جديد المدونة

الأربعاء، 27 يناير 2016

(10) سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ



 قال تعالى

{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} .

هذه الآية منسوخة  بما قبلها .

{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا}.
قال السيوطي رحمه الله في أبياته المنسوخ في القرآن وهي ضمن (الإتقان في علوم القرآن ) .
وَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ    وماعلى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ

قال الشنقيطي رحمه الله في شرح أبياتِ السيوطي الملحق بآخر أضواء البيان قال :
وَقَوْلُهُ: «وَمَا عَلَى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ» يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ. . . الْآيَةَ. مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الْآيَةَ.اهـ

ومن أهل العلم من يقولُ كما تقدَّم : الناسخ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ..} يراجع تفسير القرطبي سورة الأحزاب .


ودلَّتِ الآيةُ الكريمة { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ..}أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يجب عليه أن يقسم بين نسائه .

وأخرج البخاري(4788) ومسلم (1464) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقُولُ أَتَهَبُ المَرْأَةُ نَفْسَهَا؟» فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ) قُلْتُ: مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ .

قال ابنُ العربي رحمه الله في أحكام القرآن  شرح هذه الآية  (ترجي ..) قال : والْمُرَادُ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَزْوَاجِهِ إنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَ قَسَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَ الْقَسْمَ تَرَكَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ دُونَ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ . اهـ

وقد بوَّب البخاري في صحيحه في كتاب النكاح "بابُ كثرة النساء" قال الحافظ في فتح الباري (268) اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ- أي البخاري - فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ النِّسَاءِ وَأَشَارَ فِيهِ إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ جَزَمَ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّة .اهـ

وهو قول ابنِ العربي والقرطبي في تفسيريهما  وآخرين:  أنه لا يجب .

وعلى هذا كونُه لا يجب عليه العدلُ بين نسائه  لا يكون فيه إشكالٌ في الحديث الذي رواه البخاري(284) ومسلم (309)عن أنس بن مالك  أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، فِي اللَّيْلَةِ الوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ» .

أما على القول بأنه يجب على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعدل في القسم بين نسائه وهذا هو المشهورُ عند الشافعية وقول الأَكثرين كما في فتح الباري  ففيه إشكال لأنه قَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ أَقَلُّ الْقَسْمِ لَيْلَةٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ فَكَيْفَ طَافَ عَلَى الْجَمِيعِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ .

قال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري (268) يَحْتَاجُ مَنْ قَالَ بِالوجوب إِلَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ بِرِضَا صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ كَمَا اسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَوَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ يَحْصُلُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِسْمَةِ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْقِسْمَةَ وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ إِقْبَالِهِ مِنْ سَفَرٍ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا سَافَرَ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ يَخْرُجُ سَهْمُهَا فَإِذَا انْصَرَفَ اسْتَأْنَفَ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَكَذَا الثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ يَقَعُ قَبْلَ وُجُوبِ الْقِسْمَةِ ثُمَّ تَرَكَ بَعْدَهَا  . اهـ
أما برضاهن فقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم تحت الرقم المذكور : وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ بِرِضَاهُنَّ كَيْفَ كَانَ . اهـ

قلت : والصحيح أنه لا يجب على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم العدل بين نسائه وهذا من خصائصه على هذا لا إشكالَ في الحديث لأنه لا يجب عليه القسم بين نسائه .

ومع كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يجب عليه أن يقسم فقد كان يقسم بين نسائه تطوعا وتكرُّما  وصونا لنسائه من أمر الغيرة .


أخرج أبوداود (2135)من طريق عروة قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ، مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا» وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ: حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، قَالَتْ: نَقُولُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا أُرَاهُ قَالَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] .

وأينَ بعض الرجال -من هذا الخُلُقِ العظيم - الذين يتعمَّدُون غيرةَ المرأة ولا يُراعونَ شُعُورَها مع ما هي فيه من  بلوى الغيرةِ على زوجها .