الكف والسكوت عما شجر بين الصحابة
قال أبو الفداء الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ الله في «شرح مختصر علوم الحديث»(332) بشرح والدي: قَالَ ابنُ الصَّلَاحِ: وَقَد شَانَ ابنُ عَبدِ البَرِّ ([1]) كِتَابَهُ «الِاستِيعَابَ» بِذِكرِ مَا شَجَرَ بَينَ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَلَقَّاهُ مِن كُتُبِ الأَخبَارِيِّينَ وَغَيرِهِم.
التعليق:
هذا مما عيب على ابن عبد البر رَحِمَهُ الله أنه يذكر في كتابه «الاستيعاب» ما شجر بين الصحابة من كتب الأخبار وغيرها التي لا تعتمد على نقل صحيح.
ثم هذه المسألة الواجب كف الألسن عنها بكل حال.
وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في «العقيدة الواسطية» وغيرها؛ وذلك لما للصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم من الفضائل والمناقب، وكما جاء عن عمر بن عبدالعزيز أنه سئل عن وقعة صفين، فقال: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ يَدِي مِنْهَا، فَلا أُحِبُّ أَنْ أَخْضِبَ لِسَانِي بِهَا. أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (238)، ورجاله ثقات.
فنقول كما قال ربنا: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134].
فمن الخطأ أن يشتغل الإنسان بالكلام في هذه الأمور، وربما يعقد محاضرة في الكلام فيما شجر بين الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (3/ 406): وَكَذَلِكَ نُؤْمِنُ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَنَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمَنْقُولِ فِي ذَلِكَ كَذِبٌ. وَهُمْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ، إمَّا مُصِيبِينَ لَهُمْ أَجْرَانِ، أَوْ مُثَابِينَ عَلَى عَمَلِهِمْ الصَّالِحِ مَغْفُورٌ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ-وَقَدْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى-فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا لَهُمْ: إمَّا بِتَوْبَةِ أَوْ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، وَهَذِهِ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
وقال رحمه الله في «العقيدة الواسطية» (121): ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ، مِنْ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضَائِلِ، عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمْ هُمْ صَفْوَةُ الصَّفْوَةِ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ.
وقال والدي رحمه الله في «الفواكه الجَنية» (175): ينبغي أننا نشتغلُ بأنفسِنا وبعيوبِنا؛ فإن هذا بابٌ من أبوابِ الشيطان ومدخل من مداخلِ الشيطان أن نبقى مُشتغِلِيْنَ: إما بعُيُوبٍ وقعتْ من الصحابة؛ لأنهم ليسُوا بمعصُومين، وإما بكذِبٍ مكذُوبٍ عليهم، ثم ساقَ رحمه الله الأدلة في فضلِ الصحابة رضي الله عنهم.
[مقتطف من دروس مختصر علوم الحديث لابنة الشيخ مقبل رَحِمَهُ الله]