﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً
مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها
لَا يَسْمَعُونَ (100)
﴿حصب جهنم﴾ أي وقودها والوقود
ما هو؟ الوقود هو الحطب كما في قوله تعالى:﴿
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ وهذا من
تفسير القرآن بالقرآن .قال الشوكاني في «فتح القدير»(1/63): فِي هَذَا مِنَ
التَّهْوِيلِ مَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ النَّارِ تَتَّقِدُ
بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، فَأُوقِدَتْ بِنَفْسِ مَا يُرَادُ إِحْرَاقُهُ بِهَا .اهـ
﴿أَنْتُمْ لَها
وارِدُونَ﴾ أنتم التاء خطاب للأصنام وعبدتها. والورود هنا بمعنى الدخول،وأما الورود في قوله ﴿وَإِنْ
مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)﴾[ُ71
:مريم] فالورود: هو المرور على الصراط.
﴿لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً مَا وَرَدُوها ﴾ قال ابن كثير:يَعْنِي «لَوْ كَانَتْ هَذِهِ
الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً
صحيحة لما وردوا النار وما دَخَلُوهَا».
﴿وَكُلٌّ فِيها
خالِدُونَ﴾ أي: دائمون،وهذا دليل على خلود الكفار في النار كما قال تعالى:﴿
وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾[48 : الحجر]
﴿لَهُمْ فِيها
زَفِيرٌ﴾ قال ابن كثير :«وَالزَّفِيرُ خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ» الزفير خروج
النفَس، وَالشَّهِيقُ «وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ» الولوج والدخول،و الشهيق: رد النفَس
مع صوت.
﴿وَهُمْ فِيها لَا
يَسْمَعُونَ﴾. أي لا يسمعون في النار شيئًا لأنهم صمٌّ آذانهم،كما
قال تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا
وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97].،وقيل: لا يسمعون فيها شيء يسرهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لَا
يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى﴾ قيل الحسنى: الرَّحْمَةُ. وقيل:
السَّعَادَةُ وقيل: الجنة ،والمعنى واحد فمن كان من السعداء ومن ظفر برحمة الله
فهو من أهل الجنة.
﴿أُولئِكَ عَنْها
مُبْعَدُونَ﴾قال ابن كثير:لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ
بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
السَّعَادَةُ وَأَسْلَفُوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَقَالَ:هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: 60] فَكَمَا أَحْسَنُوا العمل في
الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم، ونجاهم مِنَ الْعَذَابِ وَحَصَلَ لَهُمْ جَزِيلُ
الثَّوَابِ، فَقَالَ: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ.
﴿لَا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها﴾ قال ابن كثير: أَيْ «حَرِيقَهَا فِي الْأَجْسَادِ».وقال البغوي في «تفسير
هذه الآية»: يَعْنِي
صَوْتَهَا وَحَرَكَةَ تَلَهُّبِهَا إِذَا نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ،وَالْحِسُّ
وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ
أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ﴾قال ابن كثير:فَسَلَّمَهُمْ مِنَ
الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لَهُمُ الْمَطْلُوبُ وَالْمَحْبُوبُ.اهـ
وهذا فيه نعيم أهل الجنة كما قال
تَعَالَى ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ (31) ﴾[31 : فصلت]﴿ مَا تَدَّعُونَ ﴾ أي: تطلبون .
﴿إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)﴾
منهم من قال:الآية على عمومها أن من سبقت له الحسنى فهو لا يقرب النار،ومن أهل
العلم من قال: الآية فيها استثناء المعبودين الصالحين الذين لا يرضون بعبادتهم كعزير وعيسى والملائكة
فهؤلاء وإن عُبدوا فهم مستثنون من قوله تعالى:﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)﴾وهذا قول أكثر
المفسرين عزاه إليهم البغوي في «تفسيره »(3/318).
ومنهم من قال:إن (مَا) في قوله تعالى:﴿ وَما تَعْبُدُونَ ﴾ لِمَا لَا يَعْقِلُ عِنْدَ الْعَرَبِ. وهذا قول ابن جرير.
يعني لا يتناول اللفظ عيسى ولا عزير
ولا الملائكة لأن (ما) لما لا يعقل ولا يدخل فيها من يعقل وهذا هو الأصل
فيها.
وقد تأتي أحيانًا في الذي يعقل ﴿
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾[النساء : 3] أي الذي طاب.
﴿لَا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ من التفاسير المشهورة:الفزع الأكبر الموت.
وقيل: النفخ في الصور. وهذا اختيار ابن جرير تفسير ﴿الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ بنفخة
البعث ويدل له قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ
دَاخِرِينَ (87)﴾ [النمل:87].
﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ﴾ أي تستقبلهم بالبشارة والتهنئة وتقول لهم:﴿ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ تُبَشِّرُهُمْ
يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي فأملوا ما يسركم.كما في تفسير ابن كثير.
ــــــــــــــــــــــــ
سبب نزول قوله تعالى ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ
مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾.
وسبب نزول قوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ﴾
عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنَزَلَ عَلَيْكَ
هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: قَدْ عُبِدَتِ الشَّمْسُ
والقمر والملائكة وعزيز وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ
مَعَ آلِهَتِنَا؟ فَنَزَلَتْ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا
قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ
لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ثُمَّ نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ.
وحديث ابن عباس هذا ذكره والدي الشيخ مقبل رحمه الله تعالى في «الصحيح المسند أسباب النزول» (135) نكون استفدنا سبب نزول الآيتين.