أنواع شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم:
-الشفاعة العظمى قال ابن كثير: (فَأَعلَاهَا وَأَعظَمُهَا وَأَوسَعُهَا)، وهو المقام المحمود. فعن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعطِيتُ خَمسًا لَم يُعطَهُنَّ أَحَدٌ قَبلِي: نُصِرتُ بِالرُّعبِ مَسِيرَةَ شَهرٍ، وَجُعِلَت لِي الأَرضُ مَسجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِن أُمَّتِي أَدرَكَتهُ الصَّلاَةُ فَليُصَلِّ، وَأُحِلَّت لِي المَغَانِمُ وَلَم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبلِي، وَأُعطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النبي يُبعَثُ إِلَى قَومِهِ خَاصَّةً وَبُعِثتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» رواه البخاري (335)، ومسلم (521).
-المقام الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام من أمته قد أمر بهم أن يدخلوا النار، فيشفع لهم ألَّا يدخلوها.
-المقام الثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم. وهؤلاء هم أصحاب الأعراف المذكورون في قوله تعالى: ﴿ وَبَينَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعرَافِ رِجَالٌ يَعرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُم وَنَادَوا أَصحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيكُم لَم يَدخُلُوهَا وَهُم يَطمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَت أَبصَارُهُم تِلقَاءَ أَصحَابِ النَّارِ قالوا رَبَّنَا لَا تَجعَلنَا مَعَ القَومِ الظَّالِمِينَ (47) ﴾ [الأعراف:46-47].
وأصحاب الأعراف عند جمهور المفسِّرين: أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم.
والأَعرَافُ: قال ابنُ عباس وَغَيرُهُ: سُورٌ بين الجنة والنار. ذكره الحافظ ابن كثير في «الفتن والملاحم»(2/250).
-المقام الرابع: الشفاعة في خروج أهل الكبائر من الموحدين من النار. والدليل ما رواه البخاري(6566) عن عِمرَانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَخرُجُ قَومٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَدخُلُونَ الجَنَّةَ، يُسَمَّونَ الجَهَنَّمِيِّينَ».
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خُيِّرتُ بَينَ الشَّفَاعَةِ، وَبَينَ أَن يَدخُلَ نِصفُ أُمَّتِي الجَنَّةَ، فَاختَرتُ الشَّفَاعَةَ، لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكفَى، أَتُرَونَهَا لِلمُتَّقِينَ؟ لَا، وَلَكِنَّهَا لِلمُذنِبِينَ، الخَطَّائِينَ المُتَلَوِّثِينَ» رواه ابن ماجه(4311)عَن أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ، وهو في «الصحيح المسند» (822) لوالدي رَحِمَهُ الله.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «شَفَاعَتِي لِأَهلِ الكَبَائِرِ مِن أُمَّتِي» رواه أبو داود(4739)، وأحمد (20/439) عَن أنس بن مالك.
-المقام الخامس: شفاعته صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بعدما يجوزون الصراط في دخول الجنة. وهذا يدل له حديث أنس: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الجَنَّةِ»، وقد ذكر هذه المسألة والدي رَحِمَهُ اللهُ في «الشفاعة»، وذكر لها فصلًا، فقال: فصل في شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمته في دخول الجنة وكونه أول شفيع. اهـ. ثم ذكر بعض الأحاديث منها حديث أنس المذكور.
وروى مسلم (197) عَن أنس بن مالك، قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «آتِي بَابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيَامَةِ فَأَستفتِحُ، فَيَقُولُ الخَازِنُ: مَن أَنتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرتُ لَا أَفتَحُ لِأَحَدٍ قَبلَكَ».
-المقام السادس: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفعة درجات بعض المؤمنين في الجنة.
-وهناك بعض أنواع الشفاعات الأخرى:
كشفاعته صلى الله عليه وسلم لأقوام يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، ومن أدلته:
عَنِ ابنِ عباس، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا قال: خَرَجَ عَلَينَا النبي صلى الله عليه وسلم يَومًا فَقال: «عُرِضَت عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النبي مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنبي مَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَالنبي مَعَهُ الرَّهطُ، وَالنبي لَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَرَأَيتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرَجَوتُ أَن تَكُونَ أُمَّتِي، فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى وَقَومُهُ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انظُر، فَرَأَيتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَقِيلَ لِي: انظُر هَكَذَا وَهَكَذَا، فَرَأَيتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَقِيلَ: هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلاَءِ سَبعُونَ أَلفًا يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ» فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَم يُبَيَّن لَهُم، فَتَذَاكَرَ أَصحَابُ النبي صلى الله عليه وسلم فَقالوا: أَمَّا نَحنُ فَوُلِدنَا فِي الشِّركِ، وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِن هَؤُلاَءِ هُم أَبنَاؤُنَا، فَبَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقال: «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَستَرقُونَ، وَلاَ يَكتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ» فَقَامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحصَنٍ فَقال: أَمِنهُم أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «نَعَم» فَقَامَ آخَرُ فَقال: أَمِنهُم أَنَا؟ فَقال: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ» رواه البخاري (5752)، ومسلم (216).
-شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، والحديث في «صحيح البخاري» (3883) عن العباس بن عَبدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَغنَيتَ عَن عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغضَبُ لَكَ؟ قال: «هُوَ فِي ضَحضَاحٍ مِن نَارٍ، وَلَولاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ».
وقد أجاب القاضي عياض عن آيات نفي الشفاعة للكفار مع هذا الحديث كما نقله عنه الحافظ ابن كثير رَحِمَهُما الله في «الفتن والملاحم»(2/208) وذكر أن المراد لَا تَنفَعُهُ فِي الخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، كَمَا تَنفَعُ عُصَاةَ المُوَحِّدِينَ، الَّذِينَ يَخرُجُونَ مِنهَا، وَيَدخُلُونَ الجنة.
وأما والدي رَحِمَهُ الله فذكر في «الشفاعة»(20) أنه يستثنى من المشركين أبوطالب؛ فإن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يشفع له حتى يصير في ضحضاح من نار.
هذه أنواع شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها من الخصائص كالشفاعة العظمى، وبعضها ليست من الخصائص.
وينبغي لكل مسلم أن يحرص على أسباب نيل الشفاعة، وأعظم الأسباب: التوحيد، كما في حديث أبي هريرة: مَن أَسعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَومَ القِيَامَةِ؟ قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَد ظَنَنتُ يَا أَبَا هُرَيرَةَ أَن لاَ يَسأَلُنِي عَن هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنكَ لِمَا رَأَيتُ مِن حِرصِكَ عَلَى الحَدِيثِ أَسعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَومَ القِيَامَةِ، مَن قال لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِن قَلبِهِ، أَو نَفسِهِ» رواه البخاري (99).
وقد ذكر والدي رَحِمَهُ اللهُ في كتابه «الشفاعة» أنواعًا أخرى، فيُراجع.
وقد أنكر بعضهم دعاء: «اللهم ارزقنا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال: إنما يشفع لمن استوجب النار، وهذا ذكره الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ في «الأذكار» وردَّه وأنكره.
وهذا آخر اختصارات درس «الفصول»، ولله الحمد والمنة.