قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: قَالَ بَعْضُ الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ، ونوره بالتفكر، وَمَوِّتْهُ بِالزُّهْدِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وذَلِّلْهُ بِالْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ الْأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسيره فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، وَانْظُرْ مَا فَعَلُوا وَأَيْنَ حَلُّوا وَعَمَّ انقَلَبُوا.
قال ابن كثير في تفسير سورة الحج: أَيْ: فَانْظُرُوا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنَ النِّقَمِ وَالنَّكَالِ.
ذكر ابن أبي الدنيا وهو عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي قولًا لبعض الحكماء في بيان أسباب حياة القلب، ومعالجته، والاهتمام بالأشياء التي تصلحه:
(أحي قلبك بالمواعظ) المواعظ حياة للقلب، قال سبحانه: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)﴾ [الطور:55]، وحَنْظَلَة الصحابي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يقول: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا ذَاكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رواه مسلم (2750).
« يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ » كأنهم يرون الجنة والنار من خشية الله التي أثرت في قلوبهم، ولقوة يقين قلوبهم.
وإذا بعُد القلب عن المواعظ قسا وتواردت عليه الأمراض، فينبغي الاهتمام بما يحيي القلوب: كقراءة القرآن، كثرة الذكر، المواعظ، مجالسة الأخيار، صلاة الليل، ونحو ذلك.
(ونوره بالتفكر) إشغال الفكر فيما ينفع حتى يثمر له اليقين، كما قال سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20﴾[الغاشية:17 – 20 ]، فالتفكر في مخلوقات الله، وفيما أنزله من الوحي، هذا فيه علاج للقلب.
قد عقد الإمام النووي رحمه الله في كتاب «رياض الصالحين» بابًا في التفكر.
(وَمَوِّتْهُ بِالزُّهْدِ) الزُّهْد: ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع: ترك ما يخشى ضرره في الآخرة.
و الزُّهْد من أعظم أنواع صلاح القلب؛ ولهذا الله يقول: ﴿ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾[الرعد]، وكلما أحب الإنسان الدنيا قسا قلبه، وابتعد عن الآخرة، وكسل عن طاعة الله، كما قال ابن القيم رحمه الله في «الفوائد»(1 /96): وعَلى قدر رَغْبَة العَبْد فِي الدُّنْيَا وَرضَاهُ بهَا يكون تثاقله عَن طَاعَة الله وَطلب الْآخِرَة .
(وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ) الْيَقِين: إزاحة الشك، وكأنه يشاهد الشيء الغائب الذي أخبر الله به، فكأنه يرى النار لقوة يقينه وإيمانه بذلك، ويرى الجنة، ويرى أهوال يوم القيامة، فاليقين شأنه عظيم؛ ولهذا أثنى الله على أهل اليقين في آيات من كتابه قال سبحانه: ﴿ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾[البقرة]، وقال أبو بكر الصديق: « وَسَلُوا اللَّهَ الْمُعَافَاةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْمُعَافَاةِ » رواه ابن ماجة (3849)، وهو في «الجامع الصحيح» (706) لوالدي رَحِمَهُ الله.
(وذَلِّلْهُ بِالْمَوْتِ) وَ (الذِّلُّ) بِالْكَسْرِ: اللِّينُ وَهُوَ ضِدُّ الصُّعُوبَةِ. «الصحاح للجوهري»( 113). والمراد لينه رقِّقه بتذكر الموت، فإن تذكر الموت موعظة للقلب؛ لهذا يقول النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ» ، يَعْنِي: الْمَوْتَ. رواه ابن ماجه (4258). فإذا تذكر الإنسان أنه مفارق لهذه الحياة اليوم أو غدًا، فإنه يحمله على الخوف من الله، ويعينه على صلاح قلبه، ويحمله على التهيؤ للآخرة، فكل نفس مآلها إلى الموت، كما قال تعالى:﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾[آل عمران]، والإمام البخاري رَحِمَهُ الله لما بلغه وفاة الإمام الدارمي صاحب السنن رثاه، وأنشد بيتًا، وقال:
إن تبقَ تفجع بالأحبة كلهم *** وفناء نفسك لا أبًا لك أفجع
فهذا مكتوب على النفس، وعلى الأحباب، وفلذات الأكباد، هذا يتقدم وهذا يتأخر، والكل راجع إلى الله، وهنيئًا لمن أحسن عملًا.
(وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ) فالدنيا دار فناء لا دار بقاء، تذهب هي ومن عليها، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) ﴾[الرحمن]، وسريعة ما تزول، تمر مر السحاب، عبارة عن سحابة تنقشع عما قريب.
(وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا) فجائع الدنيا: مصائبها وشدائدها، فهذه الدار دار مصائب ومحن ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) ﴾[البلد:4 ]، وروى البخاري (6512) ومسلم (950) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»، ومكدرات الدنيا كثيرة، كما قال ابن القيم رحمه الله في وصف الدنيا في «زاد المعاد» (4 /174): الدُّنْيَا أَحْلَامُ نَوْمٍ، أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ، إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا، وَإِنْ سَرَّتْ يَوْمًا سَاءَتْ دَهْرًا وَإِنْ مَتَّعَتْ قَلِيلًا. اهـ المراد.
ولما كان هذا حال وصف الدنيا كان من دعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وَسَلَّمَ: «وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ»، لم يقل قبل الموت؛ لأن العيش في الدنيا لا يطيب لأحد.
لا طيبَ لِلعَيشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً ... لذَّاتُهُ بِادِّكَارِ المَوْتِ والهَرَمِ.
(وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ) حذره أي: خوفه. الصولة: أي: السطوة، أي: سطوة الدهر: شدائده وقهره، وهذا يكون بإرادة الله سبحانه.
والمقصود من هذه العبارات: (وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ، وَفُحْشَ تَقَلُّبِ الْأَيَّامِ) معالجة القلب بالنظر إلى كثرة المكدرات والمتاعب والشدائد وتقلبات الأحوال في هذه الدنيا.
(وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ) وهذا أيضًا علاج للقلب أن يتذكر الأمم الماضية، فقد كانوا على وجه الأرض، ثم صاروا في حفرة القبر، وكأنهم لم يُخلقوا، ويتذكر أيضًا الأمم الماضية المكذبة لأنبياء الله ورسله وما حلَّ بهم من عقاب الله ، والله أعلم.