ضرب المثل في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ الآية[الأعراف: 175-176].
﴿ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ﴾ فيه دليل أن الله هو الذي يُعطي العلم ويُنعم به.
﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ قال ابن القيم: أَيْ: خَرَجَ مِنْهَا كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا، وَفَارَقَهَا فِرَاقَ الْجِلْدِ يَنسَلِخُ عَنْ اللَّحْمِ وَلَمْ يَقُلْ: فَسَلَخْنَاهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ إلَى انْسِلَاخِهِ مِنْهَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ .
هذه نصيحة من ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ أن القارئ يتأمل ويمعن النظر فيما تضمنه هذا المثل من الحِكم والمعاني.
﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ أي: لحقه وأدركه، كما قال تعالى في قوم فرعون: ﴿ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ﴾، ومعنى ﴿مُشْرِقِينَ﴾: أي: عند شروق الشمس.
﴿ لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ فيه قولان: أحدهما: أن الضمير وهو الهاء عائد إلى الإنسان المذكور، أي: لو شئنا لرفعنا منزلته بما علَّمْناه.
الثاني: عائد إلى الكفر بالآيات، كما قال مجاهد وعطاء: لرفعنا الكفر عنه بالإيمان وعصمناه، وهذا تعقبه ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ بأن التفسير الأول هو المراد، وأما القول الثاني فمن لوازم تفسير الآية.
ونستفيد أن الرفعة من الله سبحانه وليست بمجرد العلم وحده، وكما قال ربنا عز وجل: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) ﴾ [النور: 40]. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّمَا هِيَ-أي: الرفعة-بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ وَقَصْدِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.
﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ ﴾ فيه أقوال للمفسرين متقاربة: ركن إلى الأرض، سكن، رضي بالدنيا.. الخ. والمعاني متقاربة.
﴿إِلَى الأَرْضِ ﴾ قال القنوجي رَحِمَهُ اللهُ في «فتح البيان»(5/79): هي هنا عبارة عن الدنيا؛ لأن بها المفاوز والقفار والمدن والضياع والمعادن والنبات، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض.
﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ﴾ هذا اللفظ جاء في آيات أخرى وهي تدل على البقاء والدوام، كقوله عز وجل: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)﴾ [الهمزة: 1-3]، أي: يظن أنه يبقى ولا يموت بسبب ماله.
الاستدراك بـ«لكن» يقتضي (أَنْ يُثْبِتَ بَعْدَهَا نَفَي مَا قَبْلَهَا، أَوْ يُنفِي مَا أَثْبَتَ)، ولكنه سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ ﴾ ولم يقل: لكنا لم نشأ أو فلم نرفع، ففيه إشكال: أن الله عَزَّ وَجَل ذكر المشيئة في رفعه، ثم استدرك بفعل العبد وهو الإخلاد إلى الأرض، فابن القيم رَحِمَهُ اللهُ يجيب عن هذا ويقول: (وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُونَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 176] أَنَّهُ لَمْ يَتَعَاطَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَقْتَضِي رَفْعَهُ بِالْآيَاتِ مِنْ إيثَارِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَلَكِنَّهُ آثَرَ الدُّنْيَا وَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فالله عَزَّ وَجَل قال: ﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ﴾؛ لأنه انسلخ من الآيات ولم يعمل بها. والباء في قوله: ﴿ لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ سببية، أي: بسببها.
وأما قول الزمخشري المعتزلي: وَلَوْ لَزِمَ آيَاتِنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا. فالزمخشري معتزلي قدري ينفي مشيئة الله عَزَّ وَجَل لأفعال العباد، فابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تعقبه وناقشه و أبطل قوله، وأن الآية نص في إثبات مشيئة الله عز وجل، فلا مفرَّ من ذلك.
فَأَيْنَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ [الأعراف: 176] مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ لَزِمَهَا، ثُمَّ إذَا كَانَ المَلزُومُ لَهَا مَوْقُوعًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْحَقُّ بَطَلَ أَصْلُهُ .
ففعل العبد واقع بمشيئة الله عَزَّ وَجَل، فما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) ﴾ [التكوير: 29].
﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ أي: آثر سخط الله على مرضاته والدنيا وعاجلها على الدار الآخرة.
﴿ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ، لَا فُؤَادَ لَهُ) معنى: ﴿ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ ﴾ أي: تطرده. ﴿ يَلْهَثْ ﴾ (لَهَثَ) الْكَلْبُ أَخْرَجَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ أَوِ التَّعَبِ. كما في «مختار الصحاح»(285).
﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ نستفيد منه: الحث على تدبر الأمثال والقصص والعبر.
هاتان الآيتان جاء أنها نزلت في عابد من بني إسرائيل كان اسمه بلعام بن باعوراء، وهذا من الإسرائيليات لم يثبت.
أركان التشبيه في هذه الآية: المشبه: من آتاه الله علمًا ولم ينتفع بعلمه وسلك طريق الضلال، حرف التشبيه: الكاف، والمشبَّه به: الكلب، وجه التشبيه: أن من لم ينتفع بعلمه فيثبت عليه ويهتدي بهديه يكون حاله كحال الكلب الذي يلهث إن طُرد لهث وإن ترك لهث، فهكذا من لم ينتفع بعلمه وآثر الدنيا على الآخرة شديد اللهف بعد الدنيا لا يشبعه شيء، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في كتاب الأمثال: (وَفِي تَشْبِيهِ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا وَعَاجِلِهَا عَلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ وُفُورِ عِلْمِهِ) أي: غزارة علمه. (بِالْكَلْبِ فِي حَالِ لَهَثِهِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَالُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ انْسِلَاخِهِ مِنْ آيَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ هَوَاهُ إنَّمَا كَانَ لِشِدَّةِ لَهَفِهِ عَلَى الدُّنْيَا لِانْقِطَاعِ قَلْبِهِ عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ شَدِيدُ اللَّهَفِ عَلَيْهَا، وَلَهَفُهُ نَظِيرُ لَهَفِ الْكَلْبِ الدَّائِمِ فِي حَالِ إزْعَاجِهِ وَتَرْكِهِ) إلى أن قال: (فَهَذَا يَلْهَفُ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَلَيهَا، وَهَذَا يَلْهَثُ مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَلَى الْمَاءِ، فَالْكَلْبُ مِنْ أَقَلِّ الْحَيَوَانَاتِ صَبْرًا عَنْ الْمَاءِ).
· هذه الآية موعظة في التحذير من فتنة الدنيا وحطامها، وأنها من أسباب الانحراف.
· ترهيب من أعطاه الله علمًا ولم ينتفع به.
· أن العلم يحمي صاحبه من الشيطان ومن الفتن إذا عمل به، فإذا ترك العمل به سلط الله عليه الشيطان وأزاغه وأضله وأشقاه.
· تخويف الإنسان من أن يوكله الله إلى نفسه، وأن من أعرض عن الله تخلى الله عنه.
· وفيه خطر اتباع الهوى.
· فيه التنفير من التشبه بالكلاب.