جديد المدونة

جديد الرسائل

الخميس، 2 يوليو 2020

(70)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ

دروسٌ في الحج من[سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 27]

وبعد:فهذا الدرس الأول في دراسة آيات الحج من سورة الحج

وسبحان من يسيِّر الأمور وييسرها،فقد وفقنا ربنا سبحانه لذلك من غير اختيارٍ لنا في ذلك ولا عمد،فلله الحمد والمنة.

وهو الدرس الثاني عشر من دروسنا في تفسير سورة الحج.

يقول تعالى:﴿وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)﴾.

﴿وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ﴾ قال ابن كثير: أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَسَلَّمَهُ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ.

﴿مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ البيت: الكعبة وهو البيت الحرام، كما قال:﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾وهو المسجد الحرام.

﴿أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً﴾قال ابن كثير:أَيِ ابْنِهِ عَلَى اسْمِي وَحْدِي.

﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ قال قتادة ومجاهد: مِنَ الشِّرْكِ.

وهذا تفسيرٌ خاص فتطهير البيت  أعم قال الشنقيطي في «أضواء البيان» (4 / 297 ):التَّطْهِيرُ هُنَا يَشْمَلُ التَّطْهِيرَ الْمَعْنَوِيَّ وَالْحِسِّيَّ، فَيُطَهِّرُهُ الطَّهَارَةَ الْحِسِّيَّةَ مِنَ الْأَقْذَارِ، وَالْمَعْنَوِيَّةَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي؛ وَلِذَا قَالَ ﴿لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾  وَكَانَتْ قَبِيلَةُ جُرْهُمَ تَضَعُ عِنْدَهُ الْأَصْنَامَ تَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ .

وللشيخ ابن باز رحمه الله كلام جميل في بيان المراد بتطهير البيت في «مجموع الفتاوى» (16/ 164).

﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ الطواف بالبيت معروف.

﴿ وَالْقائِمِينَ ﴾ فيه قولان للمفسرين:

أحدهما: القائمون في الصلاة، قاله عطاء، والجمهور.

 والثاني: المقيمون بمكة، حكي عن قتادة. كما في «زاد المسير لابن الجوزي»(3 / 232).

من فوائد هذه الآية الكريمة:

·   استدل بهذه الآية من قال: إن إبراهيم عليه السلام أول من بنى البيت الحرام، وكما قال سبحانه ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) ﴾،ولكن في بعض الآيات ما يدل على أن البيت قد كان موجودًا،وذلك لما خرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام وترك هاجر وولدها إسماعيل عند البيت، وقال عند انصرافه:﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) ﴾[إبراهيم : 37]

قال الشنقيطي في «أضواء البيان» (4 / 296):ظَاهِرُ قَوْلِهِ حِينَ تَرَكَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ فِي مَكَّةَ ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا وَانْدَرَسَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هنا:﴿مَكَانَ الْبَيْتِ﴾، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مَكَانًا سَابِقًا، كَانَ مَعْرُوفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.


·   فضل البيت الحرام فقد أضافه الله سبحانه إلى نفسه إعظامًا له وتشريفًا فالبيت له حرمته العظيمة في الإسلام، وقد كان عبد الله بْن عُمَرَ يقول: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ» رواه الترمذي(2032).

·   تهيئة البيت للمتعبِّدين فيه وبيان أن البيت الحرام مكان عبادة وتقوى وتوحيد،فليس مكانًا للشركيات والإلحاد والبدع،ولا للفسوق والعصيان.

·   وجوب تطهير البيت من النجاسات والأقذار والشركيات والمعاصي والأذى، وهكذا سائر المساجد يجب أن تصان وأن يُعتنى بتنظيفها قال الله تعالى:﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)﴾[النور].

وهل يدخل في هذا تطهير  البيت من الذين يصورون؟

قال الشنقيطي في «أضواء البيان» (4/ 298): وَلَا شَكَّ أَنَّ دُخُولَ الْمُصَوِّرِينَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَوْلَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِآلَاتِ التَّصْوِيرِ يُصَوِّرُونَ بِهَا الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - أَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَطْهِيرِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، فَانْتِهَاكُ حُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ حُرْمَةِ التَّصْوِيرِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ تَصْوِيرَ الْإِنْسَانِ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ، وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ التَّصْوِيرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ارْتِكَابَ أَيِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي يَلْزَمُ تَطْهِيرُ بَيْتِ اللَّهِ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ مَا يَقَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُخِلِّ بِالدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ لَا يَجُوزُ إِقْرَارُ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا تَرْكُهُ. اهـ.

وهذا أمر عمت به البلوى فتفشى بين الناس  بسبب بعض الأقوال والفتاوى، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك رَحِمَهُ الله. وما أكثر التصوير عند بيت الله الحرام  يصور نفسه وأولاده ومن حوله للذكرى، والأدلة عامة في تحريم تصوير ذوات الأرواح حتى التصوير بالفيديو لا يجوز، لأنه بنفس آلة التصوير التي يصور بها الصور الثابتة التي تحفظ،والصور التي بالفيديو لو أريد حفظها لحُفظت فالمعنى واحد، نسأل الله أن يصلح الأحوال.

ما يكاد الإنسان يستطيع أن يغير شيئًا في هذا إلا ما رحم ربي، لأن الناس يتأثرون بغيرهم ، ولا يزنون الأقوال والأفعال بالأدلة، كما أمر الله تعالى بذلك:﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)﴾ [الأعراف:3].

·   مشروعية الطواف بالبيت ولو في غير حج وعمرة،وهذا بخلاف الطواف بين الصفا والمروة فإنه لا يكون إلا في حج وعمرة ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)﴾[البقرة : 158]،وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في «شرح العمدة» (3/658).

·   أن الطواف يكون بالبيت فحسب، فلا يجوز الطواف بالقبور ولا بغيرها. 

·   استدل بعض الشافعية بهذه الآية أن الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة، لأنه قدم الطائف بالذكر، وقال بعض العلماء:الصلاة أفضل للمقيمين بمكة والطواف أفضل للغرباء انتهازًا لفرصة وجودهم بمكة.

قال الشيخ ابن باز في «مجموع الفتاوى» (16/ 138): في التفضيل بين كثرة النافلة وكثرة الطواف خلاف، والأرجح أن يكثر من هذا وهذا لو كان غريبا. وذهب بعض أهل العلم إلى التفصيل فاستحبوا الإكثار من الطواف في حق الغريب ومن الصلاة في حق غيره، والأمر في ذلك واسع ولله الحمد. اهـ.

·   استدل بالآية من قال يجب الطهارة للطواف سواء من حدث أكبر أو أصغر  بدلالة اقتران التطهير بالصلاة، والصلاة يجب الطهارة لها، فكذلك يجب الطهارة في الطواف.

أما الطهارة من الحدث الأكبر فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قال لعائشة لما حاضت: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» متفق عليه البخاري (305)، ومسلم  (1211) فهذا دليل على أن الطهارة من الحدث الأكبر واجبة،بل شرط في صحة الطواف، فالحائض لا تطوف حتى تطهر، وكذلك الجنب لا يطوف حتى يطَّهَّر. وأما الطهارة الصغرى فهذا على سبيل الاستحباب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة توضأ قبل أن يدخل البيت. وهذا دليل على الاستحباب.

·   استدل بالآية من قال تمنع الحائض من دخول المسجد ولكن  حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»دليل على الجواز ،إذ لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تمكثي في المسجد أو تدخلي المسجد. فالحديث يدل على الجواز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله سبحانه:﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾

﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ قال ابن كثير:أي: ناد في الناس بالحج، دَاعِيًا لَهُمُ إِلَى الْحَجِّ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ.

﴿يَأْتُوكَ رِجالًا﴾ قال: ابن الجوزي في «زاد المسير» (3 / 233):واحد الرجال هاهنا:راجل، مثل:صاحب، وصحاب، والمعنى: يأتوك مشاةً.

﴿وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ أي: ركبانًا. وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ الْمَهْزُولُ الَّذِي أَتْعَبَهُ السَّفَرُ، كما في «تفسير القرطبي» (12 / 39).

﴿يَأْتِينَ﴾ أنث الضمير لأنه يعود إلى الإبل، قال القرطبي رَحِمَهُ الله في «تفسيره»: وَرَدَّ لضَّمِيرَ إِلَى الْإِبِلِ تَكْرِمَةً لَهَا لِقَصْدِهَا الْحَجَّ مَعَ أربابها، كما قال:﴿وَالْعادِياتِ ضَبْحًا﴾[العاديات: 1] فِي خَيْلِ الْجِهَادِ تَكْرِمَةً لَهَا حِينَ سَعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. اهـ.

﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ﴾ قال ابن كثير: يَعْنِي طَرِيقٍ.

﴿عَمِيقٍ﴾ أَيْ بَعِيد.

من فوائد هذه الآية الكريمة:

·    استُدل بهذه الآية أن الحج ماشيا أفضل من الحج راكبًا قال ابن كثير: قَدْ يَسْتِدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا، لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقُوَّةِ هممهم وشدة عزمهم.

قال: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.اهـ

وهذا فيه أيضًا تيسير على النفس.

·   وفيه دليل على شوق النفوس وحنينها إلى الإتيان إلى الكعبة المعظَّمة قال الحافظ ابن كثير : وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالَ فِي دُعَائِهِ:﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾[إِبْرَاهِيمَ: 37] فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ يَحِنُّ إِلَى رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ وَالطَّوَافِ، فَالنَّاسُ يَقْصِدُونَهَا مِنْ سائر الجهات والأقطار.

·   أن من أدب الزيارة تنظيف المنزل قبل مجيء الزائر، لأن الله أمر نبيه إبراهيم بتطهير البيت ونظافته ثم بعد ذلك أمره أن ينادي الناس بالمجيء إليه. وقد ذكر معنى هذا الاستنباط ابن عاشور في «تفسيره».