جديد المدونة

جديد الرسائل

الخميس، 27 فبراير 2020

(20) اختصار الدرس الثامن عشر من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب المعلِّم

التواضع:

قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾[الحجر]. ﴿ وَاخْفِضْ أي: أَلِن.

 وروى الإمام مسلم (2865) عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلمإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».

 وروى الإمام مسلم (2588) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: « وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ»

وهذا من حقوق المسلم على أخيه المسلم،ومن باب أولى تواضع المعلم للطالب،فلا يتعاظم عليه ويتعالى. وكيف يترفع على طلبة العلم الذين هم مثل أولاده، والذين هم مشتغلون بالقرآن الكريم، تعلُّمًا وحفظًا وتفهُّمًا، فلهم شرف طلب العلم ومنزلته،ويترددون إليه ذهابًا وإيابًا فلهم حقُّ الصحبة. 

وخير الناس عند الله منزلة من كان خيرًا لصاحبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» رواه الترمذي (1944) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في «الصحيح المسند» (793) لوالدي رحمه الله.

والحديث عام يدخل فيه الخَدَمُ والتلاميذ والأهل وغيرهم.

وقد ذكر بعضُ المفسرين في قول الله : ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾[النساء: 36] ما يدل أنه يدخل التلميذ في الصاحب بالجنب. قال ابنُ رجب في «جامع العلوم والحكم» (348): وَأَمَّا الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ، فَفَسَّرَهُ طَائِفَةٌ بِالزَّوْجَةِ، وَفَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالرَّفِيقِ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يُرِيدُوا إِخْرَاجَ الصَّاحِبِ الْمُلَازِمِ فِي الْحَضَرِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ صُحْبَةَ السَّفَرِ تَكْفِي، فَالصُّحْبَةُ الدَّائِمَةُ فِي الْحَضَرِ أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّفِيقُ الصَّالِحُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ جَلِيسُكَ فِي الْحَضَرِ، وَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَعْتَرِيكَ وَيَلُمُّ بِكَ لِتَنْفَعَهُ..
وترددهم إليه ليس لأجل ذاته وشخصيته، ولكن لأجل تعلم العلم النافع،فليتقِ الله فيهم.

والترفع والتعالي علامة على أمور:

·    عدم الانتفاع بالعلم، لأن الذي لا يعمل بعلمه دليل على أنه لم ينتفع بعلمه.

·     علامة أيضًا على عدم الإخلاص.

·    علامة على الشقاوة، قال ابن القيم رحمه الله في «الفوائد»(155): وعلامات الشقاوة أَنه كلما زيد فِي علمه زيد فِي كبره وتيهه وَكلما زيد فِي عمله زيد فِي فخره واحتقاره للنَّاس وَحسن ظَنّه بِنَفسِهِ.. إلخ.

·    علامة على حرمان بركة العلم النافع، قال تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف].

قال الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله: إن الله يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبَّار، ومن تواضع لله ورَّثه الله الحكمة. رواه الآجري في «أخلاق العلماء»(72). وسنده صحيح.

وهذه وصية ذكرها الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في «حلية طالب العلم»(191) تنفع المتعلم والمعلم، يقول رحمه الله: من علامات العلم النافع:

تساءل مع نفسك عن حظك من علامات العلم النافع، وهى:

·    العمل به.

·    كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق.

·    تكاثر تواضعك كلما ازددت علمًا.

·    الهرب من حب الترؤُّسِ والشهرة والدنيا.

·    هجر دعوى العلم.

·    إساءة الظن بالنفس، وإحسانه بالناس تنزها عن الوقوع بهم

وقد كان عبد الله بن المبارك إذا ذُكِر أخلاقُ من سلف ينشد:

لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم...ليس الصحيح إذا مشى كالمقعَد


المؤلف النووي رحمه الله يقدم في هذا الفصل بعض النصائح للمعلمين:

§    الأولى: أن المعلم يكون معلِّمًا ومربيًا.

وهذا ما يُسمَّى بالتصفية والتربية.

فعلى المعلم أن يحثَّ الطالب على الآداب والأخلاق، لأَنَّ الطالب بأدبه وعمله وليس بعلمه فحسب،قال الله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾[القلم].

ويقول النبي صلى الله عليه وسلممَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ»رواه أبو داود في «سننه» (4799) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.وذكره والدي رحمه الله في «الصحيح المسند» (1037).

وقد اهتم العلماء بنشر الآداب والحث عليها، لأنه لا ينفع علم بلا أدب،ولأن الأدب عنوان السعادة.

ومن الآثار:

·     ما جاء عن عبيد الله بن عمر العمري-وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئًا-فقال: «شِنْتُمُ الْعِلْمَ، وَأَذْهَبْتُمْ نُورَهُ، وَلَوْ أَدْرَكَنِي وَإِيَّاكُمْ عُمَرُ رضوان الله عليه لَأَوْجَعَنَا» رواه الدارمي(600).

·    وجاء عن غير واحد من السلف منهم الليث بن سعد أنه قال: -وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَرَأَى مِنْهُمْ شَيْئًا-فَقَالَ: «أَنْتُمْ إِلَى يَسِيرٍ مِنَ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ» رواه الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1/405).

·    والشاعر يقول:

يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ...أتَطلُبُ الرِّبْحَ فيما فيه خُسرانُ

أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلَها...فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ

وما كانوا يعرفون الطالبَ إلا بأدبه وسمته وخُلُقِه.

وقد سألني والدي رحمه الله هل تنصحين طالباتك في الدرس؟

جوابي: أُلقي لهن الدرسَ فقط. يعني الذي في الكتاب ولا أزيد عليه، ومعلوم أن الطالب يحتاج إلى التربية والتأديب. فأنكر عليَّ وأفادني أنه لا بُدَّ من النصح في الدرس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

§    الثانية: أن يكون المعلم حكيمًا في تربيته وتعليمه.

 وذلك بالترقي والتدريج من الأدنى إلى الأعلى والأقل إلى الأكثر. فينقل الطالب من حاله وأخطائه وأخلاقه الرديئة بالتدرج، لأن الانتقال عن المألوف فيه صعوبة، والفطام عن المألوف شديد، ولأهمية التدرج جاء الشرع بالتدريج.

التدرج مع الطلاب في تعليم الآداب وتهذيب الأخلاق ونقلهم من الحال السيء إلى أخلاق الدين والقرآن يجلب لهم المحبة لِهذا الدينِ الحنيفِ والظَفَرِ بحلاوته، بخلاف العكس فإنه ينتج نتيجة سيئة وثمرةً وخيمة ويسبب النفور. قال ابن القيم رحمه الله في «بدائع الفوائد»(3/184): وحكمة هذا التدريج التربية على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئا فشيئا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثالثة: أن يعود الطالب الصيانة في جميع أموره الباطنة والجلية

الصيانة: الحفظ والنزاهة عن الرذائل والعيوب باطنًا وظاهرًا.

 (الباطنة) أي: الخفية، وهي عيوب النفس.

وهذا فيه الحث على صيانة النفس عن الرذائل كالذِّلَّةِ والمهانة ومدِّ الأيدي إلى الناس وسوء الظن والنفاق وغير ذلك.

(والجلية) الواضحة، يعني: ينبغي للمعلم أن يربِّي الطالب على النزاهة في جميع أموره، وهذا هو التقوى. التقوى: امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.

ويدخل في الجلية:صيانة الجوارح كصيانة اللسان وحفظه، صيانة البصر عن النظر الرجال إلى النساء ونظر النساء إلى الرجال الأجانب، صيانة السمع عن اللهو والغناء وما حرم الله .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرابعة: أن يحثهم حثًّا متكررًا عَلَى الإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ وَحُسْنِ النِّيَاتِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ.

وهذا من أدب المعلم مع تلاميذه أن يحثهم حثًّا متكررًا على الاتصاف بهذه الأخلاق وعلى ما ينفعهم، لأن الإنسان يغفل ويسهو، وبالتذكير يتنبَّه ويصلح حاله.

الإِخْلَاصِ: الإخلاص أساسُ العبادة ولا يصح العمل بغير إخلاص. روى مسلم (2985) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ».

الصدق: الصدق في القول والفعل، فلا يليق بالطالب أن يكون كذابًا وأن يكون عنده صفات المنافقين، ومن صدَقَ صَدَقَ الله معه، قال الله: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) [المائدة]. وقال: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)﴾[محمد].

وابن القيم رحمه الله يقول: وَمن صدق الله فِي جَمِيع أُمُوره صنع الله لَهُ فَوق مَا يصنع لغيره. كما في «الفوائد»(186).

 فعلى طالب العلم التحلي بخلق الصدق لينتفع بعلمه، وليفتح الله له أبواب العلم، فإن الكذب من شِيَمِ المنافقين وليس من شِيَمِ المؤمنين.

حسن النيات: حسن النية في طلب العلم هذا يكون في أمور، قال ابن جماعة رحمه الله في «تذكرة السامع والمتكلم» (118): حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به، وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله تعالى يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله. اهـ.

المراقبة: دوام علم العبد بأن الله مطلع عليه.

فمن آداب المعلم حث الطالب على هذه الأوصاف والأخلاق وعلى مراقبة الله في كل لحظة وساعة، قال الله : ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾[الحديد: 14]. وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)﴾[آل عمران].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخامسة: التنبيه على أن من حافظ واتصف بهذه الصفات الجليلة وهذه الأخلاق العالية فإنه ينال هذه البركات والخيرات.

هذا من آداب المعلم مع تلاميذه، وهذا كما قال تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾[مريم: 76 وقال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17)﴾[محمد وقال في قصة أصحاب الكهف: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)﴾[الكهف] قال السعدي في «تفسير هذه الآية»: أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح.

فطالب العلم إذا استقام حالُه يفتح الله له أبواب العلم، ويرزقه انشراح الصدر، وتتفجر ينابيع الحكم من قلبه، ويجعل الله له البركة في علمه وجهوده، ويرزقه التوفيق في أفعاله وأقواله، فيمشي على نور وسداد، فلا يفعل إلا خيرًا ولا يقول إلا خيرًا، إن تكلم فكلامه سديد وإن صمت فصمته سديد، لأنه موفَّق، ونسأل الله التوفيق.