جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 31 ديسمبر 2017

(47)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ

                                              

{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)}[الكهف].

..............
 قوله سبحانه :مُلْتَحَدًا أي: مَلْجَأً.
وقوله:﴿ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ﴾. الغداة أول النهار.
(وَالْعَشِيِّ) آخر النهار.
﴿ فُرُطاً ﴾ أي: ضياعًا.

من فوائدِ هذه الآيات:  
الحث على تلاوة كتاب الله عز وجل، وكما قال سبحانه:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[العنكبوت:45]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر:29].
 وهذا يشمل تلاوة القرآن لفظًا،ويشمل تلاوته معنى .وذلك باتباعه والعمل به قال تعالى:﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف:43]،وقال تعالى:﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس:15].

قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (42): تلاوة الْقُرْآن تتَنَاوَل تِلَاوَة لَفظه وَمَعْنَاهُ ،وتلاوة الْمَعْنى أشرف من مُجَرّد تِلَاوَة اللَّفْظ وَأَهْلهَا هم أهل الْقُرْآن الَّذين لَهُم الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا والآخرة فَإِنَّهُم أهل تِلَاوَة ومتابعة حَقًا.اهـ.
 وللشنقيطي في أضواء البيان (3/ 261)كلامٌ  مفيدٌ في هذا المعنى فنحيلُ إليه.
•  أنه لا يستطيع أحد أن يبدل كلام الله عز وجل كما قال تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) }[الأنعام ].
•  ليس هناك ملجأ غير الله سبحانه وتعالى لا ملجأ من الله إلا إليه.
•  الحث على الصبر على مجالسة الصالحين دون غيرهم ،فمجالسة الصالحين تحتاج إلى صبر،والجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات ،وقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى في أكثر من دليل الحث على مجالسة الصالحين واجتناب مجالس الأشرار أهل السوء.قال تعالى:{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)}[الصافات].
{قَرِينٌ}أي:صاحب ﴿ لَمَدِينُونَ ﴾ مبعوثون {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} في وسط الجحيم {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}كدتَ أن تهلكني كما أهلكتَ نفسك.
وقال سبحانه:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)..} [الفرقان].
يتحسر ويعض على يديه ندمًا وحسرةً على مصاحبته أهل السوء فقد جرُّوه إلى الضلال والهلاك والخسارة.

قصة هرقل عظيم الروم لا تخفى وأن جلساءه هم السبب في عدم إسلامهِ لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه كتابَه وفيه: « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ»... فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلاَحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ،

قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ،

وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ» ولم يثبت. رواه البخاري (7)،ومسلم (1773).
قصة أبي طالب عند البخاري (1360)،ومسلم (24) من طريق سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: " يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ " فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113] الآيَةَ.
فجلساء السوء من أسباب الزيغ والبعد عن الخير،جلساء السوء حرمان من الخير، وكما قيل: (الصاحب ساحب)، وكما قيل: (الطبع من عادته سرَّاق).بخلاف الجليس الصالح فهو نعمة من الله تعالى وسعادة يُذَكِّر بالخير وينَبِّه على التقصير،ومن أسبابِ زيادة الإيمان لأنه يُذكِّر جليسه بالله ويخوفه من النار ويذكِّره بتقوى الله ويحذِّرُه من فتنة الدنيا الفانية ،وهذا يؤثِّر في قلبه ويثبِّتُه ويقَوِّيه.

-أن الغالب في أتباع الأنبياء أنهم من الضعفاء والفقراء وليس من أهل الشرف والغنى والترف هذا هو الغالب، ولهذا قال تعالى:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)} [الشعراء]. وقال تعالى:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)[هود].
 وهرقل سأَل أبا سفيان كما في الحديث الذي  رواه البخاري (7)،ومسلم (1773) «قَالَ هرقل:فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ». وقال بعد ذلك:«وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ» فاستدل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الضعفاء له لأنهم أتباعُ الرسل، أما أهل الترف والغنى غالبًا يكونوا مشغولين بالترف والغنى ،وعندهم كبر لا يتبعون الحق.
وقال سبحانه {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}[الإسراء]، وقال سُبْحَانَهُ: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)[هود].
في آيات أخر أن أهلَ الترف غالبًا أهل شر واندفاع إلى المصائب والبلاء.
•  إثبات صفة الوجه لله عَزَّ وَجَلَّ.
•  الحث على الإخلاص ،والإخلاص سبيل الخلاص كما قال ابن القيم، نسأل الله الإخلاص.
•  الحث على الزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة.
•  النهي عن طاعة أهل الغفلة فأهل الغفلة لا يُطاعون.
•  كان والدي الشيخ مقبل رحمه الله يستنبط من هذه الآية الأخيرة{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)} [الكهف] أن الأب إذا منع ولده من الرحلة في طلب العلم وهو لا يحتاج إليه،ولكن منعه بغضًا للدين وللسنة ،أو تهالُكًا في الدنيا وحُطامِها أنه لا يلزم طاعته إنما الطاعة في المعروف.هذا استفدناه من والدي رحمه الله في الكلام على رحلة الولد لطلب العلم وأبوه غير راضٍ عنه.
•  هذه الآية{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا}من أدلة القدر، فالخير والشر بيد الله ،والهداية والضلال بيد الله عَزَّ وَجَلَّ كما هو عقيدة أهل السنة.
•  ذم هذه الصفات الثلاث الغفلة واتباع الهوى والضياع .