جديد المدونة

جديد الرسائل

الأربعاء، 14 أكتوبر 2020

اختصار الدرس التاسع والعشرين من دروس التبيان في آداب حملة القرآن


من آداب المتعلم:

الحرص على العلم

قال ابن القيم في «شفاء العليل» (19): الحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع.

هذا من آداب الطالب المتأكدة عليه أن يكون حريصًا، دؤوبًا في تحصيله، مداومًا عليه في جميع الأوقات التي يتمكن منه فيها.

قال الإمام البخاري في (كتاب العلم) من «صحيحه» بَابُ الحِرْصِ عَلَى الحَدِيثِ، ثم أخرج حديث (99) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ».

الحرص على العلم النافع سعادة عظيمة؛ لهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ» رواه مسلم (2664) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

هذا الحديث استنبط منه ابن القيم رَحِمَهُ الله في «شفاء العليل» (19) فوائد، منها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو: بذل الجهد، واستفراغ الوسع. فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص، فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع. اهـ.

وروى البخاري (3191) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، الحديث وفيه قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا.

قال الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ الله (6/290): قال ذلك لِأَنَّهُ قَامَ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ فِي ظَنِّهِ، فَتَأَسَّفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ كُنْتُ كَثِيرَ التَّطَلُّبِ لِتَحْصِيلِ مَا ظَنَّ عِمْرَانُ أَنَّهُ فَاتَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى أَنْ وَقَفْتُ عَلَى قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ فَقَوِيَ فِي ظَنِّي أَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقِصَّةِ بِخُصُوصِهَا، لِخُلُوِّ قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى حَدِيثِ عِمْرَانَ، إِلَّا أَنَّ فِي آخِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: «وَمَا فِيهِنَّ وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ عَزَّ وَجَلَّ». اهـ.

وكلما استفاد وشعر أنه ازداد علمًا، فينبغي أن يزداد حرصًا عليه، كما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: مَنْهُومٌ فِي عِلْمٍ لَا يَشْبَعُ، وَمَنْهُومٌ فِي دُنْيَا لَا يَشْبَعُ» رواه الحاكم في «المستدرك» (312) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، وهو في «الصحيح المسند» (51) لوالدي رَحِمَهُ الله.

 وثبت عن سُفْيَان بن عيينة: قيل للعلماء: ما لكم أحرص الناس عَلَى العلم، وأنتم علماء؟ قَالُوا: نحن أعلم الناس به. رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» (942).

 وإذا كان العلماء يحرصون على العلم، فطالب العلم ينبغي أن يحرص أكثر على تحصيل العلم؛ لقلة علمه، وحاجته الشديدة للتفقه في دين الله.

ومن رأى أنه قد استغنى عن العلم فهو جاهل، فهذا عبد الله بن المبارك قيل له: يا أبا عبدالرحمن، كم تكتب؟ قال: لعل الكلمة التي تقع فيها نجاتي لم تقع إليَّ. أخرجه الخطيب في «جامعه» (1726وأبو إسماعيل الهروي في «ذم الكلام» (5/1014).

وعبدالله بن أحمد بن حنبل يقول: ما زال القلم في يد أبي حتى مات. رواه الخطيب في «الكفاية» (574).

وسمعت والدي رحمه الله يقول: إن شاء الله نطلب العلم إلى أن نموت.

نسأل الله أن يجعلنا من السَّبَّاقين إلى العلم النافع، وأن يتوفانا على ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يقنع الطالب بالقليل من العلم ولا يحمل نفسه ما لا يطيق

هذا من الأدب وحرص الطالب، فإذا تمكن من الكثير في تحصيل العلم فلا يكتفي بالقليل، لأنه بهذا يسلك طريق الجنة، ويطلب إرث الأنبياء، ويرفع الجهل عن نفسِه، وفي عبادة عظيمة، فينبغي أن يكون طالب العلم عالي الهمة.

قال ابن الجوزي رحمه الله في «صيد الخاطر» (28): من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دني.

ولم أر في عيوب الناس عَيْبًا...كنقص القادرين على التَّمامِ

فالموفَّقُ لا يقنع بالقليل مع تمكُّنِهِ من الكثير، فكلما حوى شيئًا واستفاد يطلب غيره، كما قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ المكي: «الْعِلْمُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، كُلَّمَا أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا حَوَاهُ وَابْتَغَى ضَالَّةً أُخْرَى» رواه أبو خيثمة زهير بن حرب في «العلم» (157).

ولكن لا يحمل نفسه ما لا يطيق؛ لأن هذا ينافي الرفق بالنفس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» رواه البخاري (5199 ومسلم (1159).

وذكر النووي سبَبَيْنِ آخرين:(مَخَافَةً مِنَ المَلَلِ، وَضَيَاعِ مَا حَصَّلَ).

مَخَافَةً مِنَ المَلَلِ: ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» رواه البخاري (43 ومسلم (785) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

فلابد في طلب العلم من التدرج، روى الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» عن الزهري، يَقُولُ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ جُمْلَةً فَاتَهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ الْعِلْمُ حَدِيثٌ وَحَدِيثَانِ.

علَّق والدي على هذا الأثر في درسٍ لنا، وقال: صدق، لأن من أراد أن يحصُل له العلم في عشرة أيام أو شهر أو سنة ثم يحصل له سآمة لا يستفيد شيئًا.

 فطالب العلم يجب عليه أن يوطِّنَ نفسه لطلب العلم، فإن لم يفهم اليوم فسيفهم غدًا، أو بعد غد إن شاء الله.

 ولا بد أن يصبر على الفقر، من أجل تحصيل العلم، فقد قال شعبة بن الحجاج: من طلب الحديث أفلس. اهـ.

فالتشديد قد يفضي إلى الملل وإلى السآمة؛ لأنَّ مِن طباع النفس النفور. فإذا كثَّرَ عليها وحمَّلَهَا ما لا تطيق من الحفظ والدروس والأعمال، فإنه قد ينقطع-والعياذ بالله-ويرجع إلى الوراء، وقليل دائم خير من كثير منقطع، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الحديث وفيه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» رواه مسلم (2818).

قال النووي رَحِمَهُ الله في «شرح صحيح مسلم» (6/71): وَإِنَّمَا كَانَ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ خَيْرًا مِنْ الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ؛ لِأَنَّ بِدَوَامِ الْقَلِيلِ تَدُومُ الطَّاعَةُ وَالذِّكْرُ وَالْمُرَاقَبَةُ وَالنِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيُثْمِرُ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. اهـ.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول الصحابة بالموعظة خوفًا عليهم من السآمة، كما روي البخاري (70 ومسلم (2821) من طريق أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».

 (وَضَيَاعِ مَا حَصَّلَ) وهذا مآل كلِّ من شدَّدَ على نفسه، وإن لم يذهب عليه كله، فإنه يضيع عليه كثير منه، ويفقد البركة.

والطاقة تختلف، فمن الناس من تنشط نفسه، وتقوى عزيمته، وينشرح صدره، إذا اجتهد وثابر، لا راحة عنده إلا بالعلم. ومنهم من يشق عليه ويضر به، وقد يفضي به إلى الانقطاع والترك، وكلٌّ أعرف بحاله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حُطَّاب ليل

الذي يحمل من العلم فوق طاقته يسمى حاطب ليل؛ لأنه يضر به.

أخرج أبو القاسم البغوي رَحِمَهُ الله في «زوائد الجعديات» رقم (1013) عن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، تَدْرِي مَا حَاطِبُ لَيْلٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، إِلَّا أَنْ تَخْبِرَنِيهِ. قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَحْتَطِبُ، فَتَقَعُ يَدُهُ عَلَى أَفْعَى فَتَقْتُلُهُ. هَذَا مَثَلٌ ضَرَبْتُهُ لَكَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إِذَا حَمَلَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُطِيقُهُ قَتَلَهُ عِلْمُهُ، كَمَا قَتَلَتِ الْأَفْعَى حَاطِبَ لَيْلٍ.

وهكذا يسمى الذي لا يتحرى في الأحاديث، يحمل أي حديث سواء كان صحيحًا أو ضعيفًا أو موضوعًا، هذا أيضًا يسميه أهل الحديث حاطب ليل.

وهناك كلمة لوالدي رَحِمَهُ الله في حُطَّاب ليل، ذكر عددًا من حطاب ليل، منهم: السيوطي،وعبد العزيز السلمان، ومن الفرق التي عدَّها في حطاب ليل: جماعة التبليغ.

حاطب ليل كما كان يذكر لنا والدي رَحِمَهُ الله هو: الذي يخرج يحتطب في الليل يمد حبله، ويجمع الحطب، ثم يحملها وينصرف، وقد يجمع مع الحطب في ظلمة الليل أفعى معه فتلدغه، هذا أصل هذا المثل الذي يُضرب به للذي يحمل العلم فوق طاقته، والذي يحمل من العلم ما هبَّ ودب ولا يتحرى الأحاديث الصحيحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاجتهاد في الطلب

قال النووي رَحِمَهُ الله: (وَيَنبَغِي أَن يَأخُذَ نَفسَهُ بِالاجتِهَادِ فِي التَّحصِيلِ فِي وَقتِ الفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ وَقُوَّةِ البَدَنِ وَنَبَاهَةِ الخَاطِرِ وَقِلَّةِ الشَّاغِلَاتِ، قَبلَ عَوَارِضِ البِطَالَةِ وَاِرتِفَاعِ المَنزِلَةِ)

هذه نصائح ثمينة لطالب العلم أن يجتهد في التحصيل ولا يكسل أو يمل أو يؤثر الراحة، لاسيما عند وجود هذه النعم، وهذه الفُرص الثمينة.

قال السيوطي في «ألفية الحديث» في باب آداب طالب الحديث:

وَصَحِّحِ النِّيَّةَ ثُمَّ اسْتَعْمِلِ...مَكَارِمَ الأَخْلاقِ ثُمَّ حَصِّلِ

قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي رحمه الله شارح «الألفية» المسمَّاه «إسعاف ذوي الوَطَر بشرح نظم الدُّرَر في علم الأثر» (2/122): هذا إشارةً إلى أنه لا بدّ لطالب العلم من جِدٍّ واجتهاد، قال الله تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام لما أعطاه الألواح: ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ الآية. اهـ.

فينبغي لطالب العلم أن يحرص على استغلال فراغه، فالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» أخرجه البخاري (6412) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

والفراغ لن يدوم، فاليوم فراغ وغدًا شغل، والفراغ إذا لم يُشغل بالخير شغل بالباطل.

وينبغي للطالب أن يشغل نشاطه، ولا يضيعه في الأمور التافهة، يشغل نشاطه في الحفظ والدروس والاستفادة.والنشاط يكون تدفُقُه في وقت الصحة وفي سن الشباب.

وأيضا القوة لا تدوم سواءً قوة الحافظية، و التركيز، وجمع الفكر، وعدم تشتت الذهن، قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) ﴾ [الروم]. وكلما تقدم الإنسان في السن وشاخ جسمه فإنه يؤول به الأمر إلى الضعف والانحطاط. ومن كبِرَ يشعر هذا في نفسه، أنه في شبابه وقوته الحفظ عنده ميسَّر، ربما يقدر على حفظ صفحات من القرآن ومن الأحاديث، وبعد سنين قليلة تمر يجد الحافظية قد ضعفت عنده، ويجد البال عنده قد شُغل، وخاصة المرأة عندما تكون ذات مسؤولية: زوج، وبيت، وأولاد. فيتشوش ذهنُها، ويضعف حالُها.

فينبغي للطالب المبادرة قبل الضعف والشواغل، وقبل المسئولية والعوائق. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ» رواه مسلم (118) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

وكان والدي ينصح طلبة العلم، ويقول: اجتهدوا قبل أن تأتيكم الصوارف.

(قَبلَ عَوَارِضِ البِطَالَةِ) البِطَالة والبَطَالة: العَطَالَة من العمل، كما في «المعجم الوسيط» (ص90).

هناك بطالة وهي: أن يبقى الإنسان بغير عمل، ولا دراسة، ولا استفادة، وقته فارغ خالي من أيِّ عمل، يقضيه في النوم والسمر واللهو والقيل والقال. هذه البطالة مذمومة حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقولهنِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ».

وثبت عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: تَفَقَّهُوا قَبلَ أَن تَسُوَّدُوا. أخرجه أبو خيثمة في كتاب «العلم» (9 وغيره وعلقه البخاري.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البخاري: «وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ» ذكر هذا البخاري لئلا يفهم أحد أن من صار له شأن ورفعة أنه يترك طلب العلم، ومعنى هذا الأثر كما قال النووي هنا: (وَاجتَهِدُوا فِي كَمَالِ أَهلِيَتِكُم وَأَنتُم أَتبَاعٌ قَبلَ أَن تَصِيرُوا سَادَةً؛ فَإِنَّكُم إِذَا صِرتُم سَادَةً مَتبُوعِينَ امتَنَعتُم مِنَ التَّعَلُّمِ؛ لِارتِفَاعِ مَنزِلَتِكُم وَكَثرَةِ شُغلِكُم).

فالناس يقبلون على من عرفوا عنه الخير والعلم، فهذا يأتي يسأل، وهذا يستفسر، وهذا عنده مشكلة، وهذا عنده استشارة.. إلى غير ذلك، فيصير الشيخ مشغولًا بحوائج الناس، والله أعلم.

فهذه نصائح مهمة لطالب العلم عدم التفريط في الفُرَصِ من الفراغ والنشاط والقوة، وقلة الشاغلات، والله المستعان.

وما كل الناس تجتمع له هذه النعم وهذه الفُرَصُ، قال الإمام ابن الجوزي في «كشف المشكل»(2/437): اعْلَم أَنه قد يكون الْإِنْسَان صَحِيحًا وَلَا يكون متفرغًا لِلْعِبَادَةِ لاشتغاله بِأَسْبَاب المعاش، وَقد يكون متفرغًا من الأشغال وَلَا يكون صَحِيحًا، فَإِذا اجْتمعَا للْعَبد ثمَّ غلب عَلَيْهِ الكسل عَن نيل الْفَضَائِل فَذَاك الْغبن كَيفَ وَالدُّنْيَا سوق الرباح، والعمر أقصر، والعوائق أَكثر. اهـ.