بسم الله الرحمن الرحيم
مذاكرة:
نذكِّر أنفسنا وأخواتنا بالصبر والاحتساب
فبالاحتساب يحصل الأجروتُنالُ الجنة ، وقد رغب النبي
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في حضور حلقات العلم كما في صحيح مسلم (2699)عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (... وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ
اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ
مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا
نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ
، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ
بِهِ نَسَبُهُ ) .
وروى البخاري (6408) ومسلم (2689) عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ قال الحديث في فضل مجالس الذكر- والعلم النافع من جملة الذكر-وفي آخره أنَّ
اللهَ عزوجل يقول :قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا ، وَأَجَرْتُهُمْ
مِمَّا اسْتَجَارُوا . قَالَ : فَيَقُولُونَ : رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ
إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ . فَيَقُولُ : وَلَهُ غَفَرْتُ ، هُمْ الْقَوْمُ
لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ) .
هذا دليلٌ على أن حلقات العلم كفارة للذنوب
، يأتي إلى حَلقات العلم وهو يحمل الذنوب ويخرج بإذن الله وقد زالت عنه ومُحِيت، فهذا
فيه ترغيب للنفوس ، وشحذ الهمم في حضور حلقات العلم ، والصبر وقد قال الله عز وجل
:{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[السجدة:24] .
فنتواصى جميعاً بالصبر والاحتساب وبالفرح
بهذا الفضل العظيم قال الله عز وجل :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس:58] حينما يخرج من حلقة العلم
مغفوراً له قد محِيت ذنوبُه.
وعلينا بالالتزام بالسكينة والخشوع ، فحلقة
العلم من آدابها الاتصاف بهذين الأدبين وبهذين الخُلُقين.
*الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ينص
في تفسيره أنه لم يولد نبي من نسل إسماعيل إلا نبينا محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ وفي هذا يقول الله عز وجل :{ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ
غَافِلُونَ }[يس:6] .
قوماً أي العرب.
*النسب لا ينفع (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ
لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) لأن الشيعة منهم من يتكل على نسبه ، يقولون نحن من آل
البيت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيشفع لنا (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ
لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ).
وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ
خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلاءِ
يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّ أَوْلِيَائِي
مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وحَيْثُ كَانُوا. اللَّهُمَّ إِنِّي لا
أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ وايم والله لَتُكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ
دِينِهَا كَمَا تكفأن الإناء في البطحاء". والحديث صحيح .
وأدلة في القرآن أيضاً تدل أن القرب من
الأنبياء ومن أهل الفضل لا ينفع مثل : ولد نبي الله نوح عليه السلام، ومثل امرأة نوح
، وامرأة لوط حكم الله عز وجل بكفرهم وهم قريبون من الأنبياء الذين هم ذُروة الخلق
. والله أعلم.
************************
فصل ـ ولادته و رضاعه و نشأته
ولد صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين لليلتين
خلتا من ربيع الأول ، و قيل : ثامنه ، و قيل عاشره ، و قيل لثنتي عشرة منه ، وقال الزبير
بن بكار : ولد في رمضان ، و هو شاذ ، حكاه السهيلي في روضه .
و ذلك عام الفيل ، بعده بخمسين يوماً ،
و قيل بثمانية و خمسين يوماً ، و قيل بعده بعشر سنين ، و قيل : بعد الفيل بثلاثين عاماً
، وقيل : بأربعين عاماً ، و الصحيح أنه ولد عام الفيل ، و قد حكاه إبراهيم بن المنذر
الحزامي شيخ البخاري ، و خليفة بن خياط و غيرهما إجماعاً .
************************
(ولد في رمضان ، و هو شاذ)أي مخالف للصواب
فلا يُلتفتُ إليه.
(شيخ البخاري ، و خليفة بن خياط و غيرهما إجماعاً) في بعض نُسخِ
الفصول (وغيرها )بإسقاط الميم وهو خطأ .
فالضمير يعود إلى اثنين وهما الحزامي وخليفة والميم دال على التثنية
والألف للعماد .
نحن الآن في ولادة النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ ورضاعه ونشأته في صِغَرِهِ وقبلَ المبْعَث .
وهذه عدةُ مسائل
الأولى: بيان أن النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ ولد يوم الاثنين ،وهو ثابت في صحيح مسلم (1162 ) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وفيه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ:( ذَاكَ يَوْمٌ
وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ...)الحديث.
قال ابن كثير في البداية والنهاية(2/ 320): وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ
فِيهِ أَنَّهُ وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَأَبْعَدَ بَلْ أَخْطَأَ مَنْ قَالَ وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَقَلُهُ الْحَافِظُ ابْنُ دحية
فيما قرأه في كتاب أعلام الروي بأعلام الهدى لبعض الشيعة.
ثم شَرَعَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي تَضْعِيفِهِ وَهُوَ جَدِيرٌ
بِالتَّضْعِيفِ إِذْ هُوَ خِلَافُ النَّصِّ.
الثانية: أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ ولد في شهر ربيع الأول وهذا هو المشهور والصحيح عند أهل العلم.
الثالثة: أنه اختلف في كم يوم كان قد مضى
من شهر ربيع الأول قال ـ رحمه الله تعالى ـ :( لليلتين خلتا من ربيع الأول ) هذا القول
الأول (خلتا) أي : مضتا.
القول الثاني : لثمان خلين .القول الثالث:
لعشر خلين، والرابع : لثنتي عشرة خلين . فالعلماء اختلفوا في تحديد اليوم .
والذين يحتفلون بالمولد النبوي يبنون على
خيال ؛ لأنه غير مؤكَّد في تعيين اليوم عند أهل السير.
وأهل العلم على أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة
ما أنزل الله به من سلطان لما في البخاري (2550) و مسلم(1718 ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا
هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ .
وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
:( وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ) وكل
لفظ من ألفاظ العموم ، ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه الصحابة والتابعون فإنهم أهل
السبق والفضل والله أعلم.
الرابعة: بيان أن النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل، وقد ثبت في مستدرك الحاكم ـ رحمه الله ـ عن ابن عباس
ـ رضي الله عنهما ـ (أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل ).
فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كانت ولادته
في عام الفيل ، وهذه أقوال أخرى ولكنها ليست صحيحة ، ولهذا حُكي إجماعاً أن النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل.
وليس كلُ خلافٍ جاء معتبَراً
إلاَّ خِلاف له حظ من النظر
************************
و مات أبوه و هو حمل ، و قيل بعد ولادته
بأشهر ، و قيل بسنة ، و قيل بسنتين ، والمشهور الأول ، و استُرضع له في بني سعد ، فأرضعته
حليمة السعدية كما روينا ذلك بإسناد صحيح ، و أقام عندها في بني سعد نحواً من أربع
سنين ،
و شُقَّ عن فؤاده هناك ، فردتْه إلى أمه
، فخرجَت به أمه إلى المدينة تزورُ أخوالَه بالمدينة ، فتوفيت بالأبواء ، وهي راجعة
إلى مكة و له من العمر ست سنين و ثلاثة أشهر و عشرة أيام ، وقيل : بل أربع سنين ، وقد
روى مسلم في صحيحه "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما مر بالأبواء و هو ذاهب
إلى مكة عام الفتح استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له ، فبكى وأبكى من حوله و كان
معه ألف مقنَّع [ يعني بالحديد ] " .
************************
(و مات أبوه و هو حمل ) هذه مسألة
في وفاة والد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو عبدالله ، ونص الحافظ ابن
كثيرٍ هنا أن المشهور أنه توفى و النبي ـ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ـ حَمْلٌ في بطن أمه .
(فأرضعته حليمة السعدية كما رُوِّينا
ذلك بإسناد صحيح )
أمهات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
من الرضاعة
حليمة السعدية .
وثويبة ففي صحيح البخاري(5101)وصحيح
مسلم (1449) عن أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ
أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ» ، فَقُلْتُ:
نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ
لِي» . قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي
سَلَمَةَ؟ قَالَ: «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ» ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «لَوْ
أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لاَبْنَةُ
أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ
تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ».
وثويبة أرضعت حمزة أيضاً عم النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم .
(و أقام عندها في بني سعد نحواً من أربع
سنين ) أي : عند حليمة السعدية.
(و شُق عن فؤاده هناك ) شق فؤاد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو صغير ثابت في صحيح
مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ
، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ ، فَاسْتَخْرَجَ
مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي
طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ
، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ ، فَقَالُوا : إِنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ، قَالَ أَنَسٌ
: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ ".
(ثُمَّ لَأَمَهُ ) أي جمع بعضه إلى بعض
،( ظِئْرَهُ) أي مرضعته ، (مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ) أي متغير اللون ،( وَقَدْ كُنْتُ
أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ)
المخيط الإبرة، (هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ) أي لو استمر معك.
(فردته إلى أمه ) حليمة السعدية ردت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى أمه آمنة.
( فخرجت به أمه إلى المدينة تزور أخواله
بالمدينة ، فتوفيت بالأبواء ، وهي راجعة إلى مكة ) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد
المعاد (1/75) : وَلَا خِلَافَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
" بِالْأَبْوَاءِ " مُنْصَرَفَهَا مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ زِيَارَةِ أَخْوَالِهِ.
وقد ذكر الحافظ ابنُ كثير الدليلَ على ذلك .
(و له من العمر ست سنين و ثلاثة أشهر و
عشرة أيام ، وقيل : بل أربع سنين ) الله أعلم بهذا
.
************************
فلما ماتت أمه حضنته أمُّ أيمن و هي مولاته
، ورِثَها من أبيه .
************************
(فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن و هي مولاته
) أم أيمن ـ رضي الله عنها ـ اسمها بركة
الحبشية من الصحابيات الفاضلات ومن المهاجرات ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ لها بمنزلة الولد حتى إنها ربما كانت تصيح عليه وتغضب كما في صحيح مسلم (2453) عَنْ أَنَسٍ قَالَ (انْطَلَقَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ فَانْطَلَقْتُ
مَعَهُ فَنَاوَلَتْهُ إِنَاءً فِيهِ شَرَابٌ قَالَ فَلَا أَدْرِي أَصَادَفَتْهُ صَائِمًا
أَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَجَعَلَتْ تَصْخَبُ عَلَيْهِ وَتَذَمَّرُ عَلَيْهِ) .
وأما ما جاء أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ قال : (أم أيمن أمي بعد أمي ) فهذا حديث معضل رواه سليمان بن أبي شيخ معضلاً
.
وضعف الحديثَ العلامة الألباني رحمه الله في الضعيفة(7059)
.
أم أيمن بقيت بعد وفاة النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ فقد ثبت في صحيح مسلم (2454) عَنْ
أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ :
" انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ ، نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ
، فَقَالَا لَهَا : مَا يُبْكِيكِ ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ
مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ
أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى
الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا " (فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ)
أي حملتهما على البكاء .
وفيه البكاء على فراق الخير وفراق الصالحين والحزن
لذلك.
وقد جاء في صحيح مسلم قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : (...ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ
مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ
). ولكن ظاهره الإرسال فابن شهاب لم يدرك ذلك الزمن والله تعالى أعلم .
حواضن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أمه آمنة فهي تُعدُّ من حواضنه ، وأمُّ أيمن ،وحليمة
السعدية، وثويبة، وجدامة الشيماء
فإنها كانت تساعد أمها حليمة في حضانته،
راجعي زاد المعاد (1/ 82 )والله تعالى أعلم .
أشهر حواضن النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ أم أيمن ـ رضي الله عنها - بعد أمِّه .
(وهي مولاته ) الولاء هنا بمعنى ولاء عِتق .
والموالي على ثلاثة أقسام :
الأول : مولى عتق . مملوك يُعتَق،هذا المملوك يكون مولى لمن أعتقه
.
يُقال فلان القرشي مولاهم،فلانٌ الطائي
مولاهم، الجهني مولاهم، فلانٌ الدمشقي مولاهم ،مولى فلان ،نسبة ولاء عتاقة ، أي أنه ليس من صلبهم ولكنه
كان عبداً فأعتقه قريش أو الطائيون وهكذا .
الثاني: مولى إسلام وهو أن يسلم على يد
شخص فيكون مولى للذي أسلم على يديه .
ومن أمثلته الإمام البخاري ـ رحمه الله
تعالى ـ يقال عنه مولى الجُعْفيين يقولون بعض أجداده أسلم على يد بعض الجُعفيين .
فمثلاً: نصرانيٌّ أسلم على يد شيخ فهذا الذي كان
نصرانياً يكون مولى لهذا الشيخ .
ومولى إسلام: يكون من حيث المعرفة والمِنَّة ولا
يترتب عليه أحكام .
الثالث: مولى حلف .ومن
أمثلته الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي ويُقال له مولى التيميين ،وهو حميري أصبحي صليبةً،
ولكن كان جده مالك بن أبي عامر حليفاً لهم كما في مختصر علوم الحديث .
الحِلْف : التعاقد على التناصر والتعاون
والأخوَّة ، وكان هذا مما يتعاقد عليه أهل الجاهلية فأبطل الإسلام الباطل منه ، وأقر
الحق والعدل الذي فيه كما قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ (لا حِلْفَ فِي
الإِسْلامِ , وَأَيُّمَا حَلِفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ
إِلا شِدَّةً ).
وللحِلْف أسباب منها ضعف الشخص فيحالف
قبيلة للتعاون معه .
هذه ثلاثة يذكرها أهل العلم.
و الأغلب في الموالي، كما يقول أهل الحديث أنه إذا قيل مولى يقصد به مولى
عتق غالباً.
وكما أن هذ هو الغالب فأيضاً
في مقدمة ابن الصلاح 400 يقول: وَأَهَمُّ
ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْمَوَالِي الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْقَبَائِلِ بِوَصْفِ
الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى قَبِيلَةٍ - كَمَا إِذَا
قِيلَ: " فُلَانٌ الْقُرَشِيُّ " أَنَّهُ مِنْهُمْ صَلِيبَةً، فَإِذًاً
بَيَانُ مَنْ قِيلَ فِيهِ " قُرَشِيٌّ " مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ مَوْلًى
لَهُمْ مُهِمٌّ اهـ.
فقد يُتوهم أنه منهم صليبة إذا قيل فلانٌ القرشي يتبادر إلى الذهن أنه
قرشي من أولاد قريش لأن هذا هو الأصل فإذا قيل : القرشي مولاهم حصل التمييز وزال
الالتباس.
ولأهمية معرفة الموالي فأهل المصطلح يعقدون له باباً في كتبهم .
وكما أنه قد يُطلق مولى على الأسفل يقال مولى القرشيين .
كذلك قد يطلق على الأعلى وهو السيد يقال: فلانٌ مولى فلان ، أي فلان سيد فلان .
فهو يُطلق على المعتِق وعلى المعتَق .
(ورثها من أبيه) هوعبدالله .
هكذا ذكروا أنه ورثها من أبيه ، ولما كبر أعتقها وزوَّجها زيدَ بن حارثة
ـ رضي الله عنه ـ فأم أيمن ـ رضي الله عنها ـ أم أسامة بن زيد بن حارثة ـ رضي الله
عنهما ـ حِب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وابن حِبه.
**************************
وكفله جدُّه عبد المطلب فلما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم من العمر
ثماني سنين توفي جده ، وأوصى به إلى عمه أبي طالب ، لأنه كان شقيقَ عبدالله فكفله ،
وحاطه أتم حياطة ، ونصره حين بعثه الله أعزَّ نصر ، مع أنه كان مستمراً على شركه إلى
أن مات ، فخفَّف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك .
*************************
(وأوصى به إلى عمه أبي طالب) أبوطالب المشهور في اسمه أنه عبد مناف .
فجده عبدالمطلب كفله بعد موت أبيه ثم كفله عمه أبوطالب .
(لأنه كان شقيقَ عبدالله) أخ لأبيه وأمه .
(وحاطه أتم حياطة ، ونصره حين بعثه الله
أعز نصر ، مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات ، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح
الحديث بذلك ) . يشير إلى ما أخرجه البخاري(3883)ومسلم
(209) عن العباس بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ
لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ
الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ». ».
الهداية بيد الله ، هذا أبو طالب كان محباً
للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ غايةَ المحبة وشفيقاً عليه، ولم ينفعه القرب
من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولا قربه من الخير والوحي ، مات على شركه
.
ومن الحِكم التي ذكروها في عدم إسلام
أبي طالب أن أبا طالب لو أسلم لما كان للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حصانة
وحماية ، وقد كان أبو طالب مُبجَّلاً في قومه ولو أسلم لزال ذلك .والله أعلم .
استفدنا أن الهداية بيد الله نسأل الله
أن يهدينا ويهدي أولادنا لكل خير .
النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
يدعو أبا طالب حينما كان محتضراً أخرج البخاري(3884) عن ابْنِ المُسَيِّبِ وهوسعيد،
عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ:«أَيْ عَمِّ، قُلْ
لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» في أشد الشفقة
على عمه أبي طالب .وفيه نزل قوله تعالى {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:
56].
ومن شدة شفقة النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ قال: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ» فَنَزَلَتْ الآية
في النهي عن الاستغفار للمشركين {مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا
أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ}
[التوبة: 113] .
إذن لا يلتفت إلى من يقول بإسلام أبي طالب
فلنكن على بصيرة ونور .
************************
و خرج به عمُّه إلى الشام في تجارةٍ و هو ابنُ ثنتي
عشرة سنةً ، و ذلك من تمام لطفِه به ، لعدم من يقومُ إذا تركه بمكة ، فرأى هو وأصحابُه
ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه صلى الله عليه و سلم ما زاد عمه في الوصاة به
والحرص عليه ، كما رواه الترمذي في جامعه
بإسناد رجاله كلهم ثقات ، من تظليل الغمامة له و ميل الشجرة بظلها عليه ،و تبشير بحيرا
الراهب به ، و أمْرُه لعمه بالرجوع به لئلا يراه اليهودُ فيرمونه سوءاً ، والحديث له
أصل محفوظ و فيه زيادات أخر .
************************
(و خرج به عمه) عمه أبو طالب .
(و ذلك من تمام لطفه به ) أي لطف أبي طالب (به) أي بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ
(كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله
كلهم ثقات)الحديث عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله
عنه ـ في سنن الترمذي (3620) وفيه أنهم كانوا من مَرَّ ببحيرا الراهب وهو نصراني ما
كان يلتفت إلى من يمر به، فلما خرجوا مرة ومعهم النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ، ونزلوا بجور بحيرا الراهب جاء إليهم ، وجعل ينظر إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ قَالَ:( هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فشهد للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ بالنبوة.
ومن الآيات التي شاهدوها تظليل الغمام على النبي
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو يمشي وإذا جلس مالت الشجرة بظلها والحديث في الصحيح
المسند من دلائل النبوة للوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ وصححه الشيخ الألباني
ـ رحمه الله تعالى ـ إلا أنه فيه بعض الزيادات فيها كلام ، وإليها يشير ابن كثيرـ رحمه
الله ـ بقوله (و فيه زيادات أخر).
وذلك أنه في آخر الحديث أن أبا بكر ـ رضي
الله عنه ـ بعث مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بلالا. وبلال لم يكن قد اشتراه
أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ ، وهذه الزيادة منكرة تكلم عليها أهل العلم ومنهم ابن حجر
.
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة ترجمة
بحيرا :سبب نكارتها أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأهّلا، ولا اشترى يومئذ بلالا.
إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة مقتطعة من حديث آخر أدرجت في هذا الحديث
وفي الجملة هي وهم من أحد رواته.
وأما الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه في
سير أعلام النبلاء(1/ 58)ضعَّف الحديث من أصله وقال في بداية كلامه : وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟
كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف؛ وأين
كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد ...
والله تعالى أعلم.
(بحيرا الراهب) كان نصرانياً وكان يعرفُ
من كتبهم أن هناك نبياً سيبعث ففي حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ ما يدل على أنه كان
مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال الحافظ في الإصابة : بحيرا الراهب
ذكره ابن مندة، وتبعه أبو نعيم (واسم كتابيهما معرفة الصحابة)، وقصته
معروفة في المغازي، وما أدري أدرك البعثة أم لا؟ اهـ.
وهل تثبتُ صُحبته لكونه كان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم قبل بِعْثَتِهِ؟.
الحافظ يقول في مقدمة الإصابة في تعريف الصحابي : وأصحّ ما
وقفت عليه: أن الصحابي من لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به، ومات على
الإسلام .
ثم ذكر فوائد قيود هذا التعريف .
ثم قال : وقولنا:
«به» يخرج من لقيه مؤمنا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة. وهل
يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل؟ محلّ احتمال. ومن هؤلاء بحيرا
الراهب ونظراؤه.
وجزم الحافظ في ترجمة بَحِيرا الراهب أنه لقي النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم قبل أن يُبعث .
ولا يرِدُ ذِكرُ الحافظ ابن حجر ـ رحمه
الله تعالى ـ له في كتابه( الإصابة في معرفة الصحابة ) وهو ليس بصحابي لأنه ذكر أربعة
أقسام في كتابه الإصابة كما نصَّ عليه في المقدمة:
القسم الأول: الصحابة الذين جاء ما يدل
على صحبتهم .
القسم الثاني : صغار الصحابة ممن مات صلّى اللَّه عليه وسلم وهو في
دون سن التمييز .
قال : أحاديث
هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين من أهل العلم بالحديث، ولذلك أفردتهم عن
أهل القسم الأول .
القسم الثالث :المخضرمون .
قال :وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم
اجتمعوا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا،
وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق من أهل العلم بالحديث.
القسم الرابع: فيمن ذكر في الكتب المذكورة على سبيل الوَهَم والغلَط .
****************************
ثم خرج ثانياً إلى الشام في تجارة لخديجة
بنت خويلد رضي الله تعالى عنها مع غلامها ميسرة على سبيل القِرَاض ، فرأى ميسرةُ ما
بهرَه من شأنه ، فرجع فأخبر سيدتَه بما رأى ، فرغبت إليه أن يتزوجها ، لِمَا رجت في
ذلك من الخير الذي جمعه الله لها ، و فوق ما يخطر ببال بشر ، فتزوجها رسول الله صلى
الله عليه و سلم و له خمس وعشرون سنة .
*****************************
(سيدته) خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ
وهذه رحلة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ إلى الشام. الرحلة الأولى كانت مع عمه أبي طالب ، والرحلة الثانية خرج متاجراً
في مال خديجة ـ رضي الله عنها ـ .
فإن خديجة ـ رضي الله عنها ـ كانت ثرية
وتستأجر من يعمل لها في مالها. وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يعمل لها
في مالها على سبيل القِراض.
القِراض: أن يدفع رجلٌ المال إلى رجل
آخر يعمل فيه على نسبة معينة إما الربع ، أو الثلث ، أو النصف وما أشبه ذلك. والقراض
يقال له المضاربة في كتب الفقه.
قال النووي في (تحرير ألفاظ التنبيه) :الْقِراض بكسرالْقَاف
مُشْتَقّ من الْقَرْض وَهُوَ الْقطع سمي بذلك لِأَن الْمَالِك قطع لِلْعَامِلِ
قِطْعَة من مَاله يتَصَرَّف فِيهَا وَقطعَة من الرِّبْح وَسمي الْقَرَاض
مُضَارَبَة لِأَن الْعَامِل يضْرب فِي الأَرْض للاتجار يُقَال ضرب فِي الأَرْض أَي
سَافر قَالَ الْأَزْهَرِي أهل الْحجاز يسمونه قراضا وَالْعراق مُضَارَبَة .
(ميسرة) غلام خديجة ـ رضي الله عنها ـ وكان مرافقاً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ في التجارة.
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ
في الإصابة (لم أرَ رواية صريحة بأنه بقي للبعثة فكتبته على الاحتمال) .
(فرغبتْ إليه أن يتزوجها ، لِما رجتْ في
ذلك من الخير الذي جمعه الله لها ، و فوق ما يخطر ببال بشر ، فتزوَّجها رسول الله صلى
الله عليه و سلم و له خمس وعشرون سنة ) .
وكانت خديجة ـ رضي الله عنها ـ في سن الأربعين ،
والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ابن خمس وعشرين ، فهي أكبر منه بخمسة عشر عاماً.
وفي هذا دليل على أنه لا يلزم التكافؤ في السن.
وتزوج النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ بعائشة ـ رضي الله عنها ـ وهو فوق الأربعين ، وعقد عليها وهي ابنة ست ، وبنى عليها
وهي ابنة تسع سنين .
ولا بأس بمراعاة المكافأة في السن وذلك
لما رواه النسائي ـ رحمه الله تعالى ـ (3221 ) عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن أبا بكر
وعمر ـ رضي الله عنهما ـ خطبا فاطمة ـ رضي
الله عنها ـ فقال إنها صغيرة ثم خطبها على ـ رضي الله عنه ـ فتزوجها. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فَاطِمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إِنَّهَا صَغِيرَةٌ فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ.
وقصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ تدل على عرض
المرأة نفسها على الرجل الصالح.
وقد ثبت في صحيح البخاري (5120) من طريق
ثابتٍ البُناني عن أنس بن مالك جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ
بِي حَاجَةٌ، فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَا سَوْأَتَاهْ وَا
سَوْأَتَاهْ ، قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا .
(وَا سَوْأَتَاهْ ) السوأة: الفضيحة.
فللمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح
، ولكن لابُدَّ من الحكْمة ومراعاة للأولياء.
وفي الكلام هنا أن سبب رغبة خديجة ـ رضي
الله عنها ـ أم المؤمنين في الزواج من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما رأت
من أخلاقه الحميدة، في الأمانة ، والصدق ، والنصح ، ولهذا عرضت الزواج على النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
ولم يتزوج عليها إكراماً لها حتى ماتت رضي الله عنها .
وقد كانت نعم العون للنبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ بعد زواجه بها فحينما نزل عليه الوحي كما في صحيح البخاري (2) وصحيح
مسلم(160) في نزول الوحي (فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ
فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ
خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ
وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى
نَوَائِبِ الْحَقِّ) الحديث
وهذا من صفات المرأة الصالحة أنها تكون
معينة لزوجها، ومؤانسة له، ومسلِّية عليه . والله أعلم.
************************
و كان الله سبحانه قد صانه و حماه من صِغره
، و طهَّره من دنَس الجاهلية و من كل عيب ، و منحَه كل خلق جميل حتى لم يكن يُعرَفُ
بين قومه إلا بالأمين ، لِمَا شاهدوا من طهارته و صدقِ حديثه و أمانتِه ، حتى إنَّه
لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس و ثلاثين من عمره فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا
فيمن يضع الحجر موضعه ، فقالت كل قبيلة : نحن نضعها ، ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل
عليهم ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : جاء الأمين ، فرضوا به ، فأمر
بثوب ، فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ، ثم أخذا
الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم .
************************
(إشتجروا) أي تخاصموا.
(وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب
الثوب ) من أجل أن يكون الجميع حمله (كل قبيلة) المراد به هنا بعض أي من كل قبيلة يقوم
بعضهم يحمله.
الحديث هو في مسند أحمد (24/ 262)من طريق مُجَاهِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ وهو السائب بن عبد الله أَنَّهُ
حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟
قَالَ: وَلِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدَيَّ أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَأَجِيءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ الَّذِي أَنْفَسُهُ عَلَى
نَفْسِي، فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ
فَيَبُولُ فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ، وَمَا يَرَى
الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ
يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ، وَجْهُ الرَّجُلِ فَقَالَ: بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ
نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ: آخَرُونَ نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالُوا: اجْعَلُوا
بَيْنَكُمْ حَكَمًا، قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ،
فَقَالُوا لَهُ، " فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ
فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" .
وذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى
ـ في صحيح السيرة 45 .
الشاهد من ذكْرِه أن النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ كان في حماية وصيانة من صغره عن خصال الجاهلية ، وصفاتهم الرذيلة ،
وأفعالهم المنكرة ، كعبادة الأصنام وشرب الخمر، والزنى ، والأخلاق الذميمة، مثل: نهب
الأموال ، والسرقة ، والكذب ، وقد كانت هذه منتشرة في الجاهلية ، وصان الله سبحانه
نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن ذلك ، حتى إنهم كانوا يلقبون النبي ـ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالصادق الأمين ، ولما نادى قريشاً فجاءوا فقال لو أخبرتكم
بشيء أكنتم مصدقي، فقالوا : ما جربنا عليك كذبا ) شهدوا له بالصدق ، فقال : فَإِنِّي
نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ
سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ
وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}. أخرجه البخاري(4770) ومسلم (208)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
ومن صيانة الله له ما أخرج البخاري(364 ) ومسلم (340) عن جابر بن
عبدالله رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ
لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ» ، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ
أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الحِجَارَةِ،
قَالَ: «فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ،
فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث :وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
بَيَانُ بَعْضِ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَصُونًا مَحْمِيًّا فِي صِغَرِهِ عَنِ
الْقَبَائِحِ وَأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وأما ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:7]
فهذا ليس من الضلال الذي هو ضد الهدى ، وهكذا قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:7] ولكن المراد أنه كان غافلاً عن تفاصيل الحق والهدى ،
كما يقول المفسرون والله تعالى أعلم.
وهذه القصة المذكورة في بناء قريش الكعبة
، فإنها كانت هُدمت هدمها السيل فقاموا وبنوها ، ولكنهم لما وصلوا إلى حمل الحجر الأسود
اختلفوا حتى كادوا أن يقتتلوا من يحمله ، فقال واحد منهم : نحكِّم أوَّل داخل فإذا
بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، وحكَم بهذا ، وانتهوا وانقطع الخلاف
الذي كان قد حصل بينهم.
نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد.