفَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَحَضَّهُ عَلَى النُّفُورِ)، فلم يقل سبحانه: نافرة؛ لأن مستنفرة أبلغ في المعنى من النافرة، فهي لشدة نفورها مما تخاف قد استنفر وهيَّجَ بعضُها بعضًا على النفور.
مستنفرة فيها قراءتان: مستنفِرة اسم فاعل، أي: نافرة، يستنفر بعضها بعضا، والقراءة الثانية: مستنفَرة اسم مفعول، قال أبو حيان الأندلسي في «البحر المحيط»(10/339): مُسْتَنْفَرَةٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالْمَعْنَى: اسْتَنْفَرَهَا فَزَعُهَا مِنَ الْقَسْوَرَةِ.
﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ فيه قولان للمفسرين، أحدهما: الأسد، والثاني: الرامي، وهو الصائد، وهذا من الألفاظ المشتركة.
أركان التشبيه: المشبه: وهم المشركون، وحرف التشبيه: وهو حرف الكاف، والمشبه به: حمر مستنفرة، ووجه التشبيه: من حيث الغباء والبلادة وشدة النفور، فهؤلاء المشركون يعرضون عن سماع القرآن وينفرون منه كما تنفر الحمر الوحشية ممن يريد افتراسها وعقرها، فهذا التشبيه في غاية الذم لهؤلاء المعرضين عن التذكير.
ونستفيد: التحذير من الإعراض عن التذكير والموعظة.
وكما قال ربنا سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) ﴾ [السجدة: 22]. فالمعرض عن التذكير من أعظم الناس ظلمًا، وتوعد الله عَزَّ وَجَل المعرض، فقال: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) ﴾ [طه: 124].
والإعراض عن التذكير قد يكون بعدم السماع، وقد يكون بعدم العمل بما سمع، «وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» رواه البخاري (66) عن أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ.
وهذا فيه تخويف لمن يطلب العلم أن يحذر من التساهل والتكاسل في العمل بما تعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: 5].
﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ أوتوا التوراة.
﴿ أَسْفَارًا﴾ الأسفار: الكتب الكبار.
﴿بِئْسَ﴾ كلمة يؤتى بها للذم.
نستفيد من الآية أن من حمل العلم وحفظ من غير تدبر ولا تفهم ولا عمل به، فهذا مثله كمثل حمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها.
وهذا المثل ليس خاصًّا باليهود الذين نزل عليهم التوراة، قال ابن القيم رحمه الله: (فَهَذَا الْمَثَلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضُرِبَ لِلْيَهُودِ، فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ، وَلَمْ يَرْعَهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ) فكل من تعلم العلم ولم يعمل به فهو داخل في الآية.
أركان التشبيه: المشبه: الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، يعني: الذي لا يعمل بعلمه، وحرف التشبيه: الكاف، والمشبه به: الحمار، ووجه تشبيه الذي لا يعمل بما تحمله من العلم بالحمار: لأن الحمار لا ينتفع بما يحمله من الكتب والعلم النافع، ولا يدري ما الذي يحمل هل يحمل كتبًا أو أمتعة أو غير ذلك، فكذلك اليهود يقرؤون التوراة ولم ينتفعوا بما فيها، والذي كان مِنْ أهمِّ ما فيها وأعظمه الإخبار برسالة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، فكذبوا ولم ينتفعوا، كما قال عز وجل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)﴾ [البقرة: 89].
وقد شبههم بالحمير وهم أسوأُ منه وأشد قبحًا؛ لأنهم لم ينتفعوا بما أعطاهم الله من آلة الإدراك والسمع والبصر والقلب، قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره»(8/117): فَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحَمِيرِ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا فهمَ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فُهُومٌ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]، وقال هاهنا: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. اهـ.
ونستفيد من هذه الآية مع ما تقدم:
-العمل بالعلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن.
-الحث على تفهم المعاني، معاني آيات القرآن والأحاديث النبوية والشروحات المفيدة، فلا يكن حفظٌ من غير فهم. وقد امتن الله سُبحَانَهُ على نبيه سليمان، فقال: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 79].
فمن علم ولم يعمل بعلمه فهو داخل في الآية، ومن علم ولم يفهم له نصيب من الآية، وقد قال الله تَعَالَى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) ﴾ [العنكبوت: 43]. أثنى ربنا على أهل الفهم الذين يفهمون الأمثال.
-قبح اليهود وذمهم ومن كان على شاكلتهم.
-البراءة والعداوة لليهود ﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.