روى البخاري (7525) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: 110]، قَالَ: «نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ المُشْرِكُونَ، سَبُّوا القُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ»، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾ [الإسراء: 110]: أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ المُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا القُرْآنَ: ﴿وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: 110]، عَنْ أَصْحَابِكَ فَلا تُسْمِعُهُمْ ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 110].
وفيه سبب نزول هذه الآية ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾ .
فقوله: ﴿ولا تجهر﴾ أي: بقراءتك.
وهذا دليل أن قراءة القرآن قد يطلق عليها صلاة.
وفي الآية سبب نزول آخر كما جاء في حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: 110] فِي الدُّعَاءِ» رواه البخاري (7526).
قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ في «فتح الباري»(7/402): قال الإمام أحمد: ينبغي أن يسر دعاءه؛ لهذه الآية.
وقد جمع الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ في «فتح الباري» تحت رقم (4723) بين هذين الحديثين، وقال: يُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ دَاخل الصَّلَاة.
وفي الآية سبب نزول آخر وهو أذى المشركين لمن علموا أنهم يسمعون القرآن، روى ابن جرير في «تفسيره»(17/585) عن ابن عباس.
وجاء أنها نزلت في إخفاء التشهد، ذكره ابن جرير في «تفسيره»(17/587) عن عائشة.
وهذا فيه أن الدعاء المنهي عن الجهر به في التشهد، ولا مانع أن الآية نزلت في هذه الأمور كلها. كما قال هذا والدي في «الصحيح المسند من أسباب النزول»(132).
ونستفيد: أنه إذا كان يؤدي تغيير المنكر إلى مفسدة أعظم فيؤجل تغييره، فهؤلاء المشركون كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه ومن أنزله ومن جاء به، فنزلت الآية في عدم الجهر بالقرآن.
وقد ذكر ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ أربع مراتب لتغيير المنكر في «إعلام الموقعين» (3/12)، فقال: فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ.
وقوله: ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أي: قراءة وسطًا.
والشاهد من هذه الترجمة: إضافة الفعل والقول إلى ابن آدم، وفعله مخلوق، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)﴾[الصافات]، وقال الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ لما سئل: هل لفظي بالقرآن مخلوق؟ فقال: أفعالنا وأقوالنا مخلوقة لله، وألَّف في ذلك خلق أفعال العباد، ولكنه لما قال: أفعالنا وأقوالنا مخلوقة لله، أشيع أنه يقول: القرآن مخلوق، وهو بريء من ذلك.
وما يتعلق بمسألة: هل يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو ليس بمخلوق؟
هذا لفظ مبتدَع فيترك، وخاصة وأنه قد يحمل معنى صحيحًا، وقد يحمل معنى باطلًا، قد يكون «لفظي بالقرآن مخلوق» يقصد قوله لا يقصد المتلفَّظ به، فيكون معناه صحيحًا. وقد يكون «لفظي بالقرآن مخلوق» يراد به المتلفَّظ به، وهو: القرآن، وهذا باطل؛ ولهذا الشيخ بكر أبو زيد في «معجم المناهي اللفظية» قال: واجتناب هذا أولى، والذي استقر عليه مذهب أهل السنة: أن الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، وأنه لا يجمل بالمسلم استعمال الألفاظ الموهمة، والعبارات المحتملة. والله أعلم.