من اهتمام السلف بتعليم أولادهم
ألف العراقي رَحِمَهُ اللهُ أحاديث جمعها من السلسلة التي يقال عنها: أصح الأسانيد؛ ليحفظها ولده أبو زرعة، واسم الكتاب «تقريب الأسانيد».
وقد ذكر ذلكَ في مقدمة هذا الكتاب «تقريب الأسانيد وَتَرْتِيبِ الْمَسَانِيدِ» (1/16)، وقال: فَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَ لِابْنِي أَبِي زُرْعَةَ مُخْتَصَرًا فِي أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، يَكُونُ مُتَّصِلَ الْأَسَانِيدِ بِالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ فَإِنَّهُ يَقْبُحُ بِطَالِبِ الْحَدِيثِ، بَلْ بِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَحْفَظَ بِإِسْنَادِهِ عِدَّةً مِنْ الْأَخْبَارِ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهَا عَنْ حَمْلِ الْأَسْفَارِ فِي الْأَسْفَارِ، وَعَنْ مُرَاجَعَةِ الْأُصُولِ عِنْدَ الْمُذَاكَرَةِ وَالِاسْتِحْضَارِ، وَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ الْحَرَجِ بِنَقْلِ مَا لَيْسَتْ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الدِّرَايَةِ.
وَلَمَّا رَأَيْت صُعُوبَةَ حِفْظِ الْأَسَانِيدِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ؛ لِطُولِهَا، وَكَانَ قِصَرُ أَسَانِيدِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَسِيلَةً لِتَسْهِيلِهَا، رَأَيْت أَنْ أَجْمَعَ أَحَادِيثَ عَدِيدَةً فِي تَرَاجِمَ مَحْصُورَةٍ.
وَتَكُونَ تِلْكَ التَّرَاجِمُ فِيمَا عُدَّ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ مَذْكُورَةً، إمَّا مُطْلَقًا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَمَّمَهُ، أَوْ مُقَيَّدًا بِصَحَابِيِّ تِلْكَ التَّرْجَمَةِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي أُوْرِدُهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ، هُوَ لِمَنْ ذُكِرَ الْإِسْنَادُ إلَيْهِ مِنْ «الْمُوَطَّإِ» وَ «مُسْنَدِ أَحْمَدَ»، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» لَمْ أَعْزُهُ لِأَحَدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةَ كَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا اقْتَصَرْت عَلَى عَزْوِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْ «الصَّحِيحَيْنِ» عَزَوْته إلَى مَنْ خَرَّجَهُ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ الْتَزَمَ الصِّحَّةَ كَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ...الخ.
ثم قام رَحِمَهُ الله بشرحه؛ تلبيةً لطلب بعض أصحابه، فشرحه غير أنه لم يكمل شرحه، وأكمله ولده أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين، وهو ألَّف هذا؛ من أجل أن يحفظه ولده، وهذا فيه الاهتمام بتعليم الأولاد، واسم الشرح «طرح التثريب في شرح التقريب».
وقد ذكر ذلك العراقي في« طرح التثريب في شرح تقريب الأسانيد» (1/14)، وقال: فَلَمَّا أَكْمَلْت كِتَابِي الْمُسَمَّى بِـ «تَقْرِيبِ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبِ الْمَسَانِيدِ»، وَحَفِظَهُ ابْنِي أَبُو زُرْعَةَ الْمُؤَلَّفُ لَهُ، وَطَلَبَ حَمْلَهُ عَنِّي جَمَاعَةٌ مِنْ الطَّلَبَةِ الْحَمَلَةِ، سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابَةِ شَرْحٍ لَهُ؛ يُسَهِّلُ مَا عَسَاهُ يَصْعُبُ عَلَى مَوْضُوعِ الْكِتَابِ، وَيَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِيجَازِ وَالْإِسْهَابِ، فَتَعَلَّلْتُ بِقُصُورٍ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ عَنْ ذَلِكَ، وَبِقِلَّةِ الْكُتُبِ الْمُعِينَةِ عَلَى مَا هُنَالِكَ، ثُمَّ رَأَيْت أَنَّ الْمُسَارَعَةَ إلَى الْخَيْرِ أَوْلَى وَأَجَلُّ، وَتَلَوْت ﴿فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ [البقرة: 265]، وَلِمَا ذَكَرْته مِنْ قِصَرِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْوَانِ، سَمَّيْته «طَرْحَ التَّثْرِيبِ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ»، فَلْيَبْسُطْ النَّاظِرُ فِيهِ عُذْرًا، وَلِيَقْتَنِصْ عَرُوسَ فَوَائِدِهِ عُذْرًا، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي إكْمَالِهِ وَإِتْمَامِهِ وَحُصُولِ النَّفْعِ بِهِ وَدَوَامِهِ، إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ.
ويا له من ابنٍ بارٍّ جادٍّ في طلب العلم؛ فلم يتجاهل أبو زرعة ما كتبه أبوه من أجله، بل بادر إلى حفظه، فجمع بين البِرِّ بأبيه، والتزود من العلم النافع، ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)﴾[طه].
فسبحان من يختص برحمته وفضلِهِ وإحسانه من يشاء!