جديد المدونة

جديد الرسائل

الأحد، 10 يناير 2021

(40)اختصار درس الأربعين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

من آدَابِ القِرَاءةِ

◆◇◆◇◆◇

من ثمار تدبر القرآن:

- الخشوع، فمن تدبر القرآن خشع. والخشوع شأنه عظيم، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديدوقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر].

وعلى قارئ القرآن أن يحرص أن يكون خشوعه صادقًا وأن يحذر من خشوع النفاق، فإن مداخل الشيطان على العبد كثيرة. قال ابن رجب في «تفسيره»: ومتى تكلَّف الإنسانُ تعَاطِي الخشوع في جوارحِهِ وأطرافِه مع فراغ قلبهِ من الخشوع وخُلوه منه كانَ ذلك خشوعَ نفاقٍ، وهو الذي كانَ السلف يستعيذونَ منه، كما قالَ بعضُهم: استعيذوا باللَّهِ من خشوع النفاقِ، قالوا: وما خشوعُ النفاقِ؟ قال: أن يُرى الجسَدُ خاشعًا والقلبُ ليس بخاشع.

وذكر نحوه ابن القيم في «الروح» (232).

-انشراح الصدر للخير وفعل الطاعة، وجلاء وزوال الهَمِّ والغَمِّ والكربَات. قال الله تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾[الرعد].

-إضاءة القلوب وصلَاحها وذهاب أمراضها من: قسوة، وغفلة، ورياء، ونفاق، وكبر، وعجب، وغرور إلى غير ذلك. قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) ﴾ [النساءوالقلوب إذا أُضيئت وزالت عنها الظلمة، فإنها تكون أوعية للخير منقادة له، ويتفجر منها ينبوع العلم واليقين والإيمان والحكمة.

قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (1/187): فَلَا شَيْء أَنْفَع للقلب من قِرَاءَة الْقُرْآن بالتدبر والتفكر... الخ.

-أنه امتثال لأمر الله: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النِّسَاءِ:82]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ ص: 29 ]).

-التدبر قيامٌ بعبادة جليلة، قال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»(2/342): وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّوَافِلِ كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَسَمَاعُهُ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ. اهـ.

-بتدبر القرآن يعرف الإنسان ربه ومعبوده وعقيدته ودينه .يُنظرأخلاق أهل القرآن» (36)للآجري.

-بتدبر القرآن يتبين طريق الحق من طريق الضلال، قال شيخ الإسلام في «العقيدة الواسطية» (74): مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ. اهـ.

-تدبر القرآن داخل في حديث عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رواه البخاري (5027).

-بتدبر القرآن يبتعد الإنسان عن صفة ذميمة وهي هجر القرآن؛ ومن ترك تدبر القرآن فقد أقحم نفسه في هجر القرآن. قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) ﴾ [الفرقان].

قال ابن القيم في «الفوائد»(82) في أنواع هجر القرآن: هجر تدبّره وتفهّمه وَمَعْرِفَة مَا أَرَادَ الْمُتَكَلّم بِهِ مِنْهُ.

وقال ابن كثير في «تفسير هذه الآية»: وَتَرْكُ تَدَبُّرِهِ وَتَفْهُّمِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ.

◆◇◆◇◆◇

أهمُّ الأسباب التي تعين على تدبر القرآن، منها:

-الاستعاذة عند قراءة القرآن، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) ﴾ [النحلقال ابن القيم في «إغاثة اللهفان» في سياق فوائد الاستعاذة: الشيطان يُجْلِب على القارئ بخيله ورَجله، حتى يَشْغَله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن؛ فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ بالله منه. اهـ.

-الدعاء، فعلى قارئ القرآن أن يدعو ربه، قال الله: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر].

-معرفة أهمية تدبر القرآن، فهو المقصود من قراءة القرآن ؛لقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ ص: 29 ]. وأيضًا العمل به، قال تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) ﴾ [الأنعام].

والمراد بتدبر القرآن: التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك. «تفسير السعدي»(189).

فما أعظم فوائد تدبر القرآن، وثماره للقلب والجوارح، وزيادة الإيمان والعلم النافع، ومعرفة الحق، وتحريك القلوب إلى المسابقة إلى الخير!

فَتدبَّرِ القُرآنَ إن رُمتَ الهُدى...فالعِلمُ تحتَ تَدبُّر القُرآنِ

 قال ابن القيم في «مدارج السالكين» (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ..الخ.

-فهم معاني القرآن. قال شيخ الإسلام في «فتاواه»(13/332): وتدبُّر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن؛ وكذلك قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2وعَقْل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. اهـ.

-حضور القلب وإصغاؤه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾ [ق].

ومن قرأ وقلبه غافل أو مشغول بالتفكير والوساوس، وهكذا الانشغال بمخارج الحروف فأنَّى له تدبر القرآن؟! .يراجع: «مجموع الفتاوى» (16/50)لابن تيمية رحمه الله.

-ترتيل القرآن، قال تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) [المزمل]. قال ابن كثير في «تفسيره» (8/250): أَيِ: اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَوْنًا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ. اهـ.

وقال القرطبي في «تفسيره»(15/192): التَّرْتِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْهَذِّ، إِذْ لَا يَصِحُّ التَّدَبُّرُ مَعَ الْهَذِّ. اهـ. الْهَذّ: الإفراط في السرعة.

لهذا كانت قراءة النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الترتيل، كما في «صحيح مسلم» (733): عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا».

-قراءة القرآن في الليل، ولهذا ربنا يقول: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) [المزمل]. حث الله على العبادة في الليل، وقراءة القرآن؛ لأنه وقت سكون الناس وهدوئهم. وفي وقت الهدوء والسكون عونٌ على حضور القلب وجمع البال.

والنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كان يدارسه جبريل كل ليلة في رمضان. كما في الحديث الذي رواه البخاري (6ومسلم (2308)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قال الحافظ ابن حجر في بيان الحكمة من كونه في الليل: الْمَقْصُودَ مِنَ التِّلَاوَةِ الْحُضُورُ وَالْفَهْمُ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ. اهـ من «فتح الباري»(9/45).

هذه بعض الأسباب المعينة على تدبر القرآن. نسأل الله أن يرزقنا تدبر القرآن.

والقرآن مؤثِّرٌ يحرِّك القلوب، ولكن بسبب أن القلوب قد تراكمت عليها الذنوب، والغفلة صارت لا تتأثر بالقرآن. قال ابن القيم في «مدارج السالكين» (3/437): فَلَوْ رُفِعَتِ الْأَقْفَالُ عَنِ الْقُلُوبِ لَبَاشَرَتْهَا حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَنَارَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الْإِيمَانِ. اهـ.

◆◇◆◇◆◇

مفسدات القلب خمسة

قال ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين»(1/452): وَأَمَّا مُفْسِدَاتُ الْقَلْبِ الْخَمْسَةُ فَهِيَ: كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ، وَالتَّمَنِّي، وَالتَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَالشِّبَع، وَالْمَنَام، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ مِنْ أَكْبَرِ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ.

ثم شرح ابن القيم هذه المفسدات ووضح المراد منها.

الصفة الأولى: (كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ)

قال رَحِمَهُ الله: فَأَمَّا مَا تُؤَثِّرُهُ كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ: فَامْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ دُخَانِ أَنْفَاسِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يَسْوَدَّ، يُوجِبُ لَهُ تَشَتُّتًا وَتَفَرُّقًا، وَهَمًّا وَغَمًّا، وَضَعْفًا، وَحَمْلًا لِمَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ مِنْ مُؤْنَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَإِضَاعَةِ مَصَالِحِهِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِهِمْ وَبِأُمُورِهِمْ، وَتَقَسُّمِ فِكْرِهِ فِي أَوْدِيَةِ مَطَالِبِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَمَاذَا يَبْقَى مِنْهُ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ؟.. الخ.

هذه الصفة الأولى من مفسدات القلب. فينبغي التقليل من مخالطة الناس، وألَّا يختلط بهم إلا في الخير، وتكون المخالطة بقدر الحاجة ثم ينعزل عنهم، حتى في البيت نفسه ينبغي أن يجعل لنفسه وقتًا يختلي فيه لعبادة ربه جل وعلا، والنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كان قد حُبب إليه الخلاء قبل أن يأتيه الوحي يتعبد لله عز وجل فيه، كما في الحديث الذي روى البخاري (3ومسلم (160) عَنْ عَائِشَةَ.

ومعلوم قول النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» رواه البخاري (660ومسلم (1031) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. هذا يفيد: فضل العبادة في الخلوة.

ويَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ الله قِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: بَيْتٌ خَالِي، وَإِسْنَادٌ عَالِي. كما في «مقدمة ابن الصلاح» (256).

والمكان الفارغ يكون فيه هدوء وسكينة، وراحة بال، وإقبال القلب على الله عَزَّ وَجَل، فالإنسان يجعل له وقتًا يخلو فيه لعبادة ربه، نسأل الله الإعانة.

الصفة الثانية: (وَالتَّمَنِّي)

قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (2/326): فَالْمُتَمَنِّي مِنْ أَعْجَزِ النَّاسِ وَأَفْلَسِهِمْ، فَإِنَّ التَّمَنِّيَ رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ.

وقال رحمه الله في «مدارج السالكين»(1/454): وَهُوَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي يَرْكَبُهُ مَفَالِيسُ الْعَالَمِ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُنَى رَأَسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ. اهـ.

يعني: عمره وأوقاته في التمني، والنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قال: «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» رواه مسلم (2664) عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

المفسدة الثالثة: (وَالتَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ)

قال ابن القيم عن هذه الصفة في «مدارج السالكين»(1/455): وَهَذَا أَعْظَمُ مُفْسِدَاتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَضَرُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَقْطَعُ لَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَسَعَادَتِهِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَخَذَلَهُ مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَفَاتَهُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ وَالْتِفَاتِهِ إِلَى سِوَاهُ، فَلَا عَلَى نَصِيبِهِ مِنَ اللَّهِ حَصَلَ، وَلَا إِلَى مَا أَمَّلَهُ مِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهِ وَصَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا-كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ-لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [يس: 74-75]. اهـ.

المفسدة الرابعة: (وَالشِّبَعِ)

كثرة الأكل، وهذا ذكر له ابن القيم نوعين، قال في «مدارج السالكين»(1/456): وَالْمُفْسِدُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يُفْسِدُهُ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ كَالْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: مُحَرَّمَاتٌ لِحَقِّ اللَّهِ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ، وَمُحَرَّمَاتٌ لِحَقِّ الْعِبَادِ، كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَنْهُوبِ، وَمَا أُخِذَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، إِمَّا قَهْرًا وَإِمَّا حَيَاءً وَتَذَمُّمًا.

وَالثَّانِي: مَا يُفْسِدُهُ بِقَدْرِهِ وَتَعَدِّي حَدِّهِ، كَالْإِسْرَافِ فِي الْحَلَالِ، وَالشِّبَعِ الْمُفْرِطِ، فَإِنَّهُ يُثْقِلُهُ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَشْغَلُهُ بِمُزَاوَلَةِ مُؤْنَةِ الْبِطْنَةِ وَمُحَاوَلَتِهَا، حَتَّى يَظْفَرَ بِهَا، فَإِذَا ظَفِرَ بِهَا شَغَلَهُ بِمُزَاوَلَةِ تَصَرُّفِهَا وَوِقَايَةِ ضَرَرِهَا، وَالتَّأَذِّي بِثِقَلِهَا، وَقَوَّى عَلَيْهِ مَوَادَّ الشَّهْوَةِ، وَطُرُقَ مَجَارِي الشَّيْطَانِ وَوَسَّعَهَا، فَإِنَّهُ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَالصَّوْمُ يُضَيِّقُ مَجَارِيَهُ وَيَسُدُّ عَلَيْهِ طُرُقَهُ، وَالشِّبَعُ يَطْرُقُهَا وَيُوَسِّعُهَا، وَمَنْ أَكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنَامَ كَثِيرًا، فَخَسِرَ كَثِيرًا، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».

الخامسة من مفسدات القلب وهي الأخيرة: (وَالْمَنَامِ)

قال ابن القيم (1/456): الْمُفْسِدُ الْخَامِسُ: كَثْرَةُ النَّوْمِ. فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيُثَقِّلُ الْبَدَنَ، وَيُضِيعُ الْوَقْتَ، وَيُورِثُ كَثْرَةَ الْغَفْلَةِ وَالْكَسَلِ، وَمِنْهُ الْمَكْرُوهُ جِدًّا، وَمِنْهُ الضَّارُّ غَيْرُ النَّافِعِ لِلْبَدَنِ، وَأَنْفَعُ النَّوْمِ مَا كَانَ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَّةِ. اهـ.

 هذه مفسدات القلب الخمسة من أشد مفسدات القلب، وأعظمها الشرك بالله عز وجل، وهذه المفسدات من أعظم ما يعيق عن تدبر القرآن، ونسأل الله أن يعيننا على أنفسنا.

◆◇◆◇◆◇

الصعق عند قراءة القرآن

الصعق بمعنى: الغشي، يقرأ القرآن ويُغشى عليه، أو يسمع القرآن ويُغشى عليه من شدة الخوف وعدم تحمل قلبه لذلك.

قال الحافظ ابن رجب في رسالته «التخويف من النار»، كما في «مجموع رسائله» (4/112): القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض، واجتناب المحارم. فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان فضلًا محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل، لم يكن ذلك محمودًا، ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الذي أنساه القرآن وصيَّره صاحب فراش. وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصودًا لذاته؛ إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها، ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه، ولهذا المعنى عدَّها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين في سورة الرحمن.

والمقصود الأصلي هو طاعة الله عز وجل، وفعل مراضيه ومحبوباته، وترك مناهيه ومكروهاته.

ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدر وإجلاله مقصودٌ أيضًا، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا على التقرب إلى الله، بفعل ما يحبه، وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعًا من ذلك وقاطعًا عنه، فقد انعكس المقصود منه، ولكن إذا حصل ذلك عن غلبة كان صاحبه معذورًا.

وقد كان من السلف من حصل له من خوف النار أحوال شتى؛ لغلبة حال الشهادة قلوبهم للنار. فمنهم من كان يلازمه القلق والبكاء، وربما اضطرب، أو غشي عليه إذا سمع ذكر النار. اهـ.

وعرفنا مما تقدم: بيان الخوف المطلوب المحمود.

ونلاحظ أيضًا: قوله رحمه الله: فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل، لم يكن ذلك محمودًا.

وقوله: ولكن إذا حصل ذلك عن غلبة كان صاحبه معذورًا.

فالصعق والمرض عند قراءة القرآن لم يكن هذا من هدي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه رضي الله عنهم، ولهذا قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (22/522): وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ السَّمَاعِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجَلِ الْقَلْبِ وَدَمْعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجُسُومِ فَهَذَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ وَالْغَشْيُ وَالْمَوْتُ وَالصَّيْحَاتُ فَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُلَمْ عَلَيْهِ -كَمَا قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْلأنه مغلوب ليس باختياره، فَإِنَّ مَنْشَأَهُ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَعَ ضَعْفِ الْقَلْبِ. وَالْقُوَّةُ وَالتَّمَكُّنُ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ، وَأَمَّا السُّكُونُ قَسْوَةً وَجَفَاءً فَهَذَا مَذْمُومٌ لَا خَيْرَ فِيهِ. اهـ.

استفدنا: أنه إذا غُشي عليه مغلوبًا على نفسه، غشي قهريٌّ غالب، هذا لا يلام عليه.

 أما مع القوة والتمكن فالأفضل ما كان عليه حال النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ والصحابة، فما كان يغشى عليهم.

 أن من فعله تصنعًا فهذا داخل في الرياء؛ ولهذا الإمام النووي رَحِمَهُ الله يقول: (قُلْتُ: وَالصَّوَابُ عَدَمُ الْإِنْكارِ إِلَّا عَلَى مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ تَصَنُّعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ).

قلت: الصواب الإنكار، وأن يبيَّن لِمَنْ كان هذا حالُهُ أن هذا ليس بمحمود؛ لأن هذا كما تقدم ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته. ولهذا ثبت إنكاره عن بعض التابعين وغيرهم. أخرج أبو نعيم في «الحلية» ترجمة أبي الجوزاء عن عمرو بن مالك، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي الْجَوْزَاءِ يُحَدِّثُنَا إِذْ خَرَّ رَجُلٌ فَاضْطَرَبَ، فَوَثَبَ أَبُو الْجَوْزَاءِ فَسَمَّى قَبْلَهُ، فَقِيلَ: يَا أَبَا الْجَوْزَاءِ إِنَّهُ رَجُلٌ بِهِ الْمَوْتُ، فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أُرَاهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَفَّازِينَ، وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَا أَمَرْتُ بِهِ، وَأَخْرَجْتُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، إِنَّمَا ذَكَرَهُمُ اللهُ فَقَالَ: تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ، وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ.

وعلمتم قول شيخ الإسلام: وَالْقُوَّةُ وَالتَّمَكُّنُ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ.

◆◇◆◇◆◇

من أدوية القلب وعلاجه

 قَالَ إِبرَاهِيمُ الْخَوَّاصُّ رَحِمَهُ الله: دَواءُ الْقَلْبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: قِرَاءةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ، وَخَلَاءُ الْبَطْنِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ، وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ.

(إِبرَاهِيمُ الْخَوَّاصُّ) زاهد صوفي.

وهذه مقالة جميلة، وقد ذكر خمسة أمور:

 الأول: (قِرَاءةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ) لا شيء أنفع للقلب من التدبر.

 الثاني: (وَخَلَاءُ الْبَطْنِ) أي: فراغ المعدة من الطعام، والمراد والله أعلم: عدم الأكل الكثير، والإكثار من الطعام من أسباب قسوة القلب. قال أبو بكر المروزي قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ -أي: أحمد بن حنبل-لَا يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً وَهُوَ يَشْبَعُ، قَالَ: مَا أَرَى. «الورع» (323) للإمام أحمد.

ومن أسباب جلب الأمراض، كما قيل: المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء. وما كثرت الأمراض في أزمنتنا، وعجَّتِ المستشفيات بالمرضى إلا بسبب كثرة الطعام.

ولهذا كان الصوم-مع كونه عبادة وقُربَةً- وقايةً من أمراض كثيرة جسدية ومعنوية، ويساعد على إنزال الوزن، وعلى تقوية المناعة، وحُسْن المزاج، وهدوء البال، ويخلِّص الجسم من السموم المتراكمة...، ويُضَيِّق مداخل الشيطان ومجاريه.  

والشبع في بعض الأحيان لا بأس به، أبو هريرة رضي الله عنه أعطاه النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ شرابًا، وقال: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ» فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: «اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» حَتَّى قُلْتُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: «فَأَرِنِي» فَأَعْطَيْتُهُ القَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ». رواه البخاري (6452) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

الثالث: (وَقِيَامُ اللَّيْلِ) قيام الليل شأنه عظيم في صلاح القلب، وسروره وانشراحه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ علَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هو نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وإلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ». رواه البخاري (1142ومسلم (776) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الرابع: (وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ). قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) [الذاريات]. فوقت السحر من أنفس الأوقات التي ينبغي الحرص عليها. قال شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله «مجموع الفتاوى»(28/242): إِذَا نَاجَى رَبَّهُ فِي السَّحَرِ وَاسْتَغَاثَ بِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ التَّمْكِينِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. اهـ المراد.

وقال ابن القيم في «زاد المعاد»(4/378): أَرْبَعَةٌ تَجْلِبُ الرِّزْقَ: قِيَامُ اللَّيْلِ، وَكَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَتَعَاهُدُ الصَّدَقَةِ، وَالذِّكْرُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ.

الخامس:(وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ) مجالسة الصالحين غنيمة وسعادة وسلامة ودواء للقلب من الأمراض، ومن أسباب علو الهمة، وزيادة الإيمان، ولهذا الله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة]. والنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحث على مجالسة الصالحين، ويقول: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ». رواه أبو داود (4833) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وهو في «الصحيح المسند» (1272) لوالدي رَحِمَهُ الله.

 ولفضل مجالسة الصالحين صار لكلب أصحاب الكهف ذكرٌ في القرآن مع أن الكلب خسيس ونجس، قال الله: ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (5/144): وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَهَذَا فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ؛ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ. اهـ. سبحان الله!

 قال الشيخ السعدي في «بهجة قلوب الأبرار» (156): فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر-أجود أنواع المسكفإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك. فيحثك على طاعة الله. اهـ.

◆◇◆◇◆◇

استِحبَابُ تَرْدِيدِ الْآيَةِ لِلتَّدَبُّرِ

إذا كان قارئ القرآن يتدبر إذا كرر الآية أو السورة فيُستحب له أن يكررها، وقد روى الإمام البخاري (5013) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ».

 وفي رواية للبخاري (5014) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ مِنَ السَّحَرِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لاَ يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ

 قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (1/187): فَإِذا قَرَأَهُ بتفكر حَتَّى مر بِآيَة وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فِي شِفَاء قلبه كررها وَلَو مائَة مرَّة وَلَو لَيْلَة. اهـ.

 فإذا كان ترديد الآية أو ترديد السورة يعين على تدبر القرآن والاتعاظ فهذا محمود، والله الموفق.