الدرس
الرابع
قال أبو
محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المشهور بابن قدامة:
ولا يفطر إلا بشهادة عدلين ،ولا يفطر إذا رآه وحده.
وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما أفطروا
وإن كان بغيم أو قولِ واحد لم
يفطروا إلا أن يروه أو يكملوا العدة.
وإذا اشتبهت الأشهرُ على الأسير تحرى وصام،فإن وافق الشهر أو ما بعده
أجزأه ،وإن وافق قبله لم يجْزه.
الشرح
هذه جُمَلٌ
من المسائل:
الأولى:ولا
يفطر إلا بشهادة عدلين.
أي:أن
دخول شهر شوال لا يثبت إلا بشهادة اثنين عدلين.
وهذا قول
جمهور أهل العلم،ونقل الترمذي رحمه الله تعالى في «سننه» (691)عدم الخلاف في
ذلك.والواقع فيه اختلاف،كما سيأتي.
ومن أدلة
هذا القول:عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ , قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ،
فَقَدِمَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِاللَّهِ لَأَهَلَّا الْهِلَالَ أَمْسِ عَشِيَّةً، «فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا»رواه أبو داود(2202)وسنده
صحيح.
وقد أجاب
الشوكاني في«نيل الأوطار»:عن هذا الاستدلال وقال: قَدْ اسْتُدِلَّ بهذا الحديث
عَلَى اعْتِبَارِ شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ فِي الْإِفْطَارِ، وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ
مُجَرَّدَ قَبُولِ شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ فِي وَاقِعَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ
قَبُولِ الْوَاحِدِ. اهـ.
وذهب بعض
أهل العلم كأبي ثور، وابن حزم في «المحلى» مسألة(757)، وابن المنذر، والشوكاني في «نيل
الأوطار» إلى قبول شهادة الواحد العدل في دخول هلال شوال،واستدلوا بأدلة،منها:
-عن ابن
عمر«تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ».
قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (4/ 222): وَإِذَا
لَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ فِي شَهَادَةِ
الْإِفْطَارِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ
وَاحِدٌ،قِيَاسًا عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ فِي الصَّوْمِ.
-عَنْ عبد
الله بن عمر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«إِنَّ
بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ»رواه البخاري (617)،ومسلم (1092).
الشاهد
من الحديث:أنه كما يُقبل خبرُ الواحد –وهو الأذان-في طلوع الفجر وغروب الشمس
ويعتمد الناس عليه في الصيام والإفطار فكذلك يكون في دخول الشهر وخروجه.
قال ابن رشد في «بداية المجتهد»(2/50):قَدِ
احْتَجَّ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ
الْفِطْرِ وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي دُخُولِ الشَّهْرِ وَخُرُوجِهِ، إِذْ كِلَاهُمَا عَلَامَةٌ
تَفْصِلُ زَمَانَ الْفِطْرِ مِنْ زَمَانِ الصَّوْمِ.اهـ
-صحة خبر الواحد العدل في أمورٍ كثيرة.وقد ذكر
ذلك الشوكاني في «نيل الأوطار» (4/ 222)،وقال:التَّعَبُّدُ
بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ،إلَّا
مَا وَرَدَ الدَّلِيلُ بِتَخْصِيصِهِ بِعَدَمِ التَّعَبُّدِ فِيهِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا،فَالظَّاهِرُ مَا
قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ.اهـ
والصحيح
في هذه المسألة القول الثاني لقوة دليله،وإن كان الجمهور على خلافه،ولكن الميزان
في معرفة الصواب الدليل.
قوله رحمه الله:ولا يفطر إذا رآه وحده
أي: من
شهِد أنه رأى هلال شوال وحده فلا يفطر برؤيته.
وهذا على
القول بأنه يشترط اثنان في رؤية هلال شوال.
وقد تقدم
في المسألة التي قبل هذه أن هذا ليس بلازم،لكن لا يفطر وحده دون جماعة الناس لِما
تقدم في الدرس الثالث:أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«الصَّوْمُ
يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ
تُضَحُّونَ».والله أعلم.
قوله رحمه الله:وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما أفطروا ،وإن كان
بغيم أو قولِ واحد لم يفطروا إلا أن يروه أو يكملوا العدة.
هذه ثلاث
مسائل:
الأولى:إذا
صام الناس بشهادة اثنين ثلاثين يومًا،فعليهم أن يفطروا حتى لو لم يروا الهلال.
الثانية:
إذا صاموا لوجود غيم فلا يفطرون إلا أن يروا الهلال أو يكملوا العدَّة ،وهذا على
المذهب الحنبلي أنه يصام يوم الغيم على أنه من رمضان احتياطًا،ولكن الصحيح ما تقدم،أن
يوم الغيم لا يُصام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ.
ولهذا
الشيخ ابن عثيمين في «الشرح الممتع»(6/318)يتعقَّب هذا القول الذي يذكره
الحنابلة،ويقول:على القول الصحيح لا ترد هذه المسألة، لأنه لن يصام لأجل غيم، فهذه
المسألة إنما ترد على قول من يلزمهم بالصيام لأجل الغيم.
الثالثة:
إذا صاموا بشهادة واحدٍ ثلاثين يوما ولم يُرَ الهلال بعد الثلاثين فإنهم لا يفطرون،بل
يصومون الحادي والثلاثين.
ودليل
هذا القول:أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:«فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ
مُسْلِمَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا»رواه أحمد(31/191)والحديث ثابت.
وقد ذهب
إلى هذا القول الشافعي في رواية عنه.
وذهب
الشافعي في قولٍ له وهو الصحيح عند جمهور الشافعية،كما في «المجموع»(6/278)أننا
إذا صمنا بشهادة واحدٍ وأكملنا العدَّة ثلاثين فعلينا أن نفطر ولو لم يُرَ الهلال بعد الثلاثين.
[لأن الفطر تابع للصوم
ومبني عليه، والصوم ثبت بدليل شرعي وقد صاموا ثلاثين يومًا، ولا يمكن أن يزيد
الشهر على ثلاثين يومًا، أو يقال يلزمهم الفطر تبعًا للصوم، لأنه يثبت تبعًا ما لا
يثبت استقلالًا.
قال
الشيخ ابن عثيمين:هذا القول هو الصحيح.]ما بين المعكوفين من الشرح الممتع6/317.
قوله رحمه الله:وإذا اشتبهت الأشهرُ على الأسير تحرى وصام،فإن وافق
الشهر أو ما بعده أجزأه ،وإن وافق قبله لم يجْزه.
الأسير:كأَمِير
هُوَ بِمَعْنى المَأْسُورِ، وَهُوَ المَرْبُوطُ.كما في تاج العروس.
هذه
المسألة في الأسير الذي لا يدري بدخول الأشهر،وقرَّرَ هنا ابنُ قدامة أنه يتحرى
شهر رمضان،فإن وافق شهر رمضان أو ما بعده كشهر شوال أجزأه،وإن وافق ما قبله كشهر
شعبان لا يجزئُه.والله أعلم.