بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الحج (22) : الآيات 46]
﴿ أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِها أَو آذانٌ يَسمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعمَى الأَبصارُ وَلكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾
﴿أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ﴾ أَي: بِأَبدَانِهِم وَبِفِكرِهِم قاله ابن كثير.
﴿فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِها أَو آذانٌ يَسمَعُونَ بِها﴾ أَي: فَيَعتَبِرُونَ بِهَا.
﴿فَإِنَّها لَا تَعمَى الأَبصارُ وَلكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ أَي: لَيسَ العَمَى عَمَى البَصَرِ، وَإِنَّمَا العَمَى عَمَى القلب.
من فوائد هذه الآية:
-الحث على التفكر والاعتبار بمن مضى من الأمم الذين أهلكهم الله، فإن الاعتبار عظة للقلوب.
-وفيه دليل على أن العقل في القلب، كما أن السمع في الأذن، وهذا قول جمهور أهل العلم.
وهناك مناقشة طويلة بين الشيخ الألباني رحمه الله وبعض الدكاترة، فقد كان يقول: ( العقل في الدماغ)، فرد عليه الشيخ الألباني وناقشه.
وكان يذكر لنا والدي الشيخ مقبل رحمه الله: أن من قال: العقل في الدماغ يستدل بأنه إذا وقعت ضربة في الدماغ يختل العقل، ثم قال رحمه الله: لا مانع أن يكون هناك اتصال بين العقل والدماغ، أما العقل فمحله القلب.
-وفيه أن العمى الحقيقي عمى القلب، فالقلب يعمى ويبصر، وإذا عمي القلب عمي البصر، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، قال الله: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) ﴾[الإسراء:72]، ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ﴾ أي : في الدنيا. أي : أعمى القلب، ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ فأشد العمى عمى القلب، أشد من عمى البصر؛ لأن من عمِيَ قلبه ذهب دينه، ذهبت سعادته، ذهبت آخرته، نعوذ بالله من عمى البصر والبصيرة، نسأل الله أن يبصرنا بالحق، وأن يعيذنا من اتباع الهوى.
-وقوله:﴿ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ القلب لا يكون إلا في الصدر، ولكن هذا من باب التوكيد، فهي صفة مؤكِّدة. قال الشوكاني في «فتح القدير»( 3/544): قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ قَوْلَهُ ﴿الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ مِنَ التَّوْكِيدِ الَّذِي تَزِيدُهُ الْعَرَبُ فِي الْكَلَامِ كقوله: عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، ويَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ، ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ . اهـ.
_________
[سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 48]
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)﴾
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ﴾ قال ابن كثير: أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُلْحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ واليوم الآخر، ﴿وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ﴾ [ص: 16] .
﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ قال ابن كثير: أَيِ الَّذِي قَدْ وَعَدَ مِنْ إِقَامَةِ السَّاعَةِ وَالِانتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَالْإِكْرَامِ لِأَوْلِيَائِهِ.
﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ هناك ثلاثة تفاسير مشهورة في المراد باليوم:
-قال ابن كثير: أَيْ هُوَ تَعَالَى لَا يُعَجِّلُ، فَإِنَّ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ عِنْدَ خَلْقِهِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى حلمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَجَّلَ وَأَنْظَرَ وَأَمْلَى) هذا التفسير الأول أن ألف سنة ويوم واحد عند الله في الإمهال سواء؛ لأنه لا يفوته سبحانه شيء بالتأخير.
-أن اليوم الواحد من أيام يوم القيامة ألف سنة؛ وأن نصف اليوم الذي هو ألف سنة خَمْسِمِائَة عَام، وهذا يؤيده: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وهو حديث حسن؛ من أجل مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بن علقمه، فهو حسن الحديث.
-تفسير آخر في الآية أن يومًا واحدًا من الأيام التي خلق الله فيها الدنيا: السموات والأرض كألف سنة، والآية لا تدل على هذا؛ لأنها في سياق عذاب الكفار.
من فوائد الآيتين:
-استعجال الكفار بالعذاب.
-أن ما وعد الله به الكفار من العذاب هو واقع لا محالة، ولا يمكن أن يخلفه ﴿ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾، والآية في سورة الحج في سياق عذاب الكفار.
-أن الوعد قد يطلق على الشر ، وكما قال سبحانه في الآية الأُخرى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[الحج].
-طول اليوم الواحد يوم القيامة كألف سنة من أيامنا المعروفة، غير أن الله سبحانه قد يخفف طوله على بعض عباده المؤمنين فيكون كنصف ألف سنة، كما يدل له حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المتقدم، كما أن ظاهر هذا الحديث يؤيد تفسير هذه الآية بأنه يوم القيامة.
-ظاهر هذه الآية يخالف الآية التي في سورة المعارج: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)﴾ والجمع أن ألف سنة في حق المؤمن، وأن خمسين ألف سنة في حق الكافر، ف يوم القيامة في حق الكافر أطول فهو بمقدار خمسين ألف سنة، كما قال تعالى:﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾[المدثر:10].
-إنذار الكفار وتخويفهم بأن الله سبحانه يمهِل ثم يعاقب، فقد أمهل أممًا كثيرة ثم أخذها أخذ عزيز مقتدر، وإذا كان الله سبحانه يمهل هذا لا يدل أنه يخلف وعده، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر الحافظ ابن كثير أثرًا عند هذه الآية: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاءه عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، هل يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ؟
فَقَالَ: لَا، فَذَكَرَ آيَةَ وَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمِنَ الْعَجَمِ أَنْتَ؟ إِنَّ الْعَرَبَ تَعِدُ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا، وَعَنِ الإيعاد كرما أما سمعت قول الشاعر:
ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ... ولا أنثنى عن سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ
فَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
اهـ كلام ابن كثير، وعَمْرو بْنُ عُبَيْدٍ معتزلي فهو يستدل بهذه الآية ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ على إنفاذ الوعيد في أهل الكبائر من الموحدين، فمثلًا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)﴾[النساء:93 ] هذه آية وعيد، قالوا: الذي يقتل مسلمًا يكون من المخلدين في النار، أخذوا بظاهر هذا الوعيد، وأهل السنة والجماعة يرون أن أدلة الوعيد في حق المؤمن ليس المراد منها الخلود في النار، فصاحب الكبيرة تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه و إن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم ماله إلى الجنة، قال سبحانه:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾[النساء:48 ]، وروى البخاري (7213)، ومسلم (1709) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ».
ويقول النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وَسَلَّمَ: «خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْفَى، أَتُرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ؟ لَا، وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ، الْخَطَّائِينَ الْمُتَلَوِّثِينَ» رواه ابن ماجه (4311)، وهو في «الجامع الصحيح» (822) لوالدي رَحِمَهُ الله، وأدلة أخرى كثيرة في بيان حكم أهل الكبائر تدل على هذا المعنى، وأن من عذبه الله سبحانه من أهل الكبائر من الموحدين فمآله إلى الجنة.
وعمرو بن عبيد معتزلي؛ لهذا استدل بهذه الآية ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ على إنفاذ الوعيد في حق الموحدين من لأهل الكبائر، فناقشه أبو عمرو ابن العلاء –وهو: إمام لغوي- بأن الآية لا تدل على هذا، وأنه يوجد فرق بين الوفاء بالوعد والوفاء بالوعيد، وقال له: (إِنَّ الْعَرَبَ تَعِدُ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا، وَعَنِ الإيعاد كرما) يعني: الوعد: يكون في الخير، والوعيد: يكون في الشر، هذا مراد أبي عمرو ابن العلاء، والتخلف عن الوفاء بالوعيد محمود؛ لأنه يدل على كرم صاحبه، واستدل لذلك بقول الشاعر:
( فَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي)
وهذا منتقَد؛ إذ الوعد يكون في الخير ويكون في الشر ، قال سبحانه:﴿ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[الحج]، وقال: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ