جديد المدونة

جديد الرسائل

الثلاثاء، 29 مارس 2016

الدرس العشرون من /كتاب التوحيد من صحيح البخاري 21من جمادى الثاني 1437.


بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العشرون
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري رحمه الله:
بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ». وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ: «لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ».
7416 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ، عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ المُغِيرَةِ عَنِ المُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ، وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ».
**********************
(وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ: «لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ»)
هذا وصله الدارمي في «سننه» برقم (2273) حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ به.
وأخرجه مسلم (1499)من طريق أخرى عن أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِّ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ به.
(حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ)
المنقري، أبو سلمة.
(حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ)
وضاح بن عبد الله اليشكري.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ)
وهو ابن عمير.
(عَنِ المُغِيرَةِ)
وهو ابن شعبة رضي الله عنه، من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان رضي الله عنه من الدواهي - أي: صاحب ذكاء وسياسة. وكان كثير النكاح، كثير الطلاق.
(سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ)
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه سيد الخزرج.
وتقدم هذا الحديث مختصرًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رقم (7403).
(غَيْرَ مُصْفَحٍ) قال ابن الأثير في النهاية: يُقَالُ أَصْفَحَهُ بِالسَّيْفِ إِذَا ضرَبَه بعُرْضه دُون حدِّه، فَهُوَ مُصْفِح. والسيفُ مُصْفَح.ويُرْويان مَعاً.
- في هذا الحديث إثبات صفة الغيرة لله عز وجل، نؤمن بها كما يليق بجلال الله عز وجل. والغيرة كما في «النهاية» (3/401):هِيَ الحِمِيَّة والأنَفَة.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم(17/77): الغيرة فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَسَّرَهَا هُنَا فِي حَدِيثِ عَمْرٍو النَّاقِدِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَيْ غَيْرَتُهُ مَنْعُهُ وَتَحْرِيمُهُ .اهـ.
والواجب الأخذ به على ظاهره في إثبات صفة الغيرة لله سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
وفيه السبب في تحريم الفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ أنه من أجل غيرة الله .
ومن أسباب غيرة الله انتهاك حرماته وشرعه .
وهذه أنواعٌ من غيرة الله على عبده ذكرها ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين 304 يقول رحمه الله :
1-والله سبحانه وتعالى يغار على قلب عبده أن يكون معطَّلا من حبه وخوفه ورجائه وأن يكون فيه غيره .
2- ويغار على لسانه أن يتعطل من ذكره ويشتغل بذكر غيره.
3- ويغار على جوارحه أن تتعطل من طاعته وتشتغل بمعصيته فيقبح بالعبد أن يغار مولاه الحق على قلبه ولسانه وجوارحه وهو لا يغار عليها
4-وإذا أراد الله بعبده خيرا سلط على قلبه إذا أعرض عنه واشتغل بحب غيره أنواع العذاب حتى يرجع قلبه إليه .وإذا اشتغلت جوارحه بغير طاعته ابتلاها بأنواع البلاء وهذا من غيرته سبحانه وتعالى على عبده.
5- ومن غيرته سبحانه وتعالى غيرته على توحيده ودينه وكلامه أن يحظى به من ليس من أهله بل حال بينهم وبينه غيرة عليه قال الله تعالى {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}[الأنعام25]. ولذلك ثبط سبحانه أعداءه عن متابعة رسوله واللحاق به غيرة كما قال الله تعالى {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فغار سبحانه على نبيه وأصحابه أن يخرج بينهم المنافقون فيسعوا بينهم بالفتنة فثبطهم وأقعدهم عنهم .اهـ.
- وفيه من الفوائد مدح صفة الغيرة، وأنها صفة كمال؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي ».قال ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين 273: والدين كله تحت هذه الغيرة فأقوى الناس دينا أعظمهم غيرةفمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنه من المحبين فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهِك حرمة محبوبه ويسعى في أذاه ومساخطه ويستهين بحقه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك بل قلبه بارد فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتُهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت .وأقل الأقسام أن يغار له من نفسه وهواه وشيطانه فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه وارتكابه لمعصيته
وإذا ترحَّلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة بل ترحَّل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره. وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الحاملة على ذلك فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامة محبته ومحبوبيته الجهاد فقال الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.اهـ.
وقسَّم ابن القيم رحمه الله الغيرة المحمودة للعبد إلى ثلاثة أقسامٍ في كتابه «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» (314/315) وقال: فصل: ومِلاك الغيرة وأعلاها ثلاثة أنواع غيرة العبد لربه أن تنتهك محارمه وتضيع حدوده وغيرته على قلبه أن يسكن إلى غيره وأن يأنس بسواه وغيرته على حرمته أن يتطلع إليها غيره .فالغيرة التي يحبها الله ورسوله دارت على هذه الأنواع الثلاثة .وما عداها فإما من خدْع الشيطان وإما بلوى من الله كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها. اهـ.
1- (خدع الشيطان) من مخادعة الشيطان للعبد تجاوز الغيرة الحد المحمود، ومثل أن تؤدي إلى سوء الظن بمن ظاهره السلامة. فتجاوز الغيرة إلى هذا مذمومة. وقد يكون سبب تجاوز الغيرة السحر.
وفيما ذكر لنا الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله أن امرأة سَحرت زوجها لجذب محبته فانعكس الأمر، وأساء الظن بها حتى إنه كان إذا أراد أن يخرج وضع لصقة على فرجها.
وقد يكون سبب تجاوز حد الغيرة بعض الأمراض  التي تجلب له الشك في زوجته ومحارمه.
2- (وإما بلوى من الله) غيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها ،وغيرتها من ضرتها تعدُّ بلوى من الله؛ وليس هناك أي فائدة من غيرَة المرأة في هذا لا في الدنيا ولا في الدين ،فلهذا كانت هذه الغيرة بلوى من الله ،تقلقُ المرأة وقد تُحَطِّمُ حياتها .
وذات مرة كان معنا في درس للوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في غيرة المرأة في هذا فقال: كلام فارغ.
غيرة المرأة في هذا الجانب أمر جبلِّي مركب  في طبيعة النساء مما يتطلَّب مجاهدة كبيرة ؛ ولهذا نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع شرفهن وفضلهن، بل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أفقه نساء الأمة على الإطلاق تغار ،فالغيرة كانت عندهن رضي الله عنهن ، ثبت في «صحيح البخاري» (4916)عن عمر بن الخطاب : اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ «فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ».
وفي «صحيح البخاري» (5225) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ» ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ.
وهذا فيه دليل على جواز إرسال الطعام إلى الزوج إذا كان في بيت الأخرى، لكن لا تقصد بهذا المضارة والأذى.
وفي «الصحيحين» البخاري (5211) مسلم (2445) عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ القُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلاَ تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ، تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ؟ فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَكِبَتْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا، وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإِذْخِرِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا». (الإِذْخِرِ) وهو حشيش رطب له رائحة طيبة تأوي فيه الهوام.
وهذا مما قد يُعفى عنه بسبب الغيرة.
وفي صحيح مسلم (2815) عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ».
وفي هذا أدلة كثيرة.
غيرة المرأة على زوجها إذا كان لا يعدل، أو أنه يؤذيها ويقصِّر في حقوقها  ، هذا لها حق فيه. أما إذا كان قائمًا بالعدل وحسن العشرة فما يحصل لها من الغيرة الجبليَّة عليه لا يجوز لها أن تتجاوز الحد، وعليها بمجاهدة نفسها والتغلب على غيرتها، وبالدعاء فهو سلاح المؤمن. كم من واحدة يكون عندها غيرة على زوجها شديدة لكن بالمجاهدة والدعاء يخفف الله عنها كثيرًا من الغيرة. ولا يجوز للمرأة أن تتجاوز الحد في غيرتها أو تسبب الظلم لضرتها أو تسعى بالتحريش. المؤمنة مؤمنة بالله وقضائه، ليس لها أن تسعى بالتحريش بين الرجل وزوجته، والدليل أدلة تحريم السعي بالنميمة فهي عامة .وأخرج أبوداود في «سننه » (2175) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ». وهوفي «الصحيح المسند » للوادعي (1278).ولها أن تخبره إذا كان لقصد الإصلاح والتأديب، والله يعلم السر وأخفى .
والمرأة في الجنة دارالسلام في راحةٍ من هذه الغيرة وفي سلامة .قال ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين 243:وصفهن –أي نساء أهل الجنة -بالطهارة فقال {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} طهرن من الحيض والبول والنجو وكل أذى يكون في نساء الدنيا وطهرت بواطنهن من الغيرة وأذى الأزواج وتجنيهن عليهم وإرادة غيرهم .اهـ.
يسأل بعض الأخوات: هل يجوز أن تطلب الطلاق إذا أراد زوجها أن يتزوج عليها ؟
ج:في «سنن أبي داود» (2226) عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ». فلا يجوز أن تطلب الطلاق لنفسها في غير ما بأس، ولا يجوز لها أن تطلب طلاق ضرتها كما في «الصحيحين» البخاري (2140)  مسلم (1413) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا».
«وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا» أي: ليبقى لها الود والألفة والأرزاق، بعض النساء تظن أن أختها تضيق عليها في الرزق.
ولا يجوز لها أن تطلب الفراق لمجرد أنه تزوج عليها ،أو أراد ذلك .
وأما إذا خشيت الفتنة في دينها، فأخرج البخاري (5276) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ، إِلَّا أَنِّي أَخَافُ الكُفْرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا .دلَّ هذا الحديث أن من خشيت على دينها من الفتنة بسبب نفرة القلب وعدم القيام بالحقوق ،والوقوع في المعاصي لها أن تطلب الفراق .
 يقول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في المرأة تطلب الطلاق إذا تزوج عليها لأنها تخشى على دينها من الفتنة فأجاب :إذا خشيت على دينها من الفتنة لها أن تطلب الطلاق. والله أعلم.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتاوى على الدرب : فإذا تعذر الصبر على الزوج وخافت المرأة أن لا تقيم حدود الله الواجبة عليها لزوجها فلا بأس أن تطلب الطلاق .اهـ.
وتنصح بالصبر والتصبر، وكم من امرأة سارعت ثم ندمت ندمًا شديدًا،والله عزوجل يقول :{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.ويقول سبحانه { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}.
هذا وهنا سببان في فقد الغيرة المحمودة أوضعفها .
1-قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي66 وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ: أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نَارَ الْغَيْرَةِ الَّتِي هِيَ لِحَيَاتِهِ وَصَلَاحِهِ كَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَالْغَيْرَةُ حَرَارَتُهُ وَنَارُهُ الَّتِي تُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، كَمَا يُخْرِجُ الْكِيرُ خُبْثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ، وَأَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً أَشَدُّهُمْ غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ..
وقال 67:وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّتْ مُلَابَسَتُهُ لِلذُّنُوبِ أَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ الْغَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ، وَقَدْ تَضْعُفُ فِي الْقَلْبِ جِدًّا حَتَّى لَا يَسْتَقْبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ دَخَلَ فِي بَابِ الْهَلَاكِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِقْبَاحِ، بَلْ يُحَسِّنُ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ لِغَيْرِهِ، وَيُزَيِّنُهُ لَهُ، وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيَسْعَى لَهُ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الدَّيُّوثُ أَخْبَثَ خَلْقِ اللَّهِ، وَالْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مُحَلِّلُ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ لِغَيْرِهِ وَمُزَيِّنُهُ لَهُ، فَانْظُرْ مَا الَّذِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ قِلَّةُ الْغَيْرَةِ.
وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ الْغَيْرَةُ، وَمَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ، فَالْغَيْرَةُ تَحْمِي الْقَلْبَ فَتَحْمِي لَهُ الْجَوَارِحَ، فَتَدْفَعُ السُّوءَ وَالْفَوَاحِشَ، وَعَدَمُ الْغَيْرَةِ تُمِيتُ الْقَلْبَ، فَتَمُوتُ لَهُ الْجَوَارِحُ؛ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهَا دَفْعٌ ألْبَتَّةَ.اهـ.
2-أكل لحم الخنزير فمن أكله أصبح ديُّوثًا لا يغار لدينه ولا على محارمه .
وقد ضعُفَت الغيرةُ في الرجال في هذا الزمان إلا من رحم  الله .ولهذا خرج النساء كاشفات سافرات متطيبات بغير حشمةٍ ولا حياء،وتختلِطُ بالرجال وتتحدَّثُ معهم وهو ساكتٌ، لضعف الغيرة عند الأولياء وقد يكون لفقدها بالكلية.
وإن من غار لدين الله وشرعه فإن الله يغار له لأن الجزاء من جنس العمل. قال ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين 304: وكما أنه سبحانه وتعالى يغار على عبده المؤمن فهو يغار له ولحرمته فلا يمكن المفسد أن يتوصل إلى حرمته غيرة منه لعبده فإنه سبحانه وتعالى يدفع عن الذين آمنوا فيدفع عن قلوبهم وجوارحهم وأهلهم وحريمهم وأموالهم يتولى سبحانه الدفع عن ذلك كله غيرة منه لهم كما غاروا لمحارمه من نفوسهم ومن غيرهم .اهـ.
ونستفيد مما تقدم أن الغيرة متنوعة
1-                      مدح الغيرة المحمودة وأنها من صفات الرجال الأبطال .
2-                      غيرة الرجل على زوجته .وهي محمودة مالم تتعدَّ حدود الشرع كغيرته عليها من انتهاك حرمات الله وتطلعها إلى الرجال ،وتأثرها بلباس الكفار وأحوالهم هذا من الغيرةالمحمودة ،فإن تعدَّت إلى سوء الظن بها مع أدبها ،أو تطلُّب عثراتها وتخوُّنِها فهي غَيرةٌ مذمومة.
وينبغي للمرأة أن تبتعد عن إثارة غيرة الزوج وعن جميع ما يكون سببًا للخلاف بينهما .
يقول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله :ينبغي للمرأة أن تراعي غيرةَ زوجها .
3-                      غيرة المرأة على زوجها إذا وجدته يرتكب حرامًا ،أو يتطَّلع إلى النساء والحرام .وهذا محمودٌ .
4-                      الغيرة الجبليَّة للمرأة في كراهيتها لميل زوجها إلى غيرها ،لا يجوز فيها التعدِّي إلى الظلم والأذى .
- وبقية الحديث تقدم الكلام عليه فيما سبق عن ابن مسعود (7403).
- ونستفيد من ترجمة الإمام البخاري أنه يطلق على الله «شَخْصٌ». وقد قال عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (3/106): قَالَ عُبَيْدُ اللهِ الْقَوَارِيرِيُّ: «لَيْسَ حَدِيثٌ أَشَدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلِهِ: لَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِدْحَةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». وبوَّب ابن أبي عاصم في «السنة» (1/225) بَابُ ذِكْرِ الْكَلَامِ وَالصَّوْتِ وَالشَّخْصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وقداختلف العلماء فمن أهل العلم من جعل هذه صفة من صفات الله، وقالوا لا مانع من ذلك لأن الشخص ما علا وارتفع وظهر، والله مرتفع على خلقه جميعًا، وظهوره على جميع خلقه «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» «صحيح مسلم» (2713)
ومن أهل العلم من يرى أن الله لا يوصف بأنه شخص، وإنما هذا من باب الإخبار .
وقد قال ابن بطال رحمه الله في شرح صحيح البخاري (10/442): وأجمعت الأمة على أن الله لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يَرِدْ به .اهـ.
ونقلُ الإجماع هنا لا يصح .قال أبو يعلى الفرَّاء في «إبطال التأويلات» (165/1): وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه، ووجهه أن قوله: " لا شخص " نفي من إثبات، وذلك يقتضي الجنس كقولك: لا رجل أكرم من زيد يقتضي أن زيدا يقع عليه اسم رجل، كذلك قوله: " لا شخص أغير من الله " يقتضي أنه سُبْحَانَهُ يقع عليه هَذَا الاسم.
**********************
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري رحمه الله:
بَابُ ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19]، «فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَيْئًا، وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ شَيْئًا، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ»، وَقَالَ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88].
7417 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: «أَمَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟»، قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا.
**********************
(وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ)
وَهُو أي القرآن. القرآن صفة من صفات الله؛ لأنه كلام الله عز وجل.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ)
هو التنيسي الدمشقي، من أثبت الناس في الموطأ.
(أَخْبَرَنَا مَالِكٌ)
وهو ابن أنس إمام دار الهجرة. وكنيته أبو عبد الله.
(عَنْ أَبِي حَازِمٍ)
أبو حازم عن سهل بن سعد هو سلمة بن دينار.
أبو حازم عن أبي هريرة هو سلمان الأشجعي. وهذه من القواعد عند المحدثين.
أبو حازم سلمة بن دينار كان زاهدًا واعظًا. ومن الآثار الثابتة عنه رحمه الله .أخرج الفسوي في المعرفة والتاريخ(1/678) عن أبي حازم يَقُولُ: يَسِيرُ الدُّنْيَا يَشْغَلُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْآخِرَةِ. وَقَالَ: إِنَّكَ لَتَجِدُ الرَّجُلَ يَهْتَمُّ بِهَمِّ غَيْرِهِ حَتَّى أَنَّهُ أَشَدُّ هَمًّا مِنْ صَاحِبِ الْهَمِّ بِهَمِّ نَفْسِهُ. وَقَالَ: مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فِي الْآخِرَةِ فَقَدِّمْهُ الْيَوْمَ، وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فِي الْآخِرَةِ فَاتْرُكْهُ الْيَوْمَ. والأثر صحيح .
يَسِيرُ الدُّنْيَا: أي قليل من الدنيا  ،وإذا كان هذا في القليل فكيف بالكثير .
وقال الفسوي في المعرفة(1/649) حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ لِأَبِي حازم:
ارفع إليّ حاجتك. قال: هيهات هيهات رفعتها رَفَعْتُهَا إِلَى مَنْ لَا تُخْتَزَلُ الْحَوَائِجُ دُونَهُ. فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَنَعْتُ، وَمَا زَوَى عَنِّي مِنْهَا رَضِيتُ.وهذا أثرٌ حسن .من أجل ابن أبي عمر وهو محمد فإنه حسن الحديث .
وأخرج الفسوي بهذا الإسناد قَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَجَدْتُ الدُّنْيَا شَيْئَيْنِ شَيْءٌ هُوَ لي وشيء هو لغيري، فأما الّذي هو لِي فَلَوْ طَلَبْتُهُ قَبْلَ حِلِّهِ بِحِيلَةِ السَّمَوَاتِ والأرض لم أقدر عليه، وأما الّذي هو لغيري فَلَمْ أُصِبْهُ فِيمَا مَضَى وَلَا أَرْجُوهُ فِيمَا بَقِيَ، وَيُمْنَعُ رِزْقِي مِنْ غَيْرِي كَمَا يُمْنَعُ رِزْقُ غَيْرِي مِنِّي، فَفِي أَيِّ هَذَيْنِ أُفْنِي عُمْرِي!!.
وقد كان أبو حازم رحمه الله من كبار المحدثين، ومن الزهاد في الدنيا.
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ)
وهو الساعدي رضي الله عنه.
هذا الحديث قطعة من حديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ المَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟» فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، قَالَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي - قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ - فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ» فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟» قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا - عَدَّهَا - قَالَ: «أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ»  متفق عليه البخاري (5030) ومسلم (1425).
(فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا) لضيق الحال ما كانوا يهتمون بالدنيا ولا يلتفتون إليها.

- وفيه من الفوائد فضل القرآن الكريم وفضل أهله.
- وفيه جواز أن يكون مهر المرأة مقابل تعليمها. وكانت مهور الصحابة رضوان الله عليهم ميسَّرة لا مغالاة فيها مما يسهل لهم طريق الزواج والعفَّة وقد أخرج أبو دداو «سننه » (2117)عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ» . وهو في «الصحيح المسند للوادعي» (938).
أي: كلفة من المهور وغير ذلك.
- وفيه تعيين المهر عند الاتفاق على الزواج، فإن هذا أبعد عن النزاع والخصام. وأيضًا فيه مصلحة للمرأة إذا تم العقد وكان المهر قد عُيِّن فإنه إذا طلقها قبل الدخول بها لها نصف المهر قال سبحانه: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ[البقرة:236].﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً هذا دليل على جواز الطلاق قبل الدخول، ودليل على جواز عدم تعيين المهر. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَأي: إذا طلقها يعطيها متعة، شيء من الذهب أو اللباس أو غير ذلك.
﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].
في الآية أنه يلزمه إذا طلقها قبل الدخول أن يعطيها النصف. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى إن أعطاها كاملًا .هذا أقرب للتقوى.
- هذا الحديث استدل به جمهور العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، ومن أدلتهم ما في «صحيح البخاري» (5737) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ».
ومنع من ذلك جماعة من العلماء؛ لأنه جاءت أدلة في الزجر عن ذلك كقوله سبحانه: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].
وثبت في «سنن أبي داود» (830) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِينَا الْأَعْرَابِيُّ وَالْأَعْجَمِيُّ، فَقَالَ: «اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ». وهو في «الصحيح المسند للوادعي» (236).
قال ابن بطال رحمه الله في شرح صحيح البخاري(6/405): اختلف العلماء فى جواز الأجر على الرقى بكتاب الله وعلى تعليمه، فأجاز ذلك عطاء وأبو قلابة، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور، وحجتهم حديث ابن عباس وحديث أبى سعيد. وكره تعليم القرآن بالأجر الزهرى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز على تعليم القرآن أجر.اهـ.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (4/340)حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ، وَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ».وعلقه البخاري في صحيحه في تبويب حديث رقم (2276).
وهذا أثرٌ صحيح .عثمان بن الحارث أبو الرواع بفتح المهملة وتشديد الواو وآخره مهملة ثقة .
وكان الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله يقول: يجوز له أن يأخذ لكن لايشترط . ففي «صحيح البخاري» (1473،7163،7164) و«صحيح مسلم» (1045) عن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَالاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».

حديث ابن عباس الذي استدل به الجمهور«إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ».هذا الحديث في سياق الرقية، فيجوز للراقي أن يأخذ شيئًا مقابل تفرغه ولا يجحف بالمرضى والضعفاء .
أما أخذ الأجرة على تعليم القرآن فالعبادة لابد فيها من الإخلاص. لقبول العبادة شرطان الإخلاص والمتابعة ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] ومن أُعطي شيئًا فله أن يأخذ.

هذا الباب في إطلاق «شَيْء» على الله عز وجل. وظاهر ترجمة الإمام البخاري أن الله يوصف بأنه «شَيْءٌ» قال: «فَسَمَّى - أي: وصف - اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَيْئًا» وذكر بعض الأدلة ،استدل بقوله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19]. أي: الله أكبر شهادة، ولا شهادة أكبر من شهادة الله.
وبقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[القصص: 88]. وبتسمية القرآن شيئًا وهو صفة من صفات الله.
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير سورة الأنعام {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (19).
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يكذّبون ويجحدون نبوَّتك من قومك: أيُّ شيء أعظم شهادة وأكبر؟ ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة:"الله"، الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في شهادة غيره من خلقه من السهو والخطأ، والغلط والكذب. ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الأشياء شهادة، شهيدٌ بيني وبينكم، بالمحقِّ منا من المبطل، والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه، وقد رضينا به حكمًا بيننا.اهـ.
 وذهب بعضهم إلى أن هذا من باب الإخبار وليس من باب وصف الله عز وجل بذلك .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى(6/142): وَيُفَرِّقُ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ فَلَا يُدْعَى إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى؛ وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ: فَلَا يَكُونُ بِاسْمِ سَيِّئٍ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاسْمِ حَسَنٍ أَوْ بِاسْمِ لَيْسَ بِسَيِّئِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِحُسْنِهِ. مِثْلَ اسْمِ شَيْءٍ وَذَاتٍ وَمَوْجُودٍ؛ إذَا أُرِيدَ بِهِ الثَّابِتُ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ " الْمَوْجُودُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ " فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى .
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى(9/301): وَأَمَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِقَدِيمِ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا ذَاتٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقِيلَ فِي تَحْقِيقِ الْإِثْبَاتِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدِيمٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَقِيلَ لَيْسَ بِشَيْءِ فَقِيلَ بَلْ هُوَ شَيْءٌ فَهَذَا سَائِغٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُدْعَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: يَا شَيْءُ إذْ كَانَ هَذَا لَفْظًا يَعُمُّ كُلَّ مَوْجُودٍ .اهـ المراد.
وقال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد(1/161): ويجب أن تعلم هنا أمور.
أحدها: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم بنفسه فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.

وقال في مدارج السالكين (3/383) :وَكَذَلِكَ بَابُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالِاسْمِ أَوْسَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ، وَمَوْجُودٌ، وَمَذْكُورٌ، وَمَعْلُومٌ، وَمُرَادٌ، وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ.

والله أعلم .