[سورة المؤمنون (23) : الآيات 76 الى 83]
قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ﴾ إلى قوله تَعَالَى: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)﴾
﴿وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ﴾ قال ابن كثير: أَيِ: ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِد.
﴿ فَمَا اسْتَكانُوا﴾ أي: ما خشعوا، الاستكانة: الذُّلّ وَالْخُضُوع. كما جاء في «تفسير القرطبي» (19 / 101 )، وجاء ذكر الاستكانة أيضًا في قول الله: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) ﴾ [آل عمران: 146]، قال السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية (١٥١):أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم.
﴿فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ﴾ قال ابن كثير: أَيْ فَمَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الكفر والمخالفة، بل استمروا على غيهم وضلالهم فَمَا اسْتَكانُوا، أَيْ مَا خَشَعُوا وَما يَتَضَرَّعُونَ أَيْ مَا دَعَوْا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾[الأنعام: 43] الْآيَةَ.
﴿فَمَا اسْتَكانُوا﴾ أي: ما دعوا، فيحتاج المصاب إلى تضرع إلى ربه ولجوء عند نزول المصيبة؛ ولهذا الله سبحانه ذم من لم يرجع إلى ربه عند الشدائد، فالمصاب بحاجة شديدة إلى ربه فلا يقسو قلبه، أو يضعف ويترك الدعاء، فإن المصيبة لها دهشة لا يثبت إلا من ثبته الله.
سبب نزول الآية: روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ- يَعْنِي الْوَبَرَ وَالدَّمَ- فَأَنْزَلَ ﴿اللَّهُ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا﴾ الآية، والحديث ذكره والدي رحمه الله في «الصحيح المسند من أسباب النزول» (141). وأصله فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَوْا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ».
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ..﴾ قال ابن كثير رحمه الله: أَيْ ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَجَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾، فأخذهم من عذاب اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أُبْلِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ رَاحَةٍ، وَانقَطَعَتْ آمَالُهُمْ وَرَجَاؤُهُمْ).
﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ قال ابن كثير رحمه الله: وَهِيَ الْعُقُولُ والفهوم التي يذكرون بِهَا الْأَشْيَاءَ وَيَعْتَبِرُونَ بِمَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الآيات الدالة على وحدانية الله، وَأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لِمَا يَشَاءُ.
﴿قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ﴾ ما: زائدة للتوكيد، قال ابن كثير رحمه الله: أي: ما أَقَلَّ شُكْرِكُمْ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ.
﴿ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)﴾ قال القرطبي في «تفسيره» (12/ 144): أي أنشأ كم وَبَثَّكُمْ وَخَلَقَكُمْ. ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أَيْ: تُجْمَعُونَ لِلْجَزَاءِ.
﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ قال ابن كثير: أَيْ: يُحْيِي الرِّمَمَ وَيُمِيتُ الْأُمَمَ.
﴿ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ﴾ أَيْ: وَعَنْ أَمْرِهِ تَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ وَلَا يَفْتَرِقَانِ بِزَمَانِ غيرهما.
﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ: أَفَلَيِسَ لَكُمْ عُقُولٌ تَدُلُّكُمْ عَلَى الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَخَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
﴿ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ يَعْنِي يَسْتَبْعِدُونَ – أي: مُنْكِرِي الْبَعْثِ - وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ إِلَى الْبِلَى.
﴿ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا﴾ قال البغوي رحمه الله «تفسيره» (5/ ٤٢٦): ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا﴾ الْوَعْدَ، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: وَعَدَ آبَاءَنَا قَوْمٌ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ فَلَمْ نَرَ لَهُ حَقِيقَةً، ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أَكَاذِيبُ الْأَوَّلِينَ.
v من الفوائد:
· إن المصائب قد تكون عقوبة من الله، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾[الشورى:30 ].
· وفيه أن المشركين إذا عاينوا عقاب الله فإنهم ييأسون من رحمة الله وتنقطع آمالهم.
· وفيه تذكير الله عباده بهذه النعم الجليلة، نعمة السمع والبصر والعقول، فالله رزق عباده السمع والبصر، وميزهم بالعقول، وهذا تذكير من الله كيف يكون الحال لو كانوا فاقدين لهذه النعم.
· وفيه الحث على شكر الله وأن القليل من يقوم بشكر الله ﴿قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ﴾.
· وفيه الإيمان بالبعث.
· وفي هذا تذكير بالآخرة وتحذير من فتنة الدنيا، وهذا يعين على الاستعداد لدار المعاد، ومراقبة الله.
· وفيه إنكار كفار قريش البعث.