جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 18 نوفمبر 2020

اختصار الدرس الرابع والثلاثين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

 

من آداب حامل القرآن

الاهتمام بقراءة القرآن في الليل، وفي صلاة الليل.

من الأدلة على فضل قراءة القرآن في الليل:

-قال تعالى: ﴿ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾[آلَ عُمرَانٌ].

-قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾إلى قوله:﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل]. هذه الآيات فيها الحث على قيام الليل، وتلاوة القرآن في الليل؛ لأن هذا ﴿أَشَدُّ وَطْئًا أي: أشد موافقة بين القلب واللسان والسمع والبصر، ﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أصوب قيلًا.

 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره»(8/252) بعد أن ذكر أقوال المفسرين في﴿نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾: وَالْغَرَضُ أَنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ: سَاعَاتُهُ وَأَوْقَاتُهُ، وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنْهُ تُسَمَّى نَاشِئَةً، وَهِيَ الْآنَّاتُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ هُوَ أَشَدُّ مُوَاطَأَةً بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَأَجْمَعُ عَلَى التِّلَاوَةِ؛ وَلِهَذَا قال: ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا أَيْ: أَجْمَعُ لِلْخَاطِرِ فِي أَدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَتَفَهُّمِهَا مِنْ قِيَامِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ النَّاسِ ولَغَط الْأَصْوَاتِ وَأَوْقَاتُ الْمَعَاشِ. اهـ.

وقال القرطبي في «تفسيره»(19/40): فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ، وَأَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا مَا أَمْكَنَ، أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، وَأَجْلَبُ لِلثَّوَابِ. اهـ.

-عن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ، يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عن حِزْبِهِ، أَوْ عن شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ»رواه مسلم(747).

قال الحافظ في «نتائج الأفكار»(3/182): ظاهر الحديث أن القراءة بالليل أفضل من القراءة بالنهار، وقد جاء ذلك صريحًا لكن مقيدًا بآخر الليل. ثم ذكر حديث جابر الآتي.

-عن جَابِرٍ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «أَيُّكُمْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ، ثُمَّ لِيَرْقُدْ، وَمَنْ وَثِقَ بِقِيَامٍ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَحْضُورَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» رواه مسلم (755).

بعضَ الأدلة في الحث على قيام الليل:

-فِي «الصَّحِيحَينِ» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهمَا عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ!»

وفي رواية عند البخاري(2479) قال سَالِم بن عبد الله بن عمر: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ، لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.. وهذا يدل على همة الصحابة، وأنهم كانوا يبادرون إلى العمل وما يتأخرون، أو يفعلونها فترة ثم يتركون، كما هو شأن كثير من الناس إذا سمع الفضائل والترغيب بادر لكنه ينقطع بعد فترة ويترك.

-روى البخاري (1152ومسلم (1159) عن عبد الله بن عمرو أَنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ ثُمَّ تَرَكَهُ».

-وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيرُهُ عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رضي الله عنه، عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ»).والحديث أورده العلامة الألباني في «السلسلة الصحيحة» (831وحسنه بشواهده.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن فضائل قيام الليل:

قيام الليل من هدي الأنبياء والمرسلين ومن دَأْبِ الصالحين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام: «أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا» رواه البخاري (1131ومسلم (1159) عن عبدالله بن عمرو.

«وَيَنَامُ سُدُسَهُ» السدس مع النصف يكتمل الثلثان، فيكون نبي الله داود عليه الصلاة والسلام ينام ثلثي الليل ويقوم ثلثه.

قال شيخ الاسلام في «مجموع الفتاوى» (23/85) في قوله: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) [المزمل]: الْقَلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي تِلْكَ السُّوَرِ وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِنَّهُمْ إذَا هَجَعُوا ثُلُثَهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَاه فَهَذَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يهجعوه مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَسَوَاءٌ نَامُوا بِالنَّهَارِ أَوْ لَمْ يَنَامُوا. اهـ.

 نوم ثلثي الليل كثير؛ لأنه ما يبقى إلا الثلث، لكن هذا قليل بالنسبة إلى مجموع الليل والنهار.

- قيام الليل حصن وأمان من الفتن، ومن عذاب الله،فقد اسْتَيْقَظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ-يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ-رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ» رواه البخاري (7069) عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها.

وروى البخاري (5441) عن أَبِي عُثْمَانَ، قال: تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاَثًا: يُصَلِّي هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا..

وفيه تعاون الأسرة الصالحة على قيام الليل، فمن استيقظ أيقظ الآخر.

-ثبت في «صحيح مسلم» (1163) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ».

وليس المراد أن صلاة الليل أفضل من الرواتب، قال ابن رجب في «لطائف المعارف»(34): مراده: بعد المكتوبة ولواحقها من سننها الرواتب، فإن الرواتب قبل الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء؛ لالتحاقها بالفرائض، وإنما خالف في ذلك بعض الشافعية. اهـ.

-صلاة الليل تنهى عن الفحشاء والمنكر، ثبت عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن فلانًا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال: «إنه سينهاه ما يقول». رواه أحمد، والحديث صحيح.

- لا يثبت القرآن في الصدر إلا بقراءته في الصلاة،وخاصة صلاة الليل روى البخاري (5031 ومسلم (789) عن ابْنِ عُمَرَ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ».

وزاد الإمام مسلم: «وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ».

وأدلة فضائل تلاوة القرآن: تشمل تلاوة القرآن في الصلاة، بل قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (23/282): قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ الْفَضْلِ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ. اهـ.

- من أسباب الأمن والأمان، جاء أثر صحيح عن أَبِي الأَحوَصِ الجُشَمِيِّ قال: إِن كَانَ الرَّجُلُ لَيَطرُق الفُسطَاطُ طُرُوقًا (أَي: يَأتِيهِ لَيلًا) فَيَسمَعُ لِأَهلِهِ دَوَيًّا كَدَوِيِّ النَّحلِ، قال: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ يَأمَنُونَ مَا كَانَ أُولَئِكَ يَخَافُونَ؟!

والسبب في تفضيل صلاة الليل وقراءة الليل على غيرها، فراغ القلب من الشواغل، وجمع الفكر، وإحضار الخشوع؛ ولأنه أبعد من الرياء؛ لأنه يكون في خلوة وانفراد بعيدًا عن رؤية الناس له، نسأل الله الإخلاص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعض الأمور المباركة التي كانت في الليل

-الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد حديث الإسراء في «فتح الباري» (7/217): فِيهِ فَضْلُ السَّيْرِ بِاللَّيْلِ عَلَى السَّيْرِ بِالنَّهَارِ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْإِسْرَاءِ بِاللَّيْلِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَكْثَرُ عِبَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، وَكَانَ أَكْثَرُ سَفَرِهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ. اهـ.

حتى السفر بالليل له مزيَّة، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ» رواه أبو داود (2571عن أَنَسٍ رضي الله عنه.

فالمسافة تُقطع بسرعة في الليل؛ ولهذا ابن حجر رحمه الله يقول: وَكَانَ أَكْثَرُ سَفَرِهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ. وأيضًا لبرودة الليل، فلا ينبغي إهمال الليل والتفريط فيه في النوم الكثير، أو في غير ذلك.

-حادثة انشقاق القمر، فقد انشق القمر في عهد النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فلقتين. روى البخاري (3636 ومسلم (2800) عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قال: انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِقَّتَيْنِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشْهَدُوا». وفي رواية عند مسلم بلفظ «فِلْقَتَيْنِ».

-أمر الله نبيه لوطًا عليه الصلاة والسلام بالسري بأهله ليلًا عند أن أراد نزول العقوبة بقوم لوط، قال الله: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود].

-وسار نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام بأهله ليلًا، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص].

-وقال الله عند أن أمر بخروج موسى ببني إسرائيل من مصر: ﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان].

ومن الكرامات والبركات التي تحصل في الليل:

-«يَنْزِلُ رَبُّكُمْ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَمْضِي شَطْرُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ...» رواه البخاري (1145)، ومسلم (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

-روى مسلم (757) عن جَابِرٍ رضي الله عنهمَا بلفظ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ». والمؤلف ذكره بالمعنى.

-وثبت عن عَمْرُو بْنِ عَبَسَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» رواه الترمذي (3579وهو في «الصحيح المسند» (1015) لوالدي رحمه الله.

وهذا من فضائل الليل نزول الله إلى سماء الدنيا كل ليلة، وقربه من العبد، وأن فيه ساعة استجابة، والشاعر يقول:

أَتَهزَأُ بِالدُعاءِ وَتَزدَريهِ... وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ

سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ

وما أحوجنا إلى هذه الساعة المباركة!

 يفزع العبد فيها إلى ربه ويرفع حاجاته إلى ربه، يسأل ربه مغفرة ذنبه، يسأل الجنة والنجاة من النار، يسأل الله جميع حوائجه الدينية والدنيوية والأخروية، يسأل الله الولد الصالح والذرية الطيبة، يسأل الله الزوجة الصالحة، والمرأة تسأل الله الزوج الصالح، الرزق الحسن، العافية، العلم، الحفظ، الثبات، البعد عن الفتن. والداعي يستكثر فإنما يسأل ربه سبحانه وتعالى، حتى ولو كان شيئًا يسيرًا. كان والدي رحمه الله في مرة يحث إلى الالتجاء إلى الله عَزَّ وَجَل، وقال: حتى الملح لو احتجته ادعُ الله عز وجل.

وهذا بخلاف البشر، البشر سؤالهم ذلة، ويملون بسرعة حتى لو كان في شيء لا يشق عليهم، وما أحسن قول الشاعر:

ولو سُئِل الناسُ الترابَ لأوشكوا..إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

ــــــــــــــــــــــــــــــ

إحياء الليل

قال النووي: (وَاعلَم أَنَّ فَضِيلَةَ القِيَامِ بِاللَّيلِ وَالقِرَاءَةِ فِيهِ تَحَصُلُ بِالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ وَكُلَّمَا كَثُرَ كَانَ أَفضَلَ، إِلَّا أَن يَستَوعِبَ اللَّيلَ فَإِنَّهُ يُكرَهُ الدَّوَامُ عَلَيهِ، وَإِلَّا أَن يَضُرَّ بِنَفسِهِ)

هنا حالتان عند الإمام النووي فيهما كراهة: المداومة على إحياء الليل كله في جميع الليالي، وفي حالة الضرر بالنفس. وقد دلَّ الدليل أن إحياء الليل كله ليس من السنة؛ وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ومن الأدلة على هذا:

-عن عائشة رضي الله عنها تقول: لَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ. رواه مسلم (746).

-عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه في شأن الصحابي الذي قال: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبَيه، وقال: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» رواه البخاري (5063ومسلم (1401).

-عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا، قالتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» رواه البخاري(2024 ومسلم(1174).

وتخصيصه صلى الله عليه وسلم العشر الأخيرة من رمضان بالإحياء دليل أنه لم يكن من هديه قيام الليل كله في غيرِها.

- أن نبي الله داود «كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا».

-والله يقول: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) [المزمل]. وإذا كان لا ينبغي قيام الليل كله في العبادة فكيف بالذين يسهرون في غير عبادة ولغير حاجة؟! الإنكار يكون عليهم أشد، إذا كان لا ينبغي سهر الليل كله في العبادة، وفي طلب العلم. فكيف بالسهر في غير مصلحة، وغير فائدة وفي معصية؟!

ونوم الليل عافية، وسعادة، ومعونة على قيام آخر الليل، وعلى تنظيم الوقت في النهار.

 

قيام الليل يحصل بالقليل منه

قال النووي: (وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ بِالقَلِيلِ-أي: قيام الليل-: حَدِيثُ عَبدِ اللهِ بنِ عَمروِ بنِ العَاصِ رضي الله عنهمَا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ». والحديث أورده الشيخ الألباني في «الصحيحة» (642)؛ لأن له شواهد.

قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ» قال المنذري في «الترغيب والترهيب» تحت رقم (42): أي: ممن كتب له قنطار من الأجر.

قال الحافظ المنذري: من سورة تبارك ﴿ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ إلى آخر القرآن ألفُ آيةٍ، والله أعلم.

وقوله: «المقنطرين» أَيْ: أُعْطِي قِنْطارا مِنَ الْأَجْرِ. كما في «النهاية» (4/113).

ودلَّ حديثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتِ» رواه أبو داود(1451 وصححه الشيخ الألباني في «صحيح الجامع»(6030) أن من قام من الليل فصلى ركعتين كُتِبَ من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرت، وهذا من فضل الله، وتيسير طريق الخير، والجنة لمن وفِّق.