حكم ركعتي الإحرام
جاء في حديث جابر الطويل في حجة الوداع: قوله: (فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ثم ركب القصواء...) رواه مسلم.
وقوله: في المسجد. أي: مسجد ذي الحليفة.
وقد استدل به جمهور أهل العلم على مسألة فقهية: أنه يستحب أن يُحْرِمَ بعد صلاة ركعتين، والصحيح أنه ليس للإحرام صلاة تخصُّه، ولكن إن كان وقت صلاة صلى ثم أحرم كما فعل النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ فقد صلى الظهر ثم أحرم، كما في حديث ابن عباس قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ» رواه مسلم (1243).
وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل العلم، وهو قول الشيخ الألباني في «مناسك الحج والعمرة»(15)، والشيخ ابن عثيمين في «مجموع الفتاوى» (15/22) رَحِمَهُما الله، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من أين يستحب الإهلال للحاج؟
إذا استوى على راحلته، إن كانت دابة فعند قيامها، وإن كانت سيارة إذا ركب عليها، والدليل عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. رواه البخاري (166)، ومسلم (1187).
والكلام على الاستحباب، فلو أحرم من بيته أو من مسجده أو على الأرض وهو ماشي إلى راحلته، ونحو ذلك فهذا جائز، قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ في «فتح الباري»(3/401): وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ. اهـ.
وأما ظاهر حديث جابر الطويل في حجة الوداع أن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أحرم، لمَّا انبعثت به راحلته على البيداء، وكذا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الحديث وفيه: ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا. رواه البخاري (1551).
فهذا بحسب عِلْمِ هذين الصحابيين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ فقد ثبت عن ابن عمر الإنكار على من ذكر البيداء في إهلال النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وقال: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» يَعْنِي: ذَا الْحُلَيْفَةِ. رواه مسلم (1186).
والكذب هنا، بمعنى الخطأ.
وجاء خلاف ما سبق من حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ. الحديث رواه أبو داود (1770)، وفيه خصيف بن عبدالرحمن الجزري سيء الحفظ، فالحديث ضعيف.
فمِن أين أحرم النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؟
من عند المسجد لمَّا انبعثت به راحلته، أما ما جاء أنه أحرم من البيداء فهذا بحسب علم من رواه كذلك كجابر بن عبدالله وأنس بن مالك، وكلٌّ روى ما سمع.
وأما أنه أحرم من المسجد فهذا جاء في حديث ضعيف، وأخذت به الحنفية، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عدد الصحابة الذين حجوا مع النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ
قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في حديثه الطويل في حجة الوداع: (نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) أي: منتهى بصره، أمام وخلف وعن اليمين وعن الشمال، عدد كبير.
وهذا يفيد كثرة عدد الذين حجوا مع النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وقد ذكر العراقي رَحِمَهُ اللهُ أنهم أربعون ألفًا، قال رَحِمَهُ اللهُ في «الألفية»:
وَالعَدُّ لَا يَحْصُرُهُمْ فَقَدْ ظَهَرْ |
.. |
سَبْعُونَ أَلْفًا بِتَبُـــــــــــوكَ وَحَضَرْ |
الحَجَّ أَرْبَعُونَ أَلْفًــــــــــا، وَقُبِضْ |
.. |
عَنْ ذَيْنِ مَعْ أَرْبَعِ آلَافٍ تَنِضّْ |
وسبب كثرتهم أن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قد أعلمهم في السنة العاشرة أن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حاج في هذه السنة، وأيضًا لحرصهم على التأسي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، والتنافس في الخير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حكم الحج ماشيًا أو راكبًا، وأيهما أفضل؟
قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في حديثه الطويل في حجة الوداع: (نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ)
فيه جواز الحج ماشيًا وراكبًا، وكما قال تَعَالَى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) ﴾ [الحج: 27].
قال النووي رَحِمَهُ اللهُ في شرح هذا الحديث(8/173): فِيهِ جَوَازُ الْحَجِّ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
-وفيه أن الحج راكبًا أفضل من الماشي؛ لأن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حج راكبًا.
وهذا يدل أن ركوب الحاج أفضل؛ تأسيًا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، ولأنه أرفق بالنفس، وأيسر على أداء أعمال الحج.
قال ابن كثير رَحِمَهُ الله في تفسير هذه الآية من سورة الحج: قَدْ يَسْتِدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ-أي: قدم المشاة على الركبان-، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ، وَقُوَّةِ هممهم، وشدة عزمهم.
قال: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا، مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التأسي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في حجه
قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في حديثه الطويل في حجة الوداع: (وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ).
وهذا كما قال النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» رواه مسلم (1297) عن جَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
-و يستفاد حرص الصحابة على التأسي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرضي الله عن الصحابة ما أشد حرصهم على الخير ومسابقتهم إلى العمل!
فأي شيء يعمل النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يعملون مثله، وهذا ليس في الحج فحسب، هذه طريقة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم في كل الأحوال، يطبقون ما يتعلمونه من النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، ولا يفرِّطون فيه حتى ولو كان في أضيقِ الأحوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التلبية
قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في حديثه الطويل في حجة الوداع: (فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ «لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ»)
هذا نستفيد منه الإهلال بالتوحيد عند الإحرام.
والتلبية فيها فضل عظيم، النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» رواه الترمذي(828) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وهو في «الصحيح المسند» (468) لوالدي رَحِمَهُ الله.
وقد اشتملت على معانٍ عظيمة، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في «تهذيب السنن» (5/177): اشْتَمَلَتْ كَلِمَات التَّلْبِيَة عَلَى قَوَاعِد عَظِيمَة وَفَوَائِد جليلة:
إِحْدَاهَا: أَنَّ قَوْلك: «لَبَّيْكَ» يَتَضَمَّن إِجَابَة دَاعٍ دَعَاك وَمُنَادٍ نَادَاك، وَلَا يَصِحّ فِي لُغَة وَلَا عَقْل إِجَابَة مِنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَدْعُو مِنْ أَجَابَهُ.
الثَّانِيَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْمَحَبَّة كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُقَال: «لَبَّيْكَ» إِلَّا لِمِنْ تُحِبّهُ وَتُعَظِّمهُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا: أَنَا مُوَاجِه لَك بِمَا تُحِبّ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ: «امْرَأَة لَبَّة» أَي: مَحَبَّة لِوَلَدِهَا.
الثَّالِثَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن اِلْتِزَام دَوَام الْعُبُودِيَّة؛ وَلِهَذَا قِيلَ: هِيَ مِنْ الْإِقَامَة، أَي: أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك.
الرَّابِعَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْخُضُوع وَالذُّلّ، أَي: خُضُوعًا بَعْد خُضُوع، مِنْ قَوْلهمْ: «أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك» أَي: خَاضِع ذَلِيل
الْخَامِسَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِخْلَاص؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ اللُّبّ، وَهُوَ الْخَالِص.
السَّادِسَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِقْرَار بِسَمْعِ الرَّبّ تَعَالَى، إِذْ يَسْتَحِيل أَنَّ يَقُول الرَّجُل: «لَبَّيْكَ» لِمِنْ لَا يَسْمَع دُعَاءَهُ.
السَّابِعَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن التَّقَرُّب مِنْ اللَّه؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ الْإِلْبَاب، وَهُوَ التَّقَرُّب.
الثامنة: أَنَّهَا شِعَار لِتَوْحِيدِ مِلَّة إِبْرَاهِيم الَّذِي هُوَ رُوح الْحَجّ وَمَقْصِده بَلْ رُوح الْعِبَادَات كُلّهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ التَّلْبِيَة مِفْتَاح هَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِهَا.
التاسعة: أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبّ مَا يَتَقَرَّب بِهِ الْعَبْد إِلَى اللَّه.
العاشرة: أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف بِأَنَّ الْمِلْك كُلّه لِلَّهِ وَحْده، فَلَا مِلْك عَلَى الْحَقِيقَة لِغَيْرِهِ.
الحادي عشرة: أَنَّ كَلِمَات التَّلْبِيَة مُتَضَمِّنَة لِلرَّدِّ عَلَى كُلّ مُبْطِل فِي صِفَات اللَّه وَتَوْحِيده، فَإِنَّهَا مُبْطِلَة لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اِخْتِلَاف طَوَائِفهمْ وَمَقَالَاتهمْ وَلِقَوْلِ الْفَلَاسِفَة وَإِخْوَانهمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِصِفَاتِ الْكَمَال الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّق الْحَمْد. اهـ بتصرف واختصار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ألفاظ التلبية
-«لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ».
-وقد ثبت عند مسلم (1184): وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يُهِلُّ بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ.
-وثبت عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ «ذَا الْمَعَارِجِ» وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ، فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا رواه أبو داود (1813) بسند صحيح.
-وروى ابن أبي شيبة في «المصنف»(3/204) عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: كَانَتْ تَلْبِيَةُ عُمَرَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا أَوْ مَرْهُوبًا، لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ»، وسنده صحيح.
وجاء في حديث جابر الطويل : (وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْبِيَتَهُ) قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ في «المفهم»(3/325): يعني: أنهم لم يلتزموا هذه التلبية الخاصَّة التي لبَّى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ فهموا أنها ليست مُتعيِّنَة؛ فإنه قد ترك صلى الله عليه وسلم كل أحد على ما تيسر له من ألفاظها، ومع هذا فلا بدَّ أن يأتي الملبِّي بما يقال عليه تلبية لسانًا، ولا يجزئ منها التحميد، ولا التكبير، ولا غيره عند مالك.
-وهذا نستفيد منه جواز الزيادة في بعض الألفاظ في التلبية؛ لأن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ما أنكر عليهم وكان يسمع ولم يرد عليهم، ومع ذلك الأفضل أن يقتصر على تلبية النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
قال النووي رَحِمَهُ اللهُ في «شرح صحيح مسلم»(8/174): قَالَ الْقَاضِي –هو: عياض بن موسى-قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: الْمُسْتَحَبُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
استحباب البدء قبل الإحرام بقول: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر):
قال الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ في «صحيحه» (بَابُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، قَبْلَ الإِهْلالِ، عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ)، ثم أخرج برقم (1551) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا. الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ في «فتح الباري»(3/412): وَهَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ اسْتِحْبَابُ التَّسْبِيحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ قَبْلَ الْإِهْلَالِ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِذِكْرِهِ مَعَ ثُبُوتِهِ.
وهنا سؤال من إحدى أخواتي في الله: هل التسبيح والتحميد والتكبير يقال أيضًا عند الإهلال بالعمرة؟
والجواب: نعم، يستحب أن يسبِّح ويحمد الله ويكبر قبل إحرامه بالعمرة والحج؛ فالحكم واحد. يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: « وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» رواه البخاري(1789)، ومسلم (1180) عن يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وهذا عام إلا ما خصصه الدليل، كالوقوف بمنى وعرفة ومزدلفة ورمي الجمار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجوب النية عند الإحرام
الإحرام لا يصح إلا بنية كما قال النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» رواه البخاري (1)، ومسلم (1907) عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فما يكفي التلبية بدون نية.
وكيف يدخل في الإحرام من أراد الحج أو العمرة؟
يدخل في الإحرام إذا نوى الدخول في النسك، قال الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ اللهُ في «الشرح الممتع»(7/60) المراد بالإحرام هنا نية الدخول فيه، لا نية أنه يعتمر، أو أنه يحج، وبين الأمرين فرق، فمثلًا إذا كان الرجل يريد أن يحج هذا العام، فهل نقول: إنه بنيته هذه أحرم؟
الجواب: لا؛ لأنه لم ينو الدخول في النسك.
وكذلك نريد أن نصلي العشاء، فهل نحن بنيتنا هذه دخلنا في الصلاة، وحرم علينا ما يحرم على المصلي؟
الجواب: لا، إذًا، نية الفعل لا تؤثر، لكن نية الدخول فيه هي التي تؤثر، وسميت نية الدخول في النسك إحرامًا؛ لأنه إذا نوى الدخول في النسك حرم على نفسه ما كان مباحًا قبل الإحرام، فيحرم عليه مثلًا: الرفث، والطيب، وحلق الرأس، والصيد، وغير ذلك. اهـ.
وهذه مسألة قد يجهلها بعض الناس، يغتسل ويلبس ثياب الإحرام، ويظن أنه قد دخل في النسك، هذا لا يكفي، لا يدخل في النسك حتى ينوي الدخول فيه، أما مجرد الغسل والاستعداد للدخول النسك، هذا لا يدخل به في الإحرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رفع الصوت بالتلبية
جاء عَنْ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادِ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، أَوْ مَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، أَوْ بِالْإِهْلَالِ» رواه الإمام أحمد (27/101).
والتلبية مستحبة عند جمهور أهل العلم.
والمرأة إذا كانت بين رجال أجانب فتسمِع نفسها، وإن كانت لا يسمعها الرجال الأجانب فترفع صوتها؛ لأن رفع الصوت بالتلبية مستحب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنواع مناسك الحج
-الإفراد، وهو: أن يحرم بحج وحده.
-القِران، وهو: أن يحرم بالعمرة والحج معًا، يقول: لبيك اللهم عمرة وحجًا. أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج، يقول: لبيك اللهم عمرة ثم يدخل عليها الحج.
وهذه الصورة الثانية قد يحتاج لها اضطرارًا، مثل: المرأة الحائض إذا أحرمت بعمرة متمتعة بها إلى الحج، ثم حاضت قبل العمرة، وخشيت أن يفوتها الوقوف بعرفة، فإنها تدخل الحج على العمرة، وتصير قارنة كما حصل لأم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ومثل من أحرمت بعمرة متمتعة بها إلى الحج، ثم نسيت أن تقص شعرها، فأحرمت بالحج قبل أن تقص شعرها تصير قارنة.
-وحج تمتع: وهو أن يحرم بعمرة في أشهر الحج ثم يتحلَل، ثم يحرم بحج.
والقارن والمتمتع عليهما هدي.
وأفضل المناسك الثلاثة حج التمتع؛ لِما روى البخاري (7229)، ومسلم (1211) أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا».
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حج قارنًا؛ لأنه ساق معه الهدي من ذي الحليفة، ومن ساق معه الهدي لا يجوز له أن يتحلل بعمرة، وقد تمنى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أنه لم يسق الهدي حتى يتحلل بعمرة، والله أعلم.