جديد المدونة

جديد الرسائل

الاثنين، 31 يناير 2022

(40)اختصار دروس شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري

 من كلام الله سبحانه لأهل الجنة

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ»، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ. رواه البخاري.

«الطَّرْفَ» قال الحافظ رَحِمَهُ اللهُ تحت رقم (2348) من «فتح الباري»: امْتِدَادُ لَحْظِ الْإِنْسَانِ إِلَى أَقْصَى مَا يَرَاهُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى حَرَكَةِ جَفْنِ الْعَيْنِ، وَكَأَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا. اهـ.

وهذا فيه: بيان قدرة الله، ففي طرفة عين حصل بذر النبات، وإنباته في الوقت نفسه وحصاده، والله على كل شيء قدير.

«وَتَكْوِيرُهُ» قال الحافظ رَحِمَهُ اللهُ تحت رقم (2348):أَيْ: جَمْعُهُ، وَأَصْلُ الْكُورِ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَمَّا بَذَرَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الزَّرْعِ وَنَجَازِ أَمْرِهِ كُلِّهِ مِنَ الْقَلْعِ وَالْحَصْدِ وَالتَّذْرِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّكْوِيمِ إِلَّا قَدْرَ لَمْحَةِ الْبَصَرِ.

«لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ» قال ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ: وَاسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ: «لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صفة الْجنَّة: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)[طهوَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْيَ الشِّبَعِ لَا يُوجِبُ الْجُوعَ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً وَهِيَ الْكِفَايَةُ، وَأَكْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلتَّنَعُّمِ وَالِاسْتِلْذَاذِ لَا عَنِ الْجُوعِ.

 وَاخْتُلِفَ فِي الشِّبَعِ فِيهَا، وَالصَّوَابُ: أَنْ لَا شِبَعَ فِيهَا؛ إِذْ لَوْ كَانَ لَمَنَعَ دَوَامَ أَكْلِ الْمُسْتَلَذِّ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ» جِنْسُ الْآدَمِيِّ وَمَا طُبِعَ عَلَيْهِ، فَهُوَ فِي طَلَبِ الِازْدِيَادِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

مسألة: أهل الجنة يأكلون ويشربون ويتلذذون بذلك، هذا الذي دلَّتْ عليه الأدلة، وأما اليهود والنصارى فإنهم ينكرونه، كما روى الإمام أحمد (2/19) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ؟ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنْ أَقَرَّ لِي بِهَذِهِ خَصَمْتُهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ». قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ، فَإِذَا الْبَطْنُ قَدْ ضَمُرَ».

قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى»(4/313): الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الْجَنَّةِ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.الخ.

 

 ولكن أكل أهل الجنة وشربهم لا عن جوع، ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)[طه].

مسألة: أهل الجنة لا يشبعون، وليس معناه أنهم يجوعون، وعلَّل لهذا ابن حجر رَحِمَهُ اللهُ أنهم لو كانوا يشبعون لمنع دوام أكل المستلذ، فلو شبعوا لما بقي مجالٌ للأكل في بطونهم. وهذا من نعيم أهل الجنة، بخلاف  الحال في الدنيا قد ثبت الحث على التقليل من الأكل، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».

من فوائد هذا الحديث:

-أن الجنة فيها زراعة، فمن اشتهى أن يزرع زرع.

وذكر الحافظ رَحِمَهُ اللهُ استنباطات لهذا الحديث (2342وقال: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ:

- أَنَّ كُلَّ مَا اشْتُهِيَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مُمْكِنٌ فِيهَا، قَالَهُ الْمُهَلَّبُ.

-وَفِيهِ وَصْفُ النَّاسِ بِغَالِبِ عَادَاتِهِمْ، قَالَهُ ابن بَطَّالٍ.

-وَفِيهِ أَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الدُّنْيَا.

-وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِ الْقَنَاعَةِ وذم الشره.

-وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ الْآتِي بِلَفْظِ الْمَاضِي. اهـ.

وقول الحافظ رَحِمَهُ الله: (أَنَّ كُلَّ مَا اشْتُهِيَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مُمْكِنٌ فِيهَا) فإذا اشتهى أن يزرع زرع كما في هذا الحديث، وإذا اشتهى أن يصلي صلى، وإذا اشتهى أن يطلب العلم فعل، أو يدعو الله  دعا، ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)[فصلت: 31].