جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 29 مارس 2016

الدرس العشرون من كتاب /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم21من جمادى الثاني 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العشرون
مذاكرة:
مرور المرأة أمام المرأة في الصلاة .روى مسلم في«صحيحه » (510) من طريق عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ،عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» قُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ».
الحديث دليل على أن مرور هؤلاء الثلاثة  بين يدي المصلي يقطع الصلاة، وهذا على ظاهره أنه قطع بطلان، فالصلاة تبطل بمرور واحد منها بين يدي المصلي. وجمهور العلماء على أن المراد بالقطع قطع نقصان، أي: نقصان الثواب ،لكن هذا خلاف ظاهر الدليل.
هناك قول آخر: وهو أن مرور المرأة أمام المرأة في الصلاة لا يبطلها إنما إذا مرت أمام الرجل.وهذا قول ابن حزم فقد قال في المحلى مسألة (385): وَلَا يَقْطَعُ النِّسَاءُ بَعْضُهُنَّ صَلَاةَ بَعْضٍ .اهـ. وهو قول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله.
قلت للوالد الشيخ مقبل رحمه الله: لماذا لا يكون عامًا سواء مرت أمام المرأة أو أمام الرجل؟ فقال مأخوذ من لفظة (الرجل) في قوله: «يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ».
لكن من المعلوم أن الشرع في كثير منه الخطاب يكون فيه بلفظ الذكور. ومع ذلك يدخل فيه النساء، والأصل عموم التشريع إلا ما خصصه الدليل.
أما مرور البنت غير البالغة فلا يكون مبطلًا للصلاة لقوله في الحديث المتقدم « فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ.. ». ومن كانت دون البلوغ لا يقال لها امرأة، لكن لا ينبغي للمصلي أن يسمح في المرور لأحدٍ لا بنت ولا حيوان ولا أي شيء يمر بين يديه ففي«الصحيحين» البخاري (509) ومسلم (505) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ  عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».
وأخرج ابن ماجة في سننه (954)عن أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْنُ مِنْهَا، وَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَمُرُّ فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ».وإسناده حسن.
وأخرج الحاكم في «المستدرك» (934) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «يُصَلِّي فَمَرَّتْ شَاةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَاعَاهَا إِلَى الْقِبْلَةِ حَتَّى أَلْزَقَ بَطْنَهُ بِالْقِبْلَةِ» . وهو في «الصحيح المسند» للوادعي (625).

ولا ينبغي للأم أن تتساهل في مرور طفلها بين يديها في الصلاة. والله أعلم.
ولا يجوز لأحدٍ أن يتعمد المرورَ بين المصلي وسترته ففي «الصحيحين» البخاري (510) ومسلم (507) عن أَبِي جُهَيْمٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».وهذا الدليل عام في المسجد الحرام وفي غيره .
*************************
فصل [غزوة بني قريظة]
نذكر فيه غزوة بني قريظة، فنهض صلى الله عليه وسلم من وقته إليهم، وأمر المسلمين أن لا يصلي أحد صلاة العصر ـ وقد كان دخل وقتها ـ إلا في بني قريظة.
فراح المسلمون أرسالاً، وكان منهم من صلى العصر في الطريق، وقالوا: لم يُرِد منا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الصلاة، إنما أراد تعجيلَ السير، وكان منهم من لم يصلِّ حتى غربت الشمس، ووصل إلى بني قريظة، ولم يعنف صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين.
قال ابن حزم: وهؤلاء هم المصيبون وأولئك مخطئون مأجورون، وعَلِم الله لو كنا هناك لم نصلِّ العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام.
قلت :أما ابن حزم فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية، ولا يمكنه العدول عن هذا النص، ولكن في ترجيح أحد هذين الفعلين على الآخر نظر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعنِّف أحداً من الفريقين، فمن يقول بتصويب كل مجتهد، فكل منهما مصيب ولا ترجيح، ومن يقول بأن المصيب واحد ـ وهو الحق الذي لاشك فيه ولا مرية، لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة ـ فلا بدَّ على قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق، وللفريق الآخر أجر، فنقول وبالله التوفيق: الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصبَ السَّبْق، لأنهم امتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم في المبادرة إلى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها، ولا سيما صلاة العصر التي أكَّد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. وهي العصر على الصحيح المقطوع به إن شاء الله من بضعة عشر قولاً، والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها.
فإن قيل: كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزاً، كما أنه صلى الله عليه وسلم أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد، والظهر أيضاً كما جاء في حديثٍ رواه النسائي من طريقين، فالجواب أنه بتقدير تسليم هذا وأنه لم يتركها يومئذ نسياناً، فقد تأسَّف على ذلك، «حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما كدتُ أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال والله ما صليتها». وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسياً لها لما هو فيه من الشغل، كما جاء في الصحيحين «عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً». والحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة، وفهموا المعنى فلهم الأجر مرتين، والآخرون حافظوا على أمره الخاص، فلهم الأجر رضي الله عن جميعهم وأرضاهم.
*************************
هذا الفصل في غزوة بني قريظة، وقد ذكرها الله تعالى في سورة الأحزاب فقال: { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) }  وكانت غزوة بني قريظة في ذي القعدة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري»(7/408): وَتَقَدَّمَ أَنَّ تَوَجُّهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ كَانَ لِسَبْعٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَأَنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَة آلَاف... اهـ.
وبنو قريظة هم أحد الطوائف الثلاث الذين صالحهم النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قدم المدينة، وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وأول من نقض العهد بنو قينقاع ثم بنو النضير ثم بنو قريظة، أما بنو قينقاع وبنو النضير فأجلاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المدينة، وأما بنو قريظة فقاتلهم وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله في درسنا هذا.
وكل غزوة من هذه الغزوات كانت عقب غزوة من الغزوات الكبار. قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (3/123): وَكَانَتْ غَزْوَةُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَقِبَ كُلِّ غَزْوَةٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ الْكِبَارِ. فَغَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ عَقِبَ بَدْرٍ، وَغَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَغَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ عَقِبَ الْخَنْدَقِ... اهـ.
والغزوات الكبار سبع قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (1/125): وَالْغَزَوَاتُ الْكِبَارُ الْأُمُّهَاتُ سَبْعٌ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَخَيْبَرُ، وَالْفَتْحُ، وَحُنَيْنٌ، وَتَبُوكُ. اهـ.
سبب غزوة بني قريظة أنهم في غزوة الخندق نقضوا العهد، فقد جاء إليهم حيي بن أخطب هو وبعض أصحابه من بني النضير لِما في نفوسهم من الحسد والحقد على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأن اليهود حسَدة ،وأيضًا لأنه أجلاهم من المدينة فجاؤوا إلى بني قريظة وحاولوا في سيدهم كعب بن أسد حتى وافقهم في الخروج معهم يوم الأحزاب بشرط أن يكون حيي بن أخطب معهم في الحصن فوافق على ذلك، لهذا لما هزم الله الأحزاب ورجعوا خائبين تحصَّن بنو قريظة في حصونهم ودخل معهم في الحصن حيي بن أخطب، وكان ممن قتل مع بني قريظة.
غزوة بني قريظة كانت مباشرة بعد غزوة الخندق فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما هزم الله الأحزاب رجع إلى المدينة هو وصحابته ففي «الصحيحين» البخاري (2813) ومسلم (1769) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلاَحَ، وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الغُبَارُ، فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلاَحَ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ» قَالَ، هَا هُنَا، وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وأمر أصحابَه ألَّا يصلوا العصر إلا في بني قريظة كما في «الصحيحين» البخاري (946) مسلم (1770) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ».
ولما توجَّه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته للخروج تقدَّم جبريل وبعض الملائكة عليهم الصلاة والسلام أمامهم لغزو بني قريظة ففي صحيح البخاري (4118) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِي غَنْمٍ، مَوْكِبَ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ». ساطعًا أي مرتفعًا .الزقاق: الطريق.
موكب :قال القاري في مرقاة المفاتيح (9/3787):وَالْمَوْكِبُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ جَمَاعَةُ رُكَّابٍ يَسِيرُونَ بِرِفْقٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ .اهـ.
وخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته في ثلاثة آلاف، فتحصَّن بنو قريظة في حصونهم، قال الفيُّومي في المصباح المنير: الْحِصْنُ الْمَكَانُ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِهِ .وَجَمْعُهُ حُصُونٌ .اهـ.
وقال الزبيدي في تاج العروس(34/ 433): الحِصْنُ، بالكسْرِ: كلُّ مَوْضِعٍ حَصِينٍ لَا يُوصَلُ إِلى مَا فِي جَوْفِهِ، والجمع  حُصونٌ وَمِنْه قوْلُه تعالَى: {مانعتهم حُصونهم} .
ثم تكلم هنا الحافظ ابن كثير رحمه الله على من هو المصيب من الفريقين الذين صلوا العصر في أثناء الطريق أم الذين أخَّروها إلى بني قريظة ؟.
(قال ابن حزم: وهؤلاء هم المصيبون)
أي: الذين أخروا الصلاة إلى بني قريظة.
(وأولئك مخطئون مأجورون، وعَلِم الله لو كنا هناك لم نصل العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام)
(وعلِم الله لو كنا هناك لم نصل العصر...) يؤكِّد ابنُ حزم رحمه الله تصويب الذين لم يصلوا العصر إلا في بني قريظة وقد كان رحمه الله شديد الحرص على العمل بالأدلة ،وذكر لنا الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله أن ابن حزم رحمه الله  حلف بالله أنه لا يريد إلا الحق، ولكن أُنكر عليه جمودُه على الظاهر، وزلاته في بعض أمورالعقيدة. والله المستعان.
بعد ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله مال إلى تصويب من صلى العصر أثناء الطريق. فإنه قال في آخر كلامه على المسألة: (والحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة). وهو الصلاة في وقتها وامتثال أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الخروج للجهاد.
ثم ذكر الحافظ ابن كثيرقاعدة أصولية وهي (كل مجتهد مصيب) وفي المسألة قولان: أحدهما :تصويب هذه القاعدة .والقول الآخر أن المصيب واحد، وهذا رجَّحه ابن كثيرهنا وقال: وهو الحق لاشك فيه ولامرية، لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة .اهـ. فهذا هو الصواب أنَّ المصيب واحد؛ قال الله تعالى:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) }.وقال:﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس:32]. وقال سبحانه: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [الأنبياء:78]. حكم داود وولده سليمان وامتنَّ الله على سليمان بنعمة الصواب الذي اهتدى له ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]. مما يدل على أن الصواب واحد. ﴿إِذْ نَفَشَتْ أي: رعت.
وفي «صحيح البخاري» (7352) و«صحيح مسلم» (1716) عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».
فهذا يدل على بطلان هذه القاعدة الأصولية (كل مجتهد مصيب) لأن الحق واحد ،فإما مصيبٌ وإما مخطئ .ومن كان متجردًا للحق واجتهد في مسألةٍ، فهذا إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، أما إنسان متبع للهوى ويجتهد فهو غير مأجور،بل مأزور. يقول الله تعالى :{ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) } وقال :{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) } .
من قال بتصويب هذه القاعدة: (كل مجتهد مصيب) فعندهم بعض الاستدلالات .
قال الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/116): ...وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ: بِأَنَّ الصَّحَابَةَ اجْتَهَدُوا وَاخْتَلَفُوا، وَأَقَرَّ بَعْضُهُمُ بَعْضًا عَلَى قَوْلِهِ، وَسَوَّغَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ وَمُؤَدَّى اجْتِهَادِهِ، وَسَوَّغُوا لِلْعَامَّةِ أَنْ يُقَلِّدُوا مَنْ شَاءُوا مِنْهُمْ...الخ.
والأدلة المتقدمة صريحة في ردِّ هذا القول .
ثم ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله الصلاة الوسطى، وقال عنها: هي العصر على الصحيح المقطوع به إن شاءالله من بضعة عشر قولا . أقوال في المسألة زادت على عشرة أقوال في بيان الصلاة الوسطى. وحديث علي ابن أبي طالب في «صحيح مسلم» (627) قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا». نص في المسألة أن صلاة الوسطى صلاة العصر .وهذا قول أكثر العلماء كما في سنن الترمذي (182) .
(فإن قيل: كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزاً)
أي: في غزوة بني قريظة.
(كما أنه صلى الله عليه وسلم أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد، والظهر أيضاً كما جاء في حديثٍ رواه النسائي من طريقين)
هذا مما يَرِدُ على القائلين بتصويب من صلى العصر في أثناء الطريق أنه كان تأخير الصلاة للجهاد في غزوة بني قريظة جائزًا. ابن كثير يقول(فالجواب أنه بتقدير تسليم هذا)
على فرض تسليم جواز تأخير الصلاة في القتال.
(وأنه لم يتركها يومئذ نسياناً)
قال بعضهم: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما أخر الصلاة يوم الخندق نسيانًا وبعضهم قال: الشغل بالجهاد
(فقد تأسف على ذلك، «حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال والله ما صليتها» وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسياً لها لما هو فيه من الشغل)
يعني: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تأسف على التأخير.وهذا مما يدل على تصويب فعل الذين صلوا العصر في أثناء الطريق.
وقال الحافظ ابن كثير في البداية(4/120): وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الصَّلاة لِعُذْرِ الْقِتَالِ كَمَا فَهِمَهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ فِي هَذَا(لا يصلين أحد منكم العصر..) فَلَا إِشْكَالَ عَلَى مَنْ أَخَّرَ وَلَا عَلَى مَنْ قَدَّمَ أَيْضًا.وَاللَّهُ أَعْلَمُ.اهـ.
وهذا من اختلاف الأفهام في الصواب من الأمرين الذين صلوا في الطريق أم الذين أخَّروا.
 ويستفاد من حديث «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ»جواز اختلاف الأفهام، الاختلاف على ثلاثة أقسام:
الأول: اختلاف أفهام هذا يفهم من الدليل شيئًا وهذا يفهم منه شيئًا آخر، ومن هذا اختلافهم في كثير من المسائل الفقهية، مثل: اختلافهم في فهم دليل تحية المسجد، الجمهور فهموا منه الاستحباب، وآخرون فهموا منه الوجوب. وهكذا قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية: بعض العلماء فهم من الدليل أن سورة الفاتحة تقرأ في الصلاة الجهرية كحديث «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عند البخاري (756) ومسلم (394). ومن أهل العلم من فهم في المسألةأن المأموم لا يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية، وهكذا. وقد قيل: الاختلاف لا يفسد الوُدَّ. أي: اختلاف الأفهام.
الثاني: اختلاف تنوع .وهذا جائز. تنوع العبادات، مثل: أدعية الاستفتاح جاء في ذلك عدة أدعية، وأذكار التشهد، وأذكار الصلاة الإبراهيمية، إلى غير ذلك. جاءت بألفاظ مختلفة وهذا من تنوع العبادات يؤجر من يتحرَّى فعلها.
الثالث: اختلاف تضاد .وهذا حرام، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].

واختلاف الأفهام يتحاكم فيه إلى الكتاب والسنة؛ لأن الله يقول: ﴿...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]. وقال سبحانه: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ... [الشورى:10].وفي سنن أبي داود(4607)عن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».فالواجب أن نردَّ الخلاف إلى الكتاب والسنة .
لكن بدون أن يجرَّ ذلك إلى ضغائن وبدون إلزام في اختلاف الأفهام. يقول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في نصيحته لطلبة العلم في كتابه «غارة الأشرطة على أهل الجهل والسفسطة»: وأنت لا تتعصب لرأيك حتى لا تدعو إلى تقليدك وأنت تشعر أو لا تشعر.اهـ.
وهناك قاعدة أصولية (لا إنكار في مسائل الاجتهاد).
وهذه القاعدة ليست على إطلاقها
قال والدي الشيخ مقبل رحمه الله في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم )
أنت طالبُ علم تبحث لنفسِك، أنا الذي أختاره لنفسي أنني إذا أدركت الإمام رَاكِعًا لا أعتدُّ بها، ولا أستطيع أقول إن الذي يعتدُّ بها صلاته باطلة   .
لماذا؟ لأن جمهور أهل العلم يقولونَ بذلك.
بارك الله فيكم أعني في المسائل التي تختلف فيها الأنظارُ، وتكون الأدلةُ قويةً من الجانبين، أو تكون الأدلةُ ضعيفةً من الجانبين. فلا على من أخذ بهذا، ولا من أخذ بهذا.
 فلم يزل الخلاف من مُدَّة الصحابة إلى زمننا الآن، إلى زمننا الحاضر ولا يعيب بعضُهم على بعض . اهـ.
وقال الشيخُ العلامة صالح  الفوزان حفظه الله في شرح مسائل الجاهلية ص 46 : الاجتهاد الفقهي ما لم يظهر فيه دليل مع أحد القولين بل كلا القولين محتمل .
فهذا لا إنكار في مسائل الاجتهاد ما دام أنه لم يترجَّح شيءٌ  منها بالدليل فلا إنكار على من أخذ بقول من الأقوال .
 شريطةَ ألا يكون عنده تعصبٌ أو هوى وإنما قصدُه الحق .
قال ومن هنا قالوا : لا إنكار في مسائل الاجتهاد .اهـ المراد.
وما أجمله من قيد: شريطة ألا يكون عنده تعصب أو هوى وإنما قصده الحق .
الله يرزقنا التَجرُّدَ للحق .

وهذا مثل: وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى بعد الركوع

فقد جاءفي «مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه أبي الفضل صالح» رقم (776): قلت كَيفَ يضع الرجلُ يَده بعد مَا يرفع رَأسه من الرُّكُوع أيضع الْيُمْنَى على الشمَال أم يسدلها ؟.قَالَ أَرْجُو أَن لَا يُضَيَّقَ ذَلِك إِن شَاءَ الله.اهـ.
علينا أن نتجرد للحق ،ولا نتعصب لأي قول من الأقوال لأنه قول فلان، بل نتعصب للحق. ينبغي أن يكون من أدعيتنا أن الله يرزقنا الإنصاف والتجرد للحق.
الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله من طريقته وتربيته لطلابه أنه لا يُلزم أحدًا بالأخذ بفهمه في اختلاف الأفهام حتى وإن كان يعتقد أن الصحيح خلافه .من أمثلة ذلك: شهربن حوشب ضعيف لسوء حفظه، أقوالُ جمهور أئمة الحديث تفيد هذا ،والجرح فيه مفسَّر، ومع ذلك المحقق لتفسير ابن كثير يقوِّيه وذكر الوالد رحمه الله في مقدمة تفسير ابن كثير أن هذا اجتهاد للمحقق وأن الوالد الشيخ مقبل على تضعيف شهر بن حوشب أو نحو هذا .
وفي جلسة لي مع الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في مسألة الحمار الأهلي يقول رحمه الله: بنجاسة الحمار الأهلي لما في «صحيح البخاري»(4198) و«صحيح مسلم » (1940)عن أنس بن مالك  في غزوة خيبر قال فَأَصَبْنَا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ، فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ». قال رحمه الله : الرجس النجس.وفي المسألةِ قولٌ آخر أن الحمار الأهلي طاهر ورجحه  ابن قدامة في المغني(1/37)وقال : الصَّحِيحُ عِنْدِي: طَهَارَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُهَا، وَتُرْكَبُ فِي زَمَنِهِ، وَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا لِمُقْتَنِيهِمَا. فَأَشْبَهَا السِّنَّوْرَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إنَّهَا رِجْسٌ ". أَرَادَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ إنَّهَا " رِجْسٌ "، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَحْمَهَا الَّذِي كَانَ فِي قُدُورِهِمْ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ، فَإِنَّ ذَبْحَ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لَا يُطَهِّرُهُ.اهـ.
فتكلمت مع الوالد رحمه الله وقلت بطهارة الحمار الأهلي. فضحك رحمه الله تشجيعًا لي حتى لا أرتبطَ باجتهاده رحمه الله ،فقد كان يشجع الطالب أن يأخذ بفهمه ولا يقلد شيخه.
وفي مسألة خدمة المرأة لزوجها، الوالد يرى الوجوب ،والجمهور على عدم وجوب خدمة المرأة لزوجها .وكنت أرى قول الجمهور. وهذه المسألة شدَّ فيها معي الوالد رحمه الله ؛ لأن النساء قد لا يفهمن -أنه إذا سقط الوجوب فيبقى الاستحباب من الإعانة وتودُّد المرأة إلى زوجها بخدمته وإعانته والبعد عما يكرهه -، مما قد يؤدِّي إلى تفكيك بعض الأُسَر .
والطلاب كانوا يناقشون الوالد في مسائل كثيرة كمسألة الإجماع والقياس وغيرهما ولكن مناقشة بدون إلزام ولا تباغض ، الاختلاف لا يفسد الود.
بعض الطلاب والطالبات يصرُّ على فهمه، وجدل، ومشادَّة إلى ما يراه، ليس لنا أن نلزم بفهمنا أحدًا ما دام أنه اختلاف أفهام لكن نرجع إلى الكتاب والسنة ونناقش ونتبصر في المسألة. نسأل الله أن يبصرنا بالحق.  
*************************
وأعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمساً وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسْلِموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريَهم ويخرجوا جرائدَ فيقاتلوا حتى يقتلوا عن آخرهم أو يخلُصوا فيصيبوا بعدُ الأولادَ والنساءَ، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم سبت حين يأمن المسلمون شرهم، فأبوا عليه واحدة منهن.
وكان قد دخل معهم في الحصن حيي بن أخطب حين انصرفت قريش، لأنه كان أعطاهم عهداً بذلك حتى نقضوا العهد وجعلوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعون أصحابه بذلك، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم، فقال له علي رضي الله عنه: لا تقرب منهم يا رسول الله ـ خشية أن يسمع منهم شيئاً ـ فقال: «لو قد رأوني لم يقولوا شيئاً» ، فلما رأوه لم يستطع منهم أحد أن يتكلم بشيء.
ثم بعث صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي، وكانوا حلفاء الأوس، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون: رجالُهم ونساؤهم، وقالوا: يا أبا لبابة كيف ترى لنا؟ أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم فأشار بيده إلى حلقه، -يعني أنه الذبح-، ثم ندم على هذه الكلمة من وقته، فقام مسرعاً فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء مسجد المدينة فربط نفسه بسارية المسجد وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً، فلما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «دعوه حتى يتوبَ الله عليه» وكان من أمره ما كان حتى تاب الله عليه رضي الله عنه.
*************************
وقوله (ونازل حصون بني قريظة)في البداية والنهاية (4/121):فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم ).
يذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله محاصرة بني قريظة في حصونهم، وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، وقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب لهذا عرض عليهم سيدهم كعب بن أسد هذه الثلاثة الأمور، (إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه) هذه واحدة، والثانية: (وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا جرائد) إما أن يَقتلوا ذراريهم والذراري يشمل الأولاد والنساء ويخرجوا جرائد. في البداية والنهاية (4/142): لَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا ثَقَلًا .
(فيقاتلوا حتى يقتلوا عن آخرهم ،أو يخلصوا فيصيبوا بعدُ الأولاد والنساء)
(يخلصوا) أي: ينجوا .
والثالث: (وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم سبت حين يأمن المسلمون شرهم، فأبوا عليه واحدة منهن)
رفضوا ما عرض عليهم سيدهم. فلم يقبلوا واحدة منهن، وقالوا: والله لا نؤمِن ولا نقتل نساءنا وأبناءنا، أي عيش يكون لنا بعد نساءنا وأبناءنا ،ولا نستحل يوم السبت.
ثم ذكر الحافظ ابن كثير أن حيي بن أخطب وهو من بني النضير دخل مع بني قريظة في الحصن، كما تقدم أنه كان من المحرِّضين لكعب بن أسد لنقض العهد ووعده بأنه سيدخل معهم الحصن.
ولمَّا أصابهم الذعر والرعب بعثوا إلى أبي لبابة لأن بني قريظة كانوا حلفاء الأوس. فبنو قريظة وبنو النضير حلفاء الأوس، وبنو قينقاع حلفاء الخزرج. وبعثوا إلى أبي لبابة لأنه أوسي .
(فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون: رجالهم ونساؤهم)
ذل الكفر والشقاق للحق، طلبوا منه المشورة وقالوا: كيف ترى لنا.
(قال: نعم فأشار بيده إلى حلقه، يعني أنه الذبح)
أي :أنه سيكون القتل.
(ثم ندم على هذه الكلمة من وقته فقام مسرعاً فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء مسجد المدينة فربط نفسه بسارية المسجد...)
وهذا في رواية في السيرة والله أعلم، ثم ندم على ذلك لأنه رأى في ذلك شيئًا من الخديعة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث أخبر بشيء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم ذكر الحافظ ابن كثيررحمه الله بقية القصة.
*************************
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأسلم ليلتئذٍ ثعلبة وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل من بني عم قريظة والنضير، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سُعدى القرظي، فانطلق، فلم يُعلم أين ذهب وكان قد أبَى الدخول معهم في نقض العهد.
ولما نزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، قالت الأوس: يا رسول الله، قد فعلتَ في بني قينقاع ما قد علمتَ وهم حلفاء إخوتِنا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فقال: «ألا ترضون أن يحكم فيهم رجلٌ منكم؟» قالوا: بلى. قال: «فذاك إلى سعد بن معاذ»، وكان سعد إذ ذاك قد أصابه جرحٌ في أكحَله، وقد ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد، ليعوده من قريب، فبعث إليه صلى الله عليه وسلم فجيء به وقد وطَّؤوا له على حمار، وإخوتُه من الأوس حوله محيطون به، وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم!! فرجع رجالٌ من قومه إلى بني عبد الأشهل فنعَوا إليهم بني قريظة، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون، فقالوا: يا سعد، قد ولَّاك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم في بني قريظة، فقال: عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه أن الحكمَ فيهم كما حكمتُ؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من هاهنا؟ وأشار إلى الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». فقال سعد: إني أحكم فيهم أن يُقتل مقاتلتُهم، وتُسبى ذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل من أنبت منهم، ومن لم يكن أنبت تُرك، فضرب أعناقهم في خنادقَ حُفرت في سوق المدينة اليوم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، وقيل: ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، ولم يقتل من النساء أحداً سوى امرأة واحدة وهي بنانة امرأة الحكم القرظي، لأنها كانت طرحت على رأس خلاد بن سويد رحى فقتلته لعنها الله. وقسم أموال بني قريظة على المسلمين للراجِل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، وكان في المسلمين يومئذ ستة وثلاثون فارساً.
*************************
بعد ذلك لشدَّة الأمر والحصاروالذِلَّة نزل بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يحكم فيهم بما شاء.
(فأسلم ليلتئذ ثعلبة وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد،)
أي: ليلة نزول بني قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم شفعت الأوس لبني قريظة أن يكونوا مثل إخوانهم فيجليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما أجلى بني قينقاع فأحال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه .
وفي«صحيح البخاري» (4122) و«صحيح مسلم» (1769) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ حِبَّانُ بْنُ العَرِقَةِ وَهُوَ حِبَّانُ بْنُ قَيْسٍ، مِنْ بَنِي مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي المَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلاَحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الغُبَارِ، فَقَالَ: «قَدْ وَضَعْتَ السِّلاَحَ، وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَرَدَّ الحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ: أَنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ، وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ.
وفي «صحيح البخاري» (6262)وصحيح مسلم (1768) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ: خَيْرِكُمْ» فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ» قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ المَلِكُ».
والأكحل :عرق في وسط الذراع.
وقوله (قوموا إلى سيدكم)
من أهل العلم من قال: قوموا إلى سيدكم لتنزيله من على الحمار؛ لأنه كان مجروحًا مريضًا، ومن أهل العلم من قال: القيام من باب الإكرام والاحترام له.

وفي هذا جواز تحكيم المفضول مع وجود الأفضل،وكان من أنبت من الصغار قُتل .وقد ثبت في «سنن أبي داود» (4404)من حديث عَطِيَّة الْقُرَظِيّ قَالَ: «كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ» .وهوفي «الصحيح المسند» للوالد الشيخ مقبل رحمه الله (926) .
وهذا يفيد جواز كشف العورة للضرورة. وفيه دليل على أن الإنبات من علامات البلوغ. وهو طلوع الشعر الخشِن حول قُبُل المرأة وذَكَرِ الرجل.
ثم ذكرابن كثير أنه ضُربت أعناقهم في خنادق حفرت في سوق المدينة، وهذا من أشد أنواع الخوف والعذاب والإهانة أنهم يذهبون بهم إلى الخنادق للقتل بعد ما كانوا في قوة وتحدِّي { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) }.
ثم ذكر عددهم قال (وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، وقيل: ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة). وفي حديث جابر في «مسند أحمد» (14773) «... وَكَانُوا أَرْبَعَ مِائَةٍ...» والحديث حسن.
ففيه خلاف في كم كان عدد بني قريظة؟وقد قال الحافظ في فتح الباري (4122): فَيُحْتَمَلُ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ البَاقِينَ كَانُوا أتباعا .
(وقسم أموال بني قريظة على المسلمين للراجل سهم)
(للراجل)أي: الماشي على رجله له (سهم) نصيب واحد.
*************************
ولما فرغ منهم استجاب الله دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ، وذلك أنه لما أصابه الجرح قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت رفعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تشفيني من بني قريظة. وكان صلى الله عليه وسلم قد حسم جرحه فانفجر عليه فمات منه رضي الله عنه، وشيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وهو الذي اهتز له عرش الرحمن فرحاً بقدوم روحه رضي الله عنه وأرضاه.
وقد استشهد يوم الخندق ويوم قريظة نحو العشرة رضي الله عنهم آمين.
*************************
(ولما فرغ منهم)
أي: من أمر بني قريظة.
(استجاب الله دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ)
وسعد بن معاذ كان مستجاب الدعوة.
(وذلك أنه لما أصابه الجرح)
أي: يوم الأحزاب.
(قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت رفعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تشفيني من بني قريظة). وهذا في«صحيح البخاري» (4122).
وقد استجاب الله له دعاءه قال الحافظ في فتح الباري (4122):وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ ظَنَّ سَعْدٍ كَانَ مُصِيبًا وَأَنَّ دُعَاءَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ مُجَابًا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ مِنْ بَعْدِ وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ حَرْبٌ يَكُونُ ابْتِدَاءُ الْقَصْدِ فِيهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَهَّزَ إِلَى الْعُمْرَةِ فَصَدُّوهُ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ وَكَادَ الْحَرْبُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَقَعْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ وَقَعَتِ الْهُدْنَةُ وَاعْتَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَابِلٍ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى أَنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ غَازِيًا فَفُتِحَتْ مَكَّةُ فَعَلَى هَذَا :فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَظُنُّ أَنَّكَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ أَيْ أَنْ يَقْصِدُونَا مُحَارَبِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي قَرِيبًا فِي أَوَاخِرِ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ  الآن نَغْزُوْهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا.اهـ.
 وأيضًا استجاب الله له بأن أقر عينه بقتل بني قريظة فإنهم كانوا من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم انفجر جرحُه وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد حسم جرحه أي: قطع العرق ثم كواه ليقف نزيف الدم. ثم انفجر بعد أن أقرَّ الله عينه في بني قريظة، ومات رضي الله عنه، وهو يُعد من شهداء غزوة الخندق؛ لأنه مات من إثر الجرح الذي أصيب به في غزوة الخندق ولم يروا إلا الدم يسيل من الخيمة التي كان فيها .
أخرج البخاري (4122) ومسلم (1769) عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ سَعْدًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي لَهُ، حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا، فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وَفِي المَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، إِلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ».
وفي رواية لمسلم (68/1769): فَانْفَجَرَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَمَا زَالَ يَسِيلُ حَتَّى مَاتَ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الشَّاعِرُ
أَلَا يَا سَعْدُ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ ... فَمَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ
لَعَمْرُكَ إِنَّ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ ... غَدَاةَ تَحَمَّلُوا لَهُوَ الصَّبُورُ
تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا ... وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ
وَقَدْ قَالَ الْكَرِيمُ أَبُو حُبَابٍ ... أَقِيمُوا قَيْنُقَاعُ وَلَا تَسِيرُوا
وَقَدْ كَانُوا بِبَلْدَتِهِمْ ثِقَالًا ... كَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصُّخُورُ
وقد حكم الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/518)على رواية (ليلته) بالتصحيف وقال:وَهُوَ تَصْحِيفٌ فَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ( فَإِذَا لَبَتُّهُ قَدِ انْفَجَرَتْ مِنْ كَلْمِهِ) أَيْ مِنْ جُرحه. أخرجه ابن خُزَيْمَةَ. وَكَانَ مَوْضِعُ الْجُرْحِ وَرِمَ حَتَّى اتَّصَلَ الْوَرَمُ إِلَى صَدْرِهِ فَانْفَجَرَ مِنْ ثَمَّاهـ.
ومن فوائد قصة سعد بن معاذ تمني الشهادة. قال الحافظ ابن حجر(7/519) وَفِي َخَبَرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ جَوَازُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ .اهـ.
وقد بوَّب لذلك البخاري في صحيحه (بَابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ) ثم ذكرفي الباب حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ برقم (2797)، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ».

(وهو الذي اهتز له عرش الرحمن فرحاً بقدوم روحه رضي الله عنه وأرضاه)
وهذا ثابت في «الصحيحين» البخاري (3803) مسلم (2466) واللفظ له. عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ».
(عرش الرحمن) اهتز عرش الرحمن وهو سقف الجنة مخلوق عظيم من مخلوقات الله  وأثقل الأوزان اهتز لموت سعد بن معاذ فرحًا بقدوم روحه؛ لأن الشهداء أرواحهم في الجنة في جوف طير خضر كما في«صحيح مسلم» (1887) عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً»، فَقَالَ: «هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا».


وفي هذا منقبةٌ عظيمةٌ لسعد بن معاذ رضي الله عنه .