جديد المدونة

جديد الرسائل

الجمعة، 18 سبتمبر 2020

اختصار الدرس السادس والعشرين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

 

من آداب المتعلم في دروسه وحُسْن استعداده:

حضور الطالب لحلقات العلم على أحسن حال

من آداب الطالب أن يحضر الدرس وهو على أحسن حال في لباسه وهيئته وفراغ قلبه واستعداده.

قال النووي رحمه الله في «التبيان»: وَيَدخُلُ عَلَى شَيخِهِ كَامِلَ الحَالِ مُتَنَظِّفًا بِمَا ذَكَرنَاهُ فِي المُعَلِّمِ مُتَطَهِّرًا مُستَعمِلًا لِلسِّوَاكِ فَارِغَ القَلبِ مِنَ الأُمُورِ الشَّاغِلَةِ.

الطهارة:

الطهارة في مجالس العلم مشروعة، لأنه قد يكون في مسجد فيحتاج إلى أن يركع ركعتين، ولأجل أن يذكر الله على طهارة، وعند ذِكْرِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عليه وهو على طهارة، ومجالس العلم هي من ذِكْرِ الله.

استعمال السواك:

من آداب الطالب أن ينظِّفَ فاه قبل حضور الدرس، لقول النّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ» رواه البخاري (887ومسلم (252) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وحلقات العلم في هذا المعنى.

أما استعمال السواك في الحلقة فهذا ليس من الأدب، وقد كان والدي رحمه الله ينكر على الطالب إذا رآه يستاك في حلقة العلم، وهذا قد يَشغل الطالب عن التركيز وكتابة الفوائد.

قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: يا إخواننا، نشوف كثير من الحاضرين يشتغل بالمساويك.

يا أخي، ما هو هذا من الأدب، استمعوا، ما فيه وقت للاستياك الآن، ثم الذي يستاك تراه أيضًا يخرج رائحة من فمه على من بجانبه يؤذيه. السواك عند القيام للصلاة، عند الوضوء. المرجع/ درس «الفتوى الحموية» لابن تيمية رحمه الله، شريط (37).

فراغ القلب من الأمور الشاغلة

 هذا من أهَمِّ الآداب، أن يكون القلب فارغًا من الأمور الشاغلة: كالغَمِّ، والحُزن، وانشغال الفِكْرِ، قال تعالى: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4]. وهذا يحتاج إلى اهتمام ودعاء الله بالتوفيق والإعانة، لأن الأمور الشاغلة للذهن كثيرة، وقد ذكر هذا الأدب الخطيب رحمه الله في «الفقيه والمتفقه» (2/203) وقال: وَيَنْبَغِي أَلَّا يَسْأَلَ الْفَقِيهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ شَيْئًا إِلَّا وَمَعَهُ سَلَامَةُ الطَّبْعِ وَفَرَاغُ الْقَلْبِ، وَكَمَالَ الْفَهْمِ، لَأَنَّهُ إِذَا حَضَرَهُ نَاعِسًا أَوْ مَغْمُومًا، أَوْ مَشْغُولَ الْقَلْبِ، أَوْ قَدْ بَطِرَ فَرَحًا، أَو امْتَلَأَ غَضَبًا لَمْ يَقْبَلْ قَلْبُهُ مَا سَمِعَ وَإِنْ رُدِّدَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وُكُرِّرَ، فَإِنْ فَهِمَ لَمْ يَثْبُتْ فِي قَلْبِهِ مَا فَهِمَهُ حَتَّى يَنْسَاهُ، وَإِنِ اسْتَعْجَمَ قَلْبُهُ عَنِ الْفَهْمِ، كَانَ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِلْفَقِيهِ إِلَّى الضَّجَرِ وَلِلْمُتَعَلِّمِ إِلَى الْمَلَلِ..الخ.

 ثم أخرج عن الشافعي-وهو في «الرسالة» (19) للشافعي-: «وَالنَّاسُ طَبَقَاتٌ فِي الْعِلْمِ، مَوْقِعُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِقَدْرِ دَرَجَاتِهِمْ فِيهِ، فَحَقَّ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بُلُوغُ غَايَةِ جَهْدِهِمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ عِلْمِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ دُونَ طَلَبِهِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ فِي إِدْرَاكِ عِلْمِهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا وَالرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ فِي الْعَوْنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ خَيْرٌ إِلَّا بِعَوْنِهِ». اهـ.

 (أَوْ قَدْ بَطِرَ فَرَحًا) حتى الفرح الشديد قد يُؤثِّرُ ويشغل فيحضر بدون تركيز ولا قدرة له على الحفظ، وكما قال الخطيب رَحِمَهُ الله في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (24): وَرُبَّ حَاضِرٍ كَالْغَائِبِ.

وتنحية الشواغل عن القلب عند حضور الدرس، أحيانًا قد يصل الإنسان إلى حال لا يستطيع دفع ما في قلبه من التشويش والانشغال، فيتوكل على الله ويذهب إلى الدرس على حاله، ولكنه إذا جلس للتلقِّي وسماع العلم، قد يسمع كلمات تثلج صدرَه وتزيل همه في الصبر، مثلًا: وما أعد الله لأهله، والإيمان بالقدر، وطمأنينة القلب بما قدره الله فيرتفع عنه ما يجده، وينسى العناء الذي كان قد ألمَّ به، وهذا من بركات العلم النافع.

وإذا جاءت صوارف فعلى طالب وطالبة العلم التحلِّي بخُلُقِ الصبر وعدم الاستسلام، وضعفاء الهمة يهبطون عند العوارض والعوائق ولا يثبتون، نسأل الله العافية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاستئذان في الدخول على الشيخ

قال النووي رحمه الله:(وَأَلَّا يَدخُلَ بِغَيرِ استِئذَانٍ إِذَا كَانَ الشَّيخُ فِي مَكَانٍ يُحتَاجُ فِيهِ إِلى استِئذَانٍ) يعني: في مكان خاص، أما إذا كان المكان عامًّا فيدخل من غير استئذان.

والدليل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) [النور].

تستأنسوا: تستأذنوا. والواو لا تقتضي الترتيب، فقد بينت السنة أنه يبدأ بالسلام، ثم يستأذن، كما أخرج أبو داود في «سننه» عَنْ رِبْعِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ مَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: أَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: «اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟» فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ.

والحديث صحيح في «الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين» (5/276).

إلقاء السلام إذا دخل موضع الدرس

قال النووي رَحِمَهُ الله في «مقدمة المجموع» ص (193): (وَيُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ بِصَوْتٍ يُسْمِعُهُمْ إسْمَاعًا مُحَقَّقًا) علق الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله وقال: هذا صحيح، لكن إذا كان ذلك يشوش على الحاضرين، مثل: ما لو دخل طالب بعد أن استتب المجلس وانهمكوا للاستماع إلى كلام الشيخ، فهل نقول عليه أن يسلم بصوت عالٍ مع أنه يخشى أن يشغلهم، أما إذا كان لا يشغلهم فلا بأس، لأن الصحابة كانوا يسلمون على رسول الله صلى عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه في المسجد. اهـ.

السلام عند الانصراف

هذا من آداب الانصراف إلقاء السلام، فكما ألقى السلام عند حضوره كذلك يلقي السلام عند انصرافه، كما في الحديث: «فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الثَّانِيَةِ». قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في «شرح رياض الصالحين»(4/428): وهذا من كمال الشريعة أنها جعلت المبتدي والمنتهي على حدٍّ سواء في مثل هذه الأمور، والشريعة كما نعلم جميعًا من لدن حكيم خبير، كما قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)﴾[هود]ـ. الخ.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدم تخطي الطالب رقاب الناس وجلوسه حيث ينتهي به المجلس

قال البخاري رَحِمَهُ الله (باب من قعد حيث انتهى به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيهاثم أخرج حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ برقم(66 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ».

هذا الحديث فيه أن الطالب إذا دخل ورأى فرجة في حلقة يجلس فيها كما فعل الأول، وهذا فيه تنظيم للحلقة وسد خلَلِها، وإذا لم يجد فرجة يجلس خلفهم كما فعل الثاني.

ومن الفوائد التي استنبطها الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»(1/157) من هذا الحديث:

-    اسْتِحْبَابُ التَّحْلِيقِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ.

-    أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهِ.

-    اسْتِحْبَابُ الْأَدَبِ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَفَضْلُ سَدِّ خَلَلِ الْحَلْقَةِ كَمَا وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي سَدِّ خَلَلِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ.

-    جَوَازُ التَّخَطِّي لِسَدِّ الْخَلَلِ مَا لَمْ يُؤْذِ فَإِنْ خُشِيَ اسْتُحِبَّ الْجُلُوسُ حَيْثُ يَنْتَهِي كَمَا فَعَلَ الثَّانِي. اهـ.

فإن خشي من الأذية لا يفعل، لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ» رواه ابو داود (1118).

حالات يستثنى من النهي عن التخطي:

-    إذا أذن له الشيخ في التقدم، وهذا كان يفعله والدي أحيانًا مع ضيفٍ كريمٍ أو مستفيد فيأمره بالتقدم.

-    إذا علم من حال الحاضرين إيثار ذلك، قال الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في «شرح مقدمة المجموع» ص (194): من الذي أعطى الحاضرين الحق في الإذن له؟ ثم أجاب، وقال: قد يعرفون من حال الشيخ أنه يكرمه. اهـ.

-    حالة أُخرى: قال ابن عبد البر في «التمهيد»(1/316): لَا يَجُوزُ التَّخَطِّي إِلَى الْعَالِمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا يُفِيدُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَالِمِ فَائِدَةً وَيُثِيرُ عِلْمًا فَيَجِبُ حينئذ أن يُفتح له لئلا يُؤْذِيَ أَحَدًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى الشَّيْخِ، وَمِنْ شَرْطِ الْعَالِمِ أَنْ يَلِيَهُ مَنْ يَفْهَمُ عَنْهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليلني منكم أولوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى». يَعْنِي: فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِيَفْهَمُوا عنه ويؤدوا مَا سَمِعُوا كَمَا سَمِعُوا مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ مَعْنًى وَلَا تَصْحِيفٍ. اهـ.

-    حالة أُخرى: استنبط الحافظ من حديث أبي واقد السابق جَوَازُ التَّخَطِّي لِسَدِّ الْخَلَلِ مَا لَمْ يُؤْذِ فَإِنْ خُشِيَ اسْتُحِبَّ الْجُلُوسُ حَيْثُ يَنْتَهِي كَمَا فَعَلَ الثَّانِي.

حث الطالب على القرب من الشيخ

ينبغي للطالب أن يبكِّرَ في الحضور ليكونَ قريبًا من الشيخ، فإنه أدعى للانتباه وأقوى في التركيز.

قال إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ: قُلْتُ لِأَبِي سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: بِمَ رَاقَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ قَالَ: «كَانَ يَأْتِي الْمَجَالِسَ مِنْ صُدُورِهَا، وَلَا يَأْتِيهَا مِنْ خَلْفِهَا» الأثر رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/335).

وهذا الأدب قد ذكروه في آداب الطالب، قال القرطبي في «المفهم» (18/12): القرب من العالم أولى، لما يحصل من ذلك من حسن الاستماع، والحفظ. اهـ.

وكان والدي يحث المتباعد على القرب، ويقول: اجلس هاهنا يا بني، يعني: بالقرب منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يقيم أحدًا من موضعه

هذه من الآداب العامة، وهي من آداب مجالس العلم وغيرها. والدليل حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عند البخاري (6269 ومسلم (2177) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ» فمن سبق إلى مباح، فهو أحق به.

ويدل له أيضًا حديث أبي واقد الليثي «وَأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ» ما أقام أحدًا من الجالسين، ولهذا استنبط ابن بطال رَحِمَهُ الله في «شرح صحيح البخاري» (2/121) من هذا الحديث، وقال: فيه من حسن الأدب أن يجلس المرء حيث انتهى به مجلسه، ولا يُقيمُ أحدًا. اهـ.

وجاء أثر عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في «صحيح البخاري» (6270) ولفظه: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ.

وكان يفعل ذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تواضعًا منه وتورعًا، لئلا يقوم له أحد حياءً وليس عن طِيْبِ نفس، وقد دلَّ الدليلُ أنه إذا قام من نفْسِهِ فلا حرج على مَنْ جلس مكانه، كما أخرج أبو داود (5217) عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاطِمَةَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهَا كَانَتْ «إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا» والحديث حسنه الوالد رَحِمَهُ الله في «جامعه» (2568).

 واستثنى من النهي الإمام  النووي رحمه الله في «التبيان»:(إِلَّا أَن يَكُونَ فِي تَقَدُّمِهِ مَصلَحَةٌ لِلحَاضِرِينَ، أَو أَمَرَهُ الشِّيخُ بِذَلِكَ)

ومَثَّلَ رحمه الله لهذا في «مقدمة المجموع»(36)وقال: بِأَنْ يَقْرُبَ مِنْ الشَّيْخِ وَيُذَاكِرَهُ مُذَاكَرَةً يَنْتَفِعُ الْحَاضِرُونَ بِهَا. اهـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حديث النهي عن الجلوس وسط الحلقة إلا لضرورة

عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ». رواه أبو داود (4826)

إسناد الحديث منقطع، فيه أبو مجلز، وهو: لَاحِقُ بن حُمَيْدٍ، لم يسمع من حذيفة.

وهذا الحديث يضعفه الشيخ الألباني، ووالدي كان يذكر لنا في الدرس تضعيفه، وهذا مما اتفق على تضعيفِه هذان الإمامان رحمهما الله.

 (إِلَّا لِضَرُورَةٍ) وهي ضيق المكان، وهذه المسألة سُئل عنها الشيخ الألباني رحمه الله وقال: الحمد لله، هو حديث لا يصح هذا أولًا، ثانيًا: لو كان يصح لكان المقصود منه الجلوس وسط الحلقة لقصد لفت أنظار الناس كأن يقول بلسان الحال: أنا هنا، أما والحديث لم يصح فالحمد لله. اهـ.

فعلى هذا إذا جُعلت الحلقة عبارة عن دوائر في الوسط لا بأس به، لأن حديث «لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ» ضعيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدم الجلوس بين صاحبين بغير إذنهما

روى أبو داود (4844) عَنْ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُجْلَسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا». والحديث حسن.

هذا من الأدب أن لا يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، إلا إذا كان بينهما فرجة فيجلس، كما في الحديث: «فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا».

 

من فُسِح له في مكان فيضم نفسه

قال الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع»(1/179): وَيَجِبُ عَلَى مَنْ فَسَحَ لَهُ اثْنَانِ فَجَلَسَ بَيْنَهُمَا أَنْ يَجْمَعَ نَفْسَهُ. اهـ.

وقال النووي رحمه الله: فَإِن فَسَحَا لَهُ قَعَدَ وَضَمَّ نَفسَهُ.

 هذا من الأدب، إذا فُسِح له يجلس ويضم نفسه ما يأخذ مكانًا متِّسعًا، وهذا من الآداب التي يجهلها كثير من الناس، يفسح له الجالس ويأخذ جزءًا من المكان يسعه وزيادة حتى يضيق على من فسَّح له.

 وأيضًا من الأخطاء: أن بعضهم إذا وجد داخلًا والمكان قد امتلأ يأخذ له مكانًا واسعًا ولا يضم نفسه ليفسح لغيره، والتوسعة للداخل إذا لم يجد مكانًا فيه فضل عظيم، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ (11)﴾ [المجادلة]. وروى البخاري (6270ومسلم (2177) واللفظ له عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا».

 وإذا لم يُفسح للداخل إما أن يبقى واقفًا وإما أنه ينصرف.