جديد المدونة

جديد الرسائل

الاثنين، 24 فبراير 2020

(77)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ


(2) تفسير سورة الحج رقم السورة(22) :الآيات3-4

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)﴾.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الجدالُ:الخصومة،سمي بذلك لشدته،كما في«مجمل اللغة»(1/179)لابن فارس،وقال ابن الأثير في«النهاية»(1/247): الجَدَل:مُقابَلة الحُجَّة بالحجَّة. والمُجَادَلَة:المُناظَرةُ والمخاصَمة.

﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾ الشيطان:كل عاتٍ متمرد. والمراد هنا رؤساء الكفر والضلال والأهواء.

﴿مَرِيدٍ﴾ الْمَرِيدُ:المتمرد الغالي العاتي والمستمر في الشر،كما في«تفسير البغوي»(3/324).

﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ:يَعْنِي الشَّيْطَانَ.

 فالضمير المجرور في عليه يعني:الشيطان.

﴿أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ قال ابن كثير:أَيِ اتَّبَعَهُ وَقَلَّدَهُ. قال ابن جرير في تفسير هذه الآية (18/566):تأويل الكلام -أي:تفسيره-:قُضي على الشيطان أنه يضلّ أتباعه ولا يهديهم إلى الحق.

﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ قال ابن كثير:أَيْ يُضِلُّهُ فِي الدُّنْيَا،وَيَقُودُهُ فِي الْآخِرَةِ.

أي:يقوده ويسوقه إلى عذاب السعير.

﴿ عَذابِ السَّعِيرِ﴾ قال ابن كثير:وهو الحار المؤلم المقلق المزعج. وهو عذاب النار،وهذا كما قال تعالى في سورة لقمان:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾.

وقد جاء في بعض الآثار أن الآية نزلت في النضر بن الحارث،جاء عن أبي مالك وابن جريج وهو قول جمهور العلماء،ولكن هذا معتمد على بعض الآثار،ولا يصح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء عن أَبي كَعْبٍ الْمَكِّيِّ قَالَ:قَالَ خَبِيثٌ مِنْ خُبثاء قُرَيْشٍ:أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّكُمْ،مِنْ ذَهَبٍ هُوَ،أَوْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ،أَوْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ فَقَعْقَعَتِ السَّمَاءُ قَعْقَعَةً -وَالْقَعْقَعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ:الرَّعْدُ-فَإِذَا قِحْف رَأَسِهِ سَاقِطٌ بَيْنَ يَدَيْهِ.

الله عزوجل قد يعجِّل العقوبة انتقامًا منه لدينه ولرسله،وقد جاء هذا المعنى عند البزار في«مسنده»(7007) عَن أَنَسٍ،قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ:أَيْش رَبُّكَ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ؟ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ مِنْ حَدِيدٍ هُوَ؟ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ؟ مِنْ ذَهَبٍ هُوَ؟ فَأَتَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَأَعَادَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الثَّانِيَةَ , فَقَالَ:مِثْلَ ذَلِكَ فَأَتَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِ الثَّالِثة فَقَالَ:مِثْلَ ذَلِكَ فَأَتَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ عَلَى صَاحِبِكَ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وهم يجدلون في الله،وهُو شديد المحال} .هذا في«الصحيح المسند»(91) لوالدي الشيخ مقبل رحمه الله.

فالله قد يعجل بالعقوبة وقد يمهل استدراجًا وليس عن رِضا،فالله يمهل ولا يهمل﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)﴾[الأعراف:182].

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3)﴾

هذه الآية ذكرها الله في أثناء آيات المعاد والجزاء،ردًّا على من يجادل في شأن البعث ويعاند

وقد كرر سبحانه هاتين الآيتين:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ولكنه قال في آخر الآية الأولى:﴿ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴾ وقال في آخر الآية الثانية﴿وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍفمن أهل العلم من قال:التَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ،كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تَذُمُّهُ وَتُوَبِّخُهُ:أَنْتَ فَعَلَتْ هَذَا،أَنْتَ فَعَلَتْ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِكَوْنِهِ وَصَفَهُ فِي كُلِّ آيَةٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.ذكر هذا الشوكاني رحمه الله في«فتح القدير»(3/519).

وأجاب بعضهم بأن الآية الأولى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ هذه في الأتباع المقلِّدين و الثانية في المتبوعين المقلَّدين،وهؤلاء هم الدعاة الذين يصدون عن دين الله . وهذا الذي قرره ابن القيم رحمه الله في«الصواعق المرسلة»وذكر مثله شيخ الإسلام ابن تيمية في«تعارض العقل والنقل»وذكره الشنقيطي في«أضواء البيان»ولكنه نسبه إلى بعض أهل العلم ولم يعين من قاله. وهذا القول رده الشوكاني في«فتح القدير»وقال:لا وجه لهذا،والله أعلم.

§     من فوائد الآيتَين:

-ذم الجدل بغير علم،قال سبحانه:﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾[الكهف:54]وقال سبحانه:﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾[الزخرف:58] وقال سبحانه ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[آل عمران:66] .

فالجدل بجهل وبغير علم مذموم.

-مفهوم الآية مشروعية الجدل بعلم ونور وبصيرة،كما قال تعالى:﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل:125].

ومن نصائح علمائنا لطالب العلم الابتعاد عن الجدل والتحذير منه،لأنه يوغر الصدور ويُضَيِّعُ الأوقات،وقد لا يأمن على نفسه إذا كان يجادل صاحب باطل،كما جاء عن مَعْنِ بْنِ عِيسَى قَالَ انْصَرَفَ مَالِكٌ يَوْمًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى يَدِي قَالَ فَلَحِقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ كَانَ يُتَّهَمُ بِالإِرْجَاءِ فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله اسْمَعْ مِنِّي شَيْئًا أُكَلِّمُكَ بِهِ وَأُحَاجُّكَ وَأُخْبِرُكَ برأى قَالَ فَإِنْ غَلَبْتَنِي قَالَ اتَّبَعْتَنِي قَالَ فَإِنْ غَلَبْتُكَ قَالَ اتَّبَعْتُكَ قَالَ فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ فكلمناه فغلبنا قَالَ تَبِعْنَاهُ قَالَ أَبُو عبد الله بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِدِينٍ وَاحِدٍ وَأَرَاكَ تَتَنَقَّلُ.رواه ابن عبد البر في«الانتقاء»(33).

وهذا كان يذكره الوالد رَحِمَهُ الله بهذا المعنى.

وقال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،«مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ،أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ» رواه الدارمي في«مقدمة سننه».

يعني الجدل والخصومة في الدين سواء مع أهل الأهواء والكلام أو غيرهم من أصحاب الشبهات هذا من أسباب الزيغ والانحراف.

وثبت عن بكر بن مُضَر كما في«جامع بيان العلم وفضله»(1777)قَالَ:«إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا أَلْزَمَهُمُ الْجَدَلَ وَمَنَعَهُمُ الْعَمَلَ».

الجدل على نوعين:محمود ومذموم،فالمحمود:ما كان في إظهار الحق وما كان من ورائه مصلحة وفائدة،والمذموم:ما كان في باطل و ليس من ورائه فائدة.

روى أبو داود (3597) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ،لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ »الحديث. وهو في«الصحيح المسند»(755) لوالدي رَحِمَهُ الله.

وهكذا إذا كان ليس من ورائه فائدة يعد الجدل مذمومًا.

والنبي صلى الله عليه وسلم قال في وصيته في توجيهه لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما لما أرسلهما إلى اليمن قَالَ:«يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا،وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا،وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا»رواه البخاري (3038) ومسلم(1732).

والجدل فيه اختلاف،ومن أسباب حرمان العلم وقد قال ابن مسعود:الاختلاف شر.

 فإذا كانت بعض المواضيع تثير جدلًا تُغلق، وطرق الخير وأبواب العلم كثيرة فيحرص الإنسان على إفادة الحاضرين ما يقربهم إلى ربهم وينجيهم من عذاب النار،ولا يأتي الشيطان ويستفزهم في أمور الجدل، ،والأمور يتولاها الله،نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الثبات في القول والعمل ونسأله سبحانه أن يحفظ لنا ديننا وأن يوفقنا لكل خير.

-ومن فوائد الآيتين:حال من يجادل في الله بغير علم أنه متبع للشيطان وأن الشيطان يقود من اتبعه إلى الضلال وإلى عذاب النار.نسأل الله العافية.