بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الحج (22) : آية 41-46]
﴿الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ (41)﴾
اختلفوا في المراد بأهل التمكين على ثلاثة أقوال:
-هم المهاجرون. وجاء أثر من طريق مُحَمَّدٍ وهو ابن سيرين قَالَ: قَالَ عُثمَانُ بنُ عَفَّانَ: فِينَا نَزَلَت ﴿الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ﴾
فَأُخرِجنَا مِن دِيَارِنَا بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا أَن قُلنَا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ مُكِّنَّا فِي الأَرضِ، فَأَقَمنَا الصَّلَاةَ وَآتَينَا الزَّكَاةَ، وَأَمَرنَا بِالمَعرُوفِ، وَنَهَينَا عَنِ المُنكَرِ، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ فَهِيَ لِي وَلِأَصحَابِي. وحديث رجاله ثقات لكنه منقطع؛ إذ لم يسمع محمد بن سيرين من عثمان بن عفان، فقد ولد لسنتين بقيتا من إمارة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ. كما في «التاريخ الكبير» (1/91) للبخاري رَحِمَهُ الله.
-هم أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهذا تفسير أبي العالية.
-الوالي والمولى عليه، وهذا تفسير عمر بن عبد العزيز.
والآية في سياق المهاجرين فقبْلها قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، ولكن عموم الآية يشمل الأنصارَ وغيرهم من هذه الأمة الذين ينصرون دين الله .
قال الشنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان» (5 / 266): وَالحَقُّ أَنَّ الآيَاتِ المَذكُورَةَ تَشمَلُ أَصحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وَكُلَّ مَن قَامَ بِنُصرَةِ دِينِ اللَّهِ عَلَى الوَجهِ الأَكمَلِ، وَالعِلمُ عِندَ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ.
﴿ الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ ﴾ في«تفسير البغوي» (3 / 344): ومعنى مكناهم نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا في البلاد.
﴿أَقامُوا الصَّلاةَ﴾ إقام الصلاة: الإتيان بها على الوجه التام؛ ولهذا لم يأمر الله بإتيان الصلاة، ولكن قال: ﴿ أَقامُوا﴾.
﴿وَآتَوُا الزَّكاةَ﴾ أعطوها مستحقيها.
﴿ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ ﴾ المعروف : ما عرفه الشرع .
والمنكر : ما أنكره الشرع.
﴿وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ ﴾ قال الشوكاني في «فتح القدير»(3/541): وَمَعنَى ﴿وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ أَنَّ مَرجِعَهَا إِلَى حُكمِهِ وَتَدبِيرِهِ دُونَ غَيرِهِ. اهـ.
v من فوائد هذه الآية :
- أن من صفات وعلامات أهل التمكين والنصر لدين الله أربع صفات: إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن لم يقم بهذا فإنه ليس ممن ينصر دين الله، ولا يجعل الله له التمكين في الأرض. يقول الله تعالى في سياق هذه الآيات: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ .
قال الشنقيطي في «أضواء البيان» (5/ 266): دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وَعدَ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصرِ، إِلَّا مَعَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالأَمرِ بِالمَعرُوفِ، وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ. الخ كلامه.
ومن نصر دين الله: تعلم العلم النافع ونشرُه وبثه بين الناس قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ ﴾: ومن نصر دين الله تعلم كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ا هـ.
والجزاء من جنس العمل من نصر الله نصره الله، ومن نصر الله ثبَّته وأعانه ولم يخذله، قال الله: ﴿ إن يَنصُركُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُم وَإِن يَخذُلكُم فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ ﴾[آل عمران:160 ].
فلنحرص على نصرة دين الله فهذا من أجلِّ الطاعات.
-وفيه أن الأمور تجري بقدر الله وأن العاقبة الحسنة لأهل التمكين، وكما قال الله: ﴿ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ (128) ﴾[الأعراف:128 ].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أثرٌ لعمر بن عبدالعزيز في تفسير آية التمكين
عن الصَّبَّاحِ بنِ سِوَادَةَ: سَمِعَت عُمَرَ بنَ عَبدِ العَزِيزِ يَخطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ﴾ الآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنَّهَا لَيسَت عَلَى الوَالِي وَحدَهُ، وَلَكِنَّهَا عَلَى الوَالِي وَالمُولَى عَلَيهِ، أَلَا أُنَبِّئُكُم بِمَا لَكَمَ عَلَى الوَالِي مِن ذَلِكُم، وَبِمَا لِلوَالِي عَلَيكُم مِنهُ؟ إِنَّ لَكُم عَلَى الوَالِي مِن ذَلِكُم أَن يُؤَاخِذَكُم بِحُقُوقِ اللَّهِ عَلَيكُم، وَأَن يَأخُذَ لِبَعضِكُم مِن بَعضٍ، وَأَن يَهدِيَكُم لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ مَا استَطَاعَ، وَإِنَّ عَلَيكُم مِن ذَلِكَ الطَّاعَةَ غير المبزوزة ولا المستكره بها، وَلَا المُخَالِفَ سِرُّهَا عَلَانِيَتَهَا.
في هذا الأثر فيه حقوق المرعي على الراعي والراعي على المرعي، إذا قاموا بها صلُحَت لهم أمورُ دينهم ودنياهم، وانتظمت لهم حياتهم، أما الثلاثة الأُولى ففي حق المرعي على الراعي:
(أَن يُؤَاخِذَكُم بِحُقُوقِ اللَّهِ عَلَيكُم) أن يأمرهم بطاعة الله والقيام بحقوق الله، وأن يلزمهم بالتمسك بدينهم، ويزجر المفسدين ويأخذ على أيديهم.
(وَأَن يَأخُذَ لِبَعضِكُم مِن بَعضٍ) من الحق على الراعي نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم.
(وَأَن يَهدِيَكُم لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ مَا استَطَاعَ) (أَقوَمُ) أي: أصوب. «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» رواه مسلم (55) عَن تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، فلا يترك مصلحة ولا خيرًا إلا ويرشدهم إليه ما استطاع، فالحُكْم ليس بالهيِّنِ فهو قيام بمسؤولية عظيمة، ليس فقط أن يثبِّت كرسيَه، وأن يكون حول مصالحه. النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسئُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالأَمِيرُ رَاعٍ» الحديث عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا رواه البخاري (893)، ومسلم (1829)، وما وَضِعَ إلا لإقامة دينِ الله والذَّبِّ عنه، والأخذ على يد الظلم المفسد، والرحمة بالضعيف والأرملة والمسكين.
ولخطورة القضاء وعِظم شأنه جاءت أدلة كثيرة في التحذير منه؛ لأن القليل من يستطيع القيام به.
وقد ذكر شيخ الإسلام في «الفتاوى الكبرى»(5 /555)أن الولاية لها ركنان، فقال: وَالوِلَايَةُ لَهَا رُكنَانِ: القُوَّةُ وَالأَمَانَةُ، فَالقُوَّةُ فِي الحُكمِ تَرجِعُ إلَى العِلمِ بِالعَدلِ بِتَنفِيذِ الحُكمِ، وَالأَمَانَةُ تَرجِعُ إلَى خَشيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ا هـ.
فلا بد أن يكون أمينًا على ما ائتمنه الله، وأن يكون قويًّا ليس جبانًا تعصف به الفتن، ويهزه مرُّ الرياح، أو يتأثر بالعاطفية، وهذا يدل على أن الولاية عِبءٌ وثِقل ؟! عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ كان شديد الخوف على نفسِه، مع أنه خليفة راشد إمامٌ عادل، وتمنى أنه لم يدخل في الحُكمِ. روى البخاري (7218)، ومسلم ( 1823) عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا، قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ أَلاَ تَستَخلِفُ؟ قَالَ: «إِن أَستَخلِف فَقَدِ استَخلَفَ مَن هُوَ خَيرٌ مِنِّي أَبُو بَكرٍ، وَإِن أَترُك فَقَد تَرَكَ مَن هُوَ خَيرٌ مِنِّي، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ» فَأَثنَوا عَلَيهِ فَقَالَ: «رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدتُ أَنِّي نَجَوتُ مِنهَا كَفَافًا، لاَ لِي وَلا عَلَيَّ، لا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا».
ومرة بكى حتى اختلفت أضلاعه، كما جاء في الأثر الثابت: فَنَشَجَ عُمَرُ حَتَّى اختَلَفَت أَضلَاعُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَدِدتُ أَنِّي خَرَجتُ مِنهَا كَفَافًا لَا لِيَ وَلَا عَلَيَّ. رواه أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في «مسنده» (30) بسندٍ حسن.
والقليل من يجتمع فيه القوة والأمانة، فقد يكون أمينا لكنه ضعيف، وقد يكون ضعيفًا لكنه أمين.
(وَإِنَّ عَلَيكُم مِن ذَلِكَ الطَّاعَةَ غير المبزوزة) أي: غير مغصوبين ولا مغلوبين. وهذا فيه السمع والطاعة للإمام بطيبة نفس.
(وَلَا المُخَالِفَ سِرُّهَا عَلَانِيَتَهَا) حث لموافقة ولي الأمر ظاهرًا وباطنًا.
وهذا يكون لإمام المسلمين العادل، فإن من قام بالعدل والإحسان أحبه الناس من أعماق قلوبهم، ودَعوا له ليلًا ونهارًا، كما قال رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم، وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم، وَتَلعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُم بِالسَّيفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيتُم مِن وُلَاتِكُم شَيئًا تَكرَهُونَهُ، فَاكرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنزِعُوا يَدًا مِن طَاعَةٍ» رواه مسلم (1855) عن عوفِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه.
ومعنى: « وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم » أي: تدعون لهم ويدعون لكم.
ويكون أيضًا فيما لا يخالف الشرع، والأدلة كثيرة في السمع والطاعة لولي الأمر في المعروف، وعدم الاختلاف عليه، ومن باب أولى النهي عن الخروج عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَد كَذَّبَت قَبلَهُم قَومُ نُوحٍ ﴾ إلى قوله: ﴿فَكَيفَ كانَ نَكِيرِ (44)﴾
﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَد كَذَّبَت قَبلَهُم﴾ أي: قبل كفار قريش.
﴿وَكُذِّبَ مُوسى﴾أي: كذبه فرعون وقومه، ولم يقل الله سبحانه: وقوم موسى؛ لأن قوم موسى لم يكذبوه، وإنما كذبه القبط فرعون وقومه، قال الشوكاني في «فتح القدير»: إِنَّمَا غَيَّرَ النَّظمَ فِي قَولِهِ: وَكُذِّبَ مُوسى فَجَاءَ بِالفِعلِ مَبنِيًّا لِلمَفعُولِ؛ لِأَنَّ قَومَ مُوسَى لَم يُكَذِّبُوهُ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ غَيرُهُم مِنَ القِبطِ.
نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام مرسل إلى قومه بني إسرائيل، وكان إرساله إلى فرعون وقومه تبعًا. وقد قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: « وَكَانَ النَّبِيُّ يُبعَثُ إِلَى قَومِهِ خَاصَّةً وَبُعِثتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً » رواه البخاري (335)، ومسلم (521) عن جَابِرِ.
﴿وَكُذِّبَ مُوسى﴾ قال ابن كثير: أَي مَعَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ الوَاضِحَاتِ. اهـ. ومن أعظمها التسع الآيات المشار إلى بعضها في قوله تعالى:﴿ فَأَرسَلنَا عَلَيهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاستَكبَرُوا وَكَانُوا قَومًا مُجرِمِينَ (133) ﴾[الأعراف]، وقد جمعت هذه التسع الآيات في قول الشاعر:
عصا سنة بحر جراد قمَّل *** يد ودم بعد الضفادع طوفان
﴿فَأَملَيتُ لِلكافِرِينَ﴾ قال ابن كثير: أَي أَنظَرتُهُم وَأَخَّرتُهُم.
﴿ ثُمَّ أَخَذتُهُم فَكَيفَ كانَ نَكِيرِ﴾ قال ابن كثير: أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم. اهـ. فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. كما جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيُملِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَم يُفلِتهُ»، ﴿وَكَذلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ القُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
فذكر الله في هذه الآيات إهلاك سبع أمم بسبب عنادهم للحق وكفرهم وشركهم.
أما قوم نوح فأهلكهم الله بالغرق، قال الله: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَينَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الفُلكِ وَأَغرَقنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قَومًا عَمِينَ﴾ [الأعراف:64].
وأما عاد قوم هود فأهلكهم بالريح العقيم قال الله: ﴿ فَأَرسَلنَا عَلَيهِم رِيحًا صَرصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُم عَذَابَ الخِزيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخزَى وَهُم لَا يُنصَرُونَ﴾[فصلت:16].
وأما ثمود قوم صالح فأهلكهم الله بصاعقة العذاب قال تعالى:﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَينَاهُم فَاستَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى فَأَخَذَتهُم صَاعِقَةُ العَذَابِ الهُونِ بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ (17)﴾[فصلت:17].
وأما قوم إبراهيم فذكر الشنقيطي رَحِمَهُ الله في «أضواء البيان»(5 / 268): وَقَد ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أَنَّ العَذَابَ الدُّنيَوِيَّ الَّذِي أَهلَكَهُمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ المَذكُورُ فِي سُورَةِ النَّحلِ: قَد مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَأَتَى اللَّهُ بُنيَانَهُم مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِن حَيثُ لَا يَشعُرُونَ.
وأما قوم لوط فأهلكهم الله بقلب ديارهم عليهم وأمطر عليم حجارة من سجيل، قال الله:﴿ فَجَعَلنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمطَرنَا عَلَيهِم حِجَارَةً مِن سِجِّيلٍ (74) ﴾[الحجر:74].
وأما أصحاب مدين، وهم: قوم شعيب فأهلكهم الله بالصيحة، قال الله: ﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ فَأَصبَحُوا فِي دِيَارِهِم جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَم يَغنَوا فِيهَا أَلَا بُعدًا لِمَديَنَ كَمَا بَعِدَت ثَمُودُ (95) ﴾[هود].
وأما الذين كذبوا موسى وهم أهل مصر فرعون وقومه فأهلكهم الله بالغرق، قال الله: ﴿ فَأَسرِ بِعِبَادِي لَيلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ (23) وَاترُكِ البَحرَ رَهوًا إِنَّهُم جُندٌ مُغرَقُونَ (24)﴾[الدخان] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿فَكَأَيِّن مِن قَريَةٍ أَهلَكناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصرٍ مَشِيدٍ (45)﴾
﴿فَكَأَيِّن مِن قَريَةٍ أَهلَكناها﴾ أي: كم من قرية أهلكناها، كم: هنا خبرية.
﴿مِن قَريَةٍ أَهلَكتُهَا وَهِيَ ظالِمَةٌ﴾ أي مكذبة لرسلها.
﴿فَهِيَ خاوِيَةٌ﴾ أي: ساقطة.
﴿عَلى عُرُوشِها﴾ أي: سقوفها.
﴿وَقَصرٍ مَشِيدٍ﴾ المشيد المبيض بالجص، وقيل: المنيف المرتفع. وقيل: المشيد المَنِيعُ الحَصِينُ.
قال ابن كثير: وَكُلُّ هَذِهِ الأَقوَالِ مُتَقَارِبَةٌ وَلَا مُنَافَاةَ بَينَهَا، فَإِنَّهُ لَم يَحمِ أَهلَهُ شِدَّةُ بِنَائِهِ وَلَا ارتِفَاعُهُ وَلَا إِحكَامُهُ وَلَا حَصَانَتُهُ عَن حُلُولِ بَأسِ اللَّهِ بِهِم كَمَا قَالَ تَعَالَى:﴿ أَينَما تَكُونُوا يُدرِككُمُ المَوتُ وَلَو كُنتُم فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [هود: 102] .
أما على هذا التفسير أنه المبيض بالجص. فهذا من معانيه في اللغة العربية، وهو هنا قول جمهور المفسرين، ومنه حديث عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُمِرتُ بِتَشيِيدِ المَسَاجِدِ»، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخرِفُنَّهَا كَمَا زَخرَفَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى » رواه أبو داود (448) وهو في «الصحيح المسند» (604) لوالدي رَحِمَهُ الله .
وتشييد المَسَاجِدِ: تبيضها بالجص.
هذا فيه كراهة تبييضها فكيف بزخرفتها وتزيينها؟!
والحديث مر معنا في درس «دلائل النبوة»، ثم استشكلتُ ما نجده في مساجد أهل السنة، فسألت والدي رَحِمَهُ الله فكان جوابه: نحن نجعل هذا من أجل الضوء؛ لأنه إذا كان بغيره يكون مظلمًا، والله أعلم.
وبناء المساجد من أفضل القربات، ولكن مداخل الشيطان كثيرة، فربما يدخل الشيطان على هذه العبادة الجليلة بالتباهي والتفاخر، وبزخرفتها وتزيين عِمرانها.