جديد الرسائل

السبت، 18 أبريل 2020

(84)سِلْسِلَةُ التَّفْسِيْرِ




الدرس العاشر من دروس تفسير [سورة الحج (22):الآيات 19  إلى 22]

﴿هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ﴾ الآيات

﴿هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ قال ابن الجوزي في «زاد المسير» (3 / 228):«خصمان» معناه:جمعان وليسا برجلين، ولهذا قال تعالى:﴿اخْتَصَمُوا﴾ ولم يقل:اختصما. اهـ.

ثبت في الصحيحين عَنِ أَبِي ذَرٍّ؛ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ:﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وصاحِبَيه، وعتبةَ وَصَاحِبَيْهِ، يَوْمَ بَرَزُوا فِي بَدْرٍ.

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ:أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ قَيْسٌ:وَفِيهِمْ نَزَلَتْ:﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾، قَالَ:هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ:عليّ وحمزة وعبيدة، وشيبة بن رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخصومهم: شيبة وعتبة ابنا ربيعة ،هذان أخوان، والوليد بن عتبة بن ربيعة. هذه الآية نزلت في هؤلاء.

 وهناك أقوال للمفسرين أخرى:

 أنهم المسلمون وأهل الكتاب. هذا قول قتادة وكذا رواه العوفي -عطية بن سعد وهو ضعيف- عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ومنهم من قال:هي الجنة والنار وهذا قول عكرمة.

ومنهم من قال:الكافرون والمؤمنون وهذا قول مجاهد و عطاء.واختاره ابن جرير واستحسنه ابن كثير قال:وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ:إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَيَنْتَظِمُ فِيهِ – أي:يدخل فيه-قِصَّةُ يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرُهَا.

فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُونَ نُصْرَةَ دِينِ اللَّهِ، وَالْكَافِرُونَ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِيمَانِ وخذلانَ الْحَقِّ وَظُهُورَ الْبَاطِلِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ حَسَن؛ وَلِهَذَا قَالَ:﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾. اهـ.

يعني:سياق  الآية يدل على  العموم.

﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ﴾ أَيْ:فُصِّلَتْ لَهُمْ مُقَطَّعَاتٌ مِنْ نَارٍ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:مِنْ نُحَاسٍ وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرَارَةً إِذَا حَمِيَ.(تفسير ابن كثير).

وهذا كما قال الله:﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)﴾ [ إبراهيم] والقطران:هو النحاس المذاب.

﴿ ثِيابٌ ﴾ أي:قمص.

﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾قال ابن كثير: أَيْ:إِذَا صُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، أَذَابَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشَّحْمِ وَالْأَمْعَاءِ.

﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾  قال ابن كثير:وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ.

﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ أي:يذاب به. قال ابن جرير (18 / 592):الصَّهر:هو الإذابة، يقال منه:صهرت الألية بالنار:إذا أذبتها. اهـ.

وهل جلودهم تذاب كما يذاب ما في البطون؟

 قال ابن كثير:وَكَذَلِكَ تَذُوبُ جُلُودُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٌ:تَسَاقَطَ.اهـ

 وقال بعض المفسرين:الجلود لا تذاب وفي الآية تقدير تُشوى وتُحرَق. قال الشوكاني في «فتح القدير» (3 / 525):وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مُلْجِئَ لِهَذَا، فَإِنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ يُذِيبُ مَا فِي الْبُطُونِ فَإِذَابَتُهُ لِلْجِلْدِ الظَّاهِرِ بِالْأَوْلَى.

﴿وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ سِيَاطٌ مِنْ حَدِيدٍ وَاحِدَتُهَا مِقْمَعَة.كما في تفسير «البغوي»(3 / 331).

﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا﴾ أي:لأجل غم.

جاء أثر عن الفُضيل بْنِ عِيَاضٍ:وَاللَّهِ مَا طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ، إِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَلَكِنْ يَرْفَعُهُمْ لَهَبُهَا، وَتَرُدُّهُمْ مَقَامِعُهَا.

﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ وَمَعْنَى الْكَلَامِ:أَنَّهُمْ يُهَانُونَ بِالْعَذَابِ قَوْلًا وَفِعْلًا.(تفسير ابن كثير).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من فوائد هذه الآيات المباركات:

·      إهانة  أعداء الله الكافرين، وما أعد الله  لهم من العذاب المهين.

·       أن كسوة الكفار من النار، فثيابهم قد فصلت لهم من نار، وهذا يفيد أن النار محيطة بالكافرين وشاملة لهم من جميع جوانبهم، والله على كل شيء قدير. وقد جاء والله أعلم عن إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان إذا تلا هذه الآية يقول:سبحان مَن خلق مِن النار ثيابًا.

وهذه الثياب من نحاس كما قال سعيد بن جبير:(من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي) وهذا لا يزيد أهل النار الا حرارة وألَمًا واشتعالًا فالنار تسرع في حريق أجسامهم وعذابهم وصدق الله  إذ يقول:﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) ﴾ [الحجر:50] وقد يذوق لباس العذاب من شاء الله من ذوي الكبائر كالنائحة:وهي التي تنوح على الميت، روى الإمام مسلم (934) عن أَبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ:الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ » وَقَالَ:«النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ».

ومثل المسبل إزاره، كما روى البخاري (5787) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ».

·      صب الحميم من فوق رؤوس الكفار وإذابة ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء وذلك لشدة حرارة الماء﴿ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾[محمد].

·      ظاهر الآية أن جلودهم تذاب كما يذاب ما في بطونهم، ولكن كلما نضجت أعيدت مرة أخرى قال الله:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[النساء:56]

·      أن أهل النار كلما أرادوا الهروب من النار يُدفعون فيها بمقامع من حديد.

·      ما يصاب به أهل النار من الغم الشديد والحزن والكرب غم دائم ملازم وعذاب مستمر،﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)﴾[الفرقان].

·      عاقبة الكفار السيئة وما هم فيه من الحريق المؤلم والعذاب والخزي والنكال فما أشد عذاب النار وما أكثر حسرات أهل النار﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة:167].

·      وفيه دليل على خلود الكفار في النار ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾[المائدة:37].

و يجب على كل مؤمن أن يخاف من النار وأن يحذر على نفسه منها باتقاء الشرك والابتعاد عن المعاصي فالنار قريبة والجنة قريبة كما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» رواه البخاري (6488)عَنْ ابن مسعود رضي الله عنه. أعاذنا الله وإياكم من النار.